عقد على أوسلو.. الحصاد المر
يتزامن إحياء الذكرى العاشرة لاتفاقيات أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية مع قرار إسرائيل التخلص من الرئيس ياسر عرفات.
وقد سجّـلت السنوات العشر الماضية إنتكاسة كبيرة لتطلّـعات الفلسطينيين نحو تكريس حقوقهم الوطنية في الحرية والاستقلال.
قبل عشر سنوات كاملة، وعشية التوصل إلى اتفاقيات أوسلو، وقف الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات منتقدا الذين عارضوا تلك الاتفاقيات ورأوا فيها تنازلا خطيرا عن الحقوق القومية الفلسطينية المشروعة، وبشر محدثيه بكل ثقة بأن هذه الاتفاقيات ستكون فاتحة خير على الشعب الفلسطيني، قائلا قولته الشهيرة آنذاك “لقد باتت دولتكم الفلسطينية المستقلة على مرمى حجر، والقدس، وإن كانوا يرونها بعيدة، فإني أراها قريبة قريبة تستعد للاستقلال والحرية”.
وبالطبع، فإن ما سيقوله اليوم عن أوسلو وما بعدها سيكون مختلفا تماما. فالسنوات العشر المنصرمة التي شهدت تطبيق تلك الاتفاقيات، وما وصل إليه الحال الفلسطيني، ومن ورائه الحال العربي، لا توفر فرصة للقول بأن الدولة الفلسطينية باتت بالفعل على مرمى حجر أو أن القدس تستعد للحرية الموعودة، بل ربما أصبح القول الحق أن كل شيء صار في مهب الريح، وأن الحقيقة الوحيدة المؤكدة هي زيادة معاناة الفلسطينيين، وأن تضحياتهم الجسيمة مازال أمامها طريق طويل جدا قبل الوصول إلى بر الحقوق المشروعة.
عرفات.. الشريك المحاصر
ومن ينظر إلى وضع عرفات نفسه وهو القائد الرمز لنضال الشعب الفلسطيني، ويقارن سريعا بين وضعه قبل أوسلو وفي سنواتها الأولى، وما آل إليه هذا الوضع خلال العامين الأخيرين تحديدا، يُـدرك حجم الحصيلة المُـرّة التي جناها الفلسطينيون تحت مظلة تلك الاتفاقيات.
فالرجل الذي كانت تُـفتح له الأبواب في عواصم العالم الكبرى وفى المؤسسات الدولية المختلفة، وكان يُـنظر إليه كشريك في بناء السلام الإقليمي والعالمي، وطالما فاوض الإسرائيليين على كل كبيرة وصغيرة، إذا به الآن حبيسا لمدة تزيد على 15 شهرا متواصلة في مبنى متهالك تحيط به دبابات الاحتلال لتذكره صباح مساء بأنه تحت سيطرتها الكاملة.
وفي الخلف، تصريحات كثيرة وملتهبة من مسؤولين إسرائيليين وأمريكيين كبار، تصف الرجل بأنه عقبة أمام السلام، وأنه لم يعد شريكا في التسوية، وأنه المسؤول الأول عن ما يدعونه الإرهاب الفلسطيني، وينتهون، لاسيما الإسرائيليون منهم، إلى خلاصة مفادها إقرار التخلص من الرجل سياسيا وعضويا معا، وهو ما صادقت عليه الحكومة الإسرائيلية.
ومقارنة سريعة بين حرية الحركة المفتوحة قبل أوسلو، والعزلة والحصار والتهديد الدائم بالاغتيال، كفيلة بأن تبرز شقا بارزا من حصيلة أوسلو المرة.
الشعب الفلسطيني.. تشويه الذاكرة الجماعية
وضع الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة ليس أحسن حالا من وضع رئيسه، بل ربما فاقه من حيث درجة المعاناة اليومية وفقدان الأمل في المستقبل.
والمفردات المُعاشة يوميا كفيلة بأن توضح حجم المعاناة. فهناك الاجتياح الإسرائيلي للأراضي والمدن الفلسطينية، والحصار والتجويع وإغلاق المدن وعزلها عن بعضها البعض، ومعاناة ومذلة نقاط التفتيش الإسرائيلية، وهدم المنازل وتجريف الأراضي المزروعة وتدميرها، وتصفية الكوادر واغتيال القادة السياسيين، وقصف الأحياء السكنية واعتقال الآلاف من الشباب الفلسطيني، واستمرار الاستيطان وبناء السور الفاصل، كلها مفردات تعبر في ذاتها عن الوضع المزري للشعب الفلسطيني بعد عشر سنوات من أوسلو.
والأكثر ترديا من كل هذا، وضع النضال الفلسطيني نفسه، إذ تحول من نضال ومقاومة مشروعة إلى إرهاب ممجوج، ناهيك عن محاولات إسرائيلية وأمريكية مستميتة لفرض معايير بديلة في الذاكرة الفلسطينية الجماعية، حيث تصبح المقاومة فعلا خائبا وانهزاميا، مردوده الوحيد التدمير والعقاب الجماعي، وأن التماهي مع الشروط الإسرائيلية والانصياع لها هو السبيل الوحيد للحصول على فتات الحقوق دون أفق مضمون لدولة مستقلة قابلة للحياة والبقاء.
المؤسسات الفلسطينية نفسها، تبدو بعد 10 سنوات من أوسلو وهي تواجه أكبر محنة في تاريخها، يتساوى في ذلك ما نشأ قبل أوسلو، كمنظمة التحرير الفلسطينية التي حملت عبء النضال الفلسطيني لعقود طويلة، أو ما نشأ في ظل أوسلو وتطبيقا لها كالسلطة الوطنية الفلسطينية، وما تلاها من استحداث الحكومة الفلسطينية مطلع العام الجاري تطبيقا لخريطة الطريق.
وفي كل هذه المؤسسات وجه من أوجه القصور، والأهم هناك تداخل شديد في الصلاحيات والاختصاصات والأدوار، ومع نشوء مصالح شخصية بارزة، بل وشلل وجماعات نافذة تستند كل منها لمصدر خارجي من مصادر القوة. ومع انتفاء المرجعية الواحدة التي توجه عمل تلك المؤسسات، كان طبيعيا أن تختلط المسؤوليات وتغيب المعايير الواضحة، ويصبح الأمر مرهونا بمعجزة لإعادة بلورة معنى كل مؤسسة وعلاقتها بالمؤسسة الأخرى.
والأهم، علاقة كل مؤسسة بالهدف الأسمى، أي تحرير الشعب الفلسطيني نفسه، وتوجيه وتعظيم نضاله وقدرته على المقاومة.
تراجع المساندة العربية
المساندة العربية بدورها لم تخلُ من قصور وتراجع كبيرين. وهنا، نلحظ فارقا بين حجم التعاطف الشعبي العربي الذي حافظ على حدته ويقظته، ولكنه يظل في حدود المثل الشائع “العين بصيرة واليد قصيرة”، أو لنقل في حدود التعاطف المعنوي الذي يعلو حينا ويهبط حينا آخر حسب الظروف والتطورات.
أما رسميا، فالحكومات العربية وبدون استثناء، وجدت في أوسلو الفلسطينية ضالتها، حيث وظفت الاتفاقيات في تأكيد شعار “قبول ما يقبله الفلسطينيون أنفسهم”، أو بمعنى آخر التحرر من أعباء المساندة الفعلية لقضية عربية تدخل في صميم قضايا الأمن القومي العربي الجماعي، وهو ما تجسد في تيارين رئيسيين.
أولهما، توظيف الأطراف العربية أوسلو الفلسطينية من أجل بلورة أوسلو ذاتية خاصة به، باعتبار أن ما فعله الفلسطينيون من تفاوض مباشر يبيح الشيء نفسه لكل طرف عربي، واتفاقيات وادي عربة الأردنية الفلسطينية التي وقعت لاحقا مثل بارز، وما تلاها من فتح مكاتب تمثيل تجاري وأخرى للاتصال بين عدة عواصم عربية وتل أبيب، وذلك دون النظر إلى ما يضيفه ذلك للمنهج العدواني الإسرائيلي ومحاصرة للحقوق الفلسطينية. لكن التبرير ظل موجودا، إن أصحاب القضية فعلوا ذلك، فلم لا نفعل نحن؟
والثاني، النظر إلى القضية الفلسطينية كمجرد قضية عادلة تستحق التعاطف المعنوي والمساندة السياسية لا أكثر، فيما مثل تراجعا كبيرا عن التوجه السابق الذي نظر إليها كقضية أمن قومي. وحصيلة التيارين عمليا، صبت في بلورة توازن سياسي جديد أضاف أعباء كبرى على المفاوض الفلسطيني دون أن يقدر على وقف أي تردي في البيئة العربية.
إن نظرة على الالتزامات العربية المختلفة تجاه إسرائيل فيما بعد أوسلو تُـعد خصما مباشرا من المساندة المباشرة للقضية الفلسطينية. فبالرغم من أن كل البيانات الرسمية والمواقف الفردية والجماعية العربية كانت تؤيد المساعي والمطالب الفلسطينية في أي مفاوضات تتم مع إسرائيل تحت مظلة أوسلو، وأن لا أحد من الرسميين العرب أدان صراحة أي من مظاهر المقاومة الفلسطينية، بما في ذلك العمليات المسلحة التي تقوم بها حركتا حماس والجهاد الفلسطينيتين في العمق الإسرائيلي، إلا أن الفعل العربي المقرر صـبَّ في التضييق على أشكال المقاومة الفلسطينية المختلفة.
فهناك إغلاق صارم للحدود المحيطة بإسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة، والإغلاق هنا يعني إغلاق منافذ التسلح وحركة البشر. وهناك إجراءات صارمة بشأن التحويلات المالية إلى المنظمات الفلسطينية المختلفة، وكلاهما، وإن استهدفا التأثير على قدرة المنظمات المسلحة المناهضة للسلطة الوطنية الفلسطينية، لكنهما صبا في محاصرة القدرات الفلسطينية على المقاومة بالمعنى العام، وربما يفسر هذا، ذلك الشعور السائد لدى الفلسطينيين على اختلاف انتماءاتهم، بأن العرب قد خذلوهم وتركوهم محاصرين ومعزولين في مواجهة أبشع آلة عسكرية في المنطقة برمتها.
عنجهية اليمين الإسرائيلي
ويظل التساؤل، هل انتهى عصر أوسلو، أم أن أوسلو التي ابتليت بتصاعد اليمين الإسرائيلي منذ 1996، وانهيار اليسار على نحو مزري، وخلو الساحة الإسرائيلية للتطرف والعنجهية وغطرسة القوة المسلحة، هي المسؤولة عن محبس الزعيم وضياع أوسلو بكل ما كان فيها من تفاؤل بالمستقبل؟
وهنا تبرز ملاحظتان بارزتان.
أولهما، أنه لا يمكن التغاضي عن دور اليمين الإسرائيلي في الإجهاز على أوسلو منذ أن ترأس نتانياهو مقعد رئاسة الوزراء، ثم تلاه باراك، فشارون، حيث استطاع أن يحول المبدأ الحاكم للتسوية من الأرض مقابل السلام إلى الأمن مقابل الأمن، الأمر الذي أسس لاحقا إلى عملية حشر السلطة الفلسطينية في زاوية القيام بمهمة حماية إسرائيل، وليس الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني، الأمر الذي ازداد حدة بعد هجمات 11 سبتمبر في نيويورك وواشنطن، والتي أسهمت بدورها في زيادة وطأة الضغوط على القضية الفلسطينية، وأبرزت مقاومتها المشروعة كإرهاب مرفوض.
الثانية، أن أوسلو، وإن أنتجت السلطة الوطنية الفلسطينية وأعطت لها شرعية دولية، ووضعت مفهوم التخلص من الاحتلال خطوة خطوة على محك التطبيق العملي، تبدو اليوم في حالة مخاصمة فعلية مع الخطة الدولية الرباعية التي تحولت أمريكية لاحقا، وتُـعرف بخارطة الطريق.
فوفقا للخطة، تبدو هناك حالة انفصال قانوني وعملي بين ما جرى في أوسلو وما يُـفترض أن يتم تحت مظلة خارطة الطريق. وفي الوقت نفسه، هناك ارتباط غير مباشر، إذ تظل السلطة الوطنية التي نشأت بموجب أوسلو هي المعنية بالتفاوض والالتزام بما جاء في الخارطة.
لكن الالتفاف على السلطة وعلى رئيسها المنتخب عرفات يظل الهدف الأكبر لكل من إسرائيل والولايات المتحدة، والبحث عن قيادة بديلة، ولو كانت غير شرعية سياسيا ولا قانونيا، يظل هو المتعة الحقيقية لهما معا، في الوقت نفسه، تغيب عن الصورة برمتها العلة الأولى في كل ذلك التدهور، أي الاحتلال والاستيطان واغتصاب الحقوق.
لقد تناسى الجميع العلة الأولى، وهي الاحتلال والاستيطان، ونظروا جميعا إلى الأعراض العابرة، فيما برروا عمليا غطرسة القوة الإسرائيلية على نحو فج. ووصلت التناقضات والمفارقات وحالة النفاق الدولي إلى أقصاها.
فكل صنوف العدوان وانتهاكات حقوق الإنسان باتت دفاعا عن النفس، أما الأبرياء العزل الذين ينتفضون بأرواحهم والقليل الذي لديهم، فصاروا إرهابيين. وبينما تُمجد الهمجية الإسرائيلية ويتم تقديم الاعتذارات لها، يقف الكثيرون فرحا بما يحل من مصائب على شعب يحاصره الإخوة قبل الأعداء، ومع ذلك يظل صموده مضربا للأمثال.
د. حسن أبوطالب – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.