عقبات التطبيع الكامل بين واشنطن وطرابلس
على عكس ما أعلنه محمد بلقاسم الزوي، السفير الليبي في لندن، الذي أكد أخيرا أنه لم تعد هناك خلافات بين بلاده والولايات المتحدة، وأن طرابلس "طوت صفحة النزاعات وبدأت تُطور علاقاتها مع واشنطن بشكل كبير"..
.. مازالت هناك عقبات تؤخر الانتقال إلى التطبيع الكامل، واستطرادا إلى التعاطي مع ليبيا بوصفها دولة صديقة في المنطقة.
على عكس ما أعلنه محمد بلقاسم الزوي، السفير الليبي في لندن، الذي أكد أخيرا أنه لم تعد هناك خلافات بين بلاده والولايات المتحدة، وأن طرابلس “طوت صفحة النزاعات وبدأت تُطور علاقاتها مع واشنطن بشكل كبير”، مازالت هناك عقبات تؤخر الانتقال إلى التطبيع الكامل، واستطرادا إلى التعاطي مع ليبيا بوصفها دولة صديقة في المنطقة.
ولعل الزوي لم يشعر بالتناقض الذي انطوى عليه كلامه، إذ كشف في التصريحات نفسها، التي أدلى بها لوكالة الأنباء الفرنسية، أن وفدين من المحامين الأمريكيين والليبيين سيلتقيان في النصف الأول من الشهر الجاري “لحل جميع المشاكل العالقة عبر الحوار”، ووعد بالتعامل مع الأمريكيين “بكل حكمة ومن دون وساطات، مع استعداد ليبيا للإلتزام بكل ما سيتم الإتفاق عليه”، على حد تعبيره. لكن لم يتسن معرفة ما إذا كان الوفدان اجتمعا أم لا.
ومن أهم المؤشرات على تعثّـر التطبيع، مصادقة مجلس النواب الأمريكي يوم 30 يونيو الماضي على إدخال تعديل على موازنة وزارة الخارجية لعام 2007 يحول دون تخصيص الإدارة أي اعتمادات تتعلق بتطبيع العلاقات مع ليبيا.
وكان الهدف من الخطوة التي تمّـت بمبادرة من النائب الجمهوري جون سويناي، عرقلة فتح سفارة في طرابلس، طالما لم يُستكمل دفع التعويضات لضحايا الطائرة الأمريكية التي تفجّـرت في سماء “لوكربي” عام 1988.
وكانت الحكومة الليبية اعترفت بمسؤوليتها المعنوية عن الحادثة في رسالة وجّـهتها إلى الأمم المتحدة عام 2003، وانطلقت بناء عليها مفاوضات مع الأمريكيين والبريطانيين لدفع تعويضات للضحايا بواقع 10 ملايين دولار لكل أسرة، أي ما مجموعه 2.7 بليوني دولار، وكانت ليبيا صرفت 8 ملايين دولار لكل أسرة على دفعات، ومازالت الدفعة الأخيرة فقط مُستحقة، وهي بقيمة 2 مليوني دولار.
وفي هذا السياق، تقرر الاجتماع الذي أشار إليه الزوي بين وفدين من المحامين خلال الشهر الجاري لتذليل تلك العقبات. ويمكن القول أن الإفراط في التفاؤل لم يأت من الزوي فحسب، وإنما من جانب وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس أيضا، التي أكّـدت لدى إعلانها عن التطبيع الكامل مع ليبيا في 15 مايو الماضي، أن السفارة الأمريكية في طرابلس “ستُعيد فتح أبوابها في وقت وشيك”.
والنتيجة أن اليزابيت سريتشلي، رئيسة الشؤون السياسية والإقتصادية في مكتب الإرتباط الأمريكي بطرابلس، ستبقى مؤقتا قائمة مقام السفيرة حتى تنجلي الصورة. أما في الجانب الليبي، فتتداول بورصة الترشيحات اسمين بارزين لتولي منصب سفير ليبيا لدى واشنطن، وهما محمد سيالة، رئيس المؤسسة الليبية للاستثمار سابقا، وسعد مجبر، السفير السابق في باريس، وطبعا، سيَـحسم القرار العقيد معمر القذافي، وليس وزير الخارجية عبد الرحمان شلقم.
خمس عقبات
ويمكن إجمال العقبات التي تُعطَل التطبيع الكامل للعلاقات من الجانب الأمريكي بخمسة. فليبيا مازالت تفكّـر وتخطط للحصول على الطاقة النووية، ووقعت أخيرا على اتفاق مع فرنسا في هذا المعنى، يرمي لتزويدها بمفاعل يُستخدم للأغراض المدنية، إلا أنه يثير مخاوف لدى واشنطن، على رغم التطمينات الليبية والفرنسية. كذلك تتوجس واشنطن خيفة من خطط التسلح الليبية، والتي تجلت خلال الزيارة التي أداها لباريس العقيد الساعدي القذافي، النجل الأوسط للزعيم الليبي وقائد القوات الخاصة. وطلب الساعدي مقابلة وزيرة الدفاع الفرنسية ميشيل أليو ماري، لبحث تحديث طائرات “ميراج” التي اشترتها ليبيا في السبعينات، لكنه لم يُقابل سوى رئيس الأركان الفرنسي هنري بنتوجا.
وفي هذا السياق أيضا، وقّـع كيم هولز، وزير الدولة البريطاني للشؤون الخارجية مع أمين الشؤون الأوروبية في الخارجية الليبية عبد العاطي العبيدي اتفاقا في أواخر يونيو الماضي، تعهّـدت بريطانيا بموجبه بتعزيز الدفاعات الليبية وتحريك مجلس الأمن، إذا ما تعرضت ليبيا لهجوم بيولوجي أو كيمياوي. وقال هولز معلقا على الاتفاق “هذه الخطوة تبرز تقدير بريطانيا للمبادرة الجريئة والشجاعة التي اتخذتها ليبيا بالتخلي الطوعي عن إنتاج الأسلحة المحظورة دوليا”. ورأى المراقبون أن الاتفاق يؤكّـد التحولات الكبرى التي شهدتها ليبيا بصفتها صديقا جديدا، تتكفّـل أوروبا بمساعدته بعدما كانت تضعه على لائحة داعمي الإرهاب وتفرض عليه حصارا شاملا.
وبدا التوجس الأمريكي ظاهرا أكثر، عندما عاد الروس لليبيا بقوة من خلال زيارة رئيس اتحاد النفط والغاز الروسي يوري سفرانيك لليبيا، حيث رعى إنشاء مجلس أعمال ليبي – روسي. وأكد سفرانيك، الذي كان مرفوقا بممثلي شركات رئيسية عزم الروس على تطوير أنشطتهم الاقتصادية في ليبيا.
وفي الإطار نفسه، اعترضت الولايات المتحدة في مارس الماضي على صفقة كانت إسبانيا ستبيع بموجبها أسلحة لليبيا بقيمة 24 مليون يورو، بينها خاصة مروحيات من طراز “شينوك”. كما اعترضت واشنطن في الفترة نفسها على صفقة توصلت لها الحكومة الليبية مع شركة “إندرا” الإسبانية بقيمة 48 مليون يورو، وتعهدت الأخيرة بموجبها تحديث وسائل مراقبة حركة الطيران المدني في ليبيا. وكانت النتيجة أن الوفد العسكري الليبي، الذي كان مقررا أن يحل بمدريد يوم 9 مارس الماضي، أرجأ زيارته إلى وقت غير مسمى.
صحيح أن ليبيا كانت لا تزال على لائحة البلدان الداعمة للإرهاب في ذلك الوقت، إلا أن قوة الاعتراض الأمريكي دلَّـت على حجم التوجّـس من نوايا النظام الليبي وقلة الارتياح لرسائل الاعتدال التي أرسلها للغرب.
لوكربي والبلغاريات
وربط المراقبون أيضا تعذر استكمال التطبيع الأمريكي – الليبي بتأخّـر طرابلس عن دفع القسط الأخير من التعويضات في قضية “لوكربي”، وكذلك المنعطف المثير في قضية تفجير الطائرة التابعة لشركة “يو تي آي” الفرنسية فوق صحراء النيجر في سبتمبر 1989، إذ استأنفت ليبيا يوم 7 مارس الحكم الذي أصدرته المحكمة يوم 7 ديسمبر 2005، والذي أدان غيابيا ستة من عناصر المخابرات الليبية، وأقر تعويضات مالية للضحايا. وبعدما تعهّـدت ليبيا منذ يناير 2004 دفع تعويضات لجميع أسر الضحايا من دون استثناء (وهم أساسا من الفرنسيين والأفارقة)، بدا اللجوء للاستئناف تراجعا عن تلك التعهدات، إذ كانت الأسر تتوقع مصادقة آلية من طرابلس على قرار المحكمة.
أما الملف الشائك الرابع الذي يؤخر التطبيع، فهو قضية الممرضات البلغاريات الموقوفات منذ عام 1999، واللائي استأنفت محكمة بنغازي مؤخرا النظر في قضيتهن بعدما حُكم عليهن بالإعدام عام 2004 بتهمة حقن الإيدز لأطفال ليبيين في مستشفى بنغازي. ونتيجة لكل هذه الغيوم، التي تلبّـدت في سماء العلاقات الليبية – الأمريكية، أُرجئت زيارات كانت مرتقبة من الجانبين.
وكان العقيد معمر القذافي وجّـه دعوتين لكل من جورج وولكر بوش، ووزيرة خارجيته رايس عبر وفد مجلس الشيوخ الأمريكي، الذي زار طرابلس في وقت سابق من العام الجاري، بقيادة رئيس لجنة العلاقات الخارجية في المجلس ريتشارد لوغار (جمهوري). ولئن بدت الاستجابة للدعوتين صعبة في المستوى الراهن الذي بلغته المصالحة، فإن زيارة سيف الإسلام، النجل الأكبر للعقيد معمر القذافي إلى الولايات المتحدة كانت مُبرمجة ومتوقعة في كل لحظة، لكنها لم تتم حتى الآن.
مع ذلك، يشعر الأمريكيون بنوع من الرضا النسبي على جوانب أخرى من علاقاتهم مع ليبيا، وخاصة مسار الانفتاح الاقتصادي. فالليبيون لا يخفون سعيهم لاستقطاب الشركات الأمريكية الكبيرة باعتماد الإصلاحات واختيار اقتصاد السوق، والهدف من تشجيع الليبيين على المضي في مسار الإصلاح الاقتصادي مزدوج، إذ يتمثل أولا في جعل أمريكا شريكا اقتصاديا مهما، واستطرادا حليفا سياسيا بإقامة علاقات مميزة معها، وثانيا، إدماجها في السياسة الإقليمية الأمريكية على نحو يحقق لواشنطن تسديد ضربة قوية للنفوذ الأوروبي، وخاصة الفرنسي في المنطقة المغاربية وإفريقيا.
وهناك محور أساسي آخر ينبني عليه هذا التقارب، ويتمثل في المشاركة الليبية الفعالة في الحرب على الإرهاب، والذي وصل إلى حد الالتزام بقطع المساعدات على الفصائل الفلسطينية منذ سنوات، بالإضافة لمقاطعة الحكومة التي شكلتها حركة “حماس”، حرصا على عدم إغضاب الأمريكيين، ويذهب بعض المحللين إلى القول بأن ليبيا باتت تتصرف مثل الجزائر أملا بالتحول إلى حليف إقليمي لواشنطن.
انفتاح سياسي؟
ولوحظ أن أمريكا لم تكن غير مبالية إزاء تلك الرسائل الليبية، فهي تحرص من جانبها على عدم إثارة ملف حقوق الإنسان الذي تُحرَكه دوما إزاء البلدان المتمردة على “نصائحها”. وكان هذا الملف مطروحا، وإن بكثير من الخفر في بواكير المصالحة الليبية – الأمريكية، إذ وعد سيف الإسلام، الذي يحظى بسمعة جيدة لدى الأمريكيين، والذي يرأس “مؤسسة القذافي للجمعيات الخيرية” بالإفراج “قريبا” عن أكثر من 130 سجينا سياسيا من المقربين للإخوان المسلمين، والذين يقبع بعضهم في السجون منذ الثمانينات، لكنه لم يُعيّـن تاريخا محددا لذلك. كما دعا إلى سن قوانين وإجراءات تشجّـع على ظهور صحافة حرة وإذاعات مستقلة، وحرض الصحفيين على الإلقاء بالتعليمات عرض الحائط. كذلك، وعد سيف الإسلام برد البيوت والعقارات التي انتُـزعت من أصحابها، اعتمادا على منطق الثورة في مطلع السبعينات إلى أصحاب الحق، مما اعتبر تجاوبا مع الرغبات الأمريكية.
وأشاعت تلك المواقف آمالا بفتح باب التقارب مع المعارضة في الداخل والخارج، والتي سماها جناح في الحكومة الليبية “المصالحة الوطنية”، وتشمل تلك الإجراءات، الإفراج عن سجناء الرأي، والتعويض للمتضررين من “المحاكم الثورية”، إضافة لفتح قنوات الحوار مع المعارضة في الخارج وتشجيع رموزها على العودة إلى البلد. لكن الكلام الأمريكي عن الحريات وحقوق الإنسان في ليبيا، خفت تماما وغضت واشنطن الطرف عن هذه المسائل مركّـزة على الإستثمارات والمساومات السياسية.
وإجمالا يبدو استكمال فصول المصالحة الأمريكية – الليبية مؤجلا، ليس فقط لبقاء عدد من الأحجار على الطريق، وإنما بالأساس لأن مجلس النواب الأمريكي احتفظ بمفاتيح السيارة، واتخذ تدابير تحول دون تشغيل محركها قبل منتصف العام القادم … أو ربما أواخره.
رشيد خشانة – تونس
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.