“الأركيو زولوجيا”.. عِـلم أصوله سويسرية وتحتاجه البعثات الأثرية!
تتميز البعثات الأثرية السويسرية العاملة في سوريا بوجود علماء من بين أفرادها متخصصين في دراسة العظام أو ما يُعرف بـ "الأركيو زولوجيا". ونتعرف من خلال عمل إحدى الخبيرات السويسريات في البعثة السورية السويسرية في قصر الحير الشرقي، على تفاصيل هذا التخصص الذي نشأ في سويسرا على يد لودفيغ روتي مايير في عام 1860.
ما يجلب انتباهك عند الوصول إلى أي مخبر بموقع أثري وإلى جانب تراكم قطع الخزف أو السيراميك واللقى الأثرية العادية، تراكم أنواع من العظام فوق طاولة في ركن من المبنى، بعضها متآكل وهش ويبدو عليه تأثير الزمن، والبعض الآخر متكامل وحديث العهد.
هذا يعني أن هذه البعثات لا تعتمد فقط على العلماء الأثريين التقليديين، بل تخصص مكانة هامة لعمل المختصين في علم “الأركيو زولوجيا” الحديث لمساعدتها، عبْـر ما تعثر عليه من عظام، في تحديد أنواع الحيوانات التي عاصرت الإنسان في تلك الفترة وكيفية استخدامها من قبله ولأية أغراض.
هذا ما توضحه لنا جاكلين ستودر، متخصصة في دراسة العظام بالبعثة الأثرية السورية السويسرية في قصر الحير الشرقي، ومسؤولة قسم الأركيو زولوجيا في متحف العلوم الطبيعية بجنيف، التي دأبت على مرافقة هذه البعثة الى سوريا منذ حوالي خمسة أعوام لمدة تتراوح ما بين ثلاثة وأربعة أسابيع كل مرة، لدراسة ما يتم العثور عليه من عظام حيوانية في موقع التنقيب ولتحديد، كما تقول “العلاقة القائمة بين الإنسان والحيوانات في الحقبة التي يتم التنقيب فيها، وذلك من خلال النظر في العظام وتحديد الطريقة التي تعامل بها الإنسان مع هذا الحيوان”.
تربية صنف من الحمام فريد من نوعه
الخلاصة التي خرجت بها الخبيرة جاكلين ستودر من عملها بموقع قصر الحير الشرقي، هو أن “80% من الاستهلاك الحيواني لسكان القصر في الحقبة الأولى من العصر الأموي، كان من الأغنام والماعز، يليها استهلاك الإبل وحتى الحمير. ورغم أن الجمال والحمير لم تكن تربَّـى بغرض الاستهلاك، إذ كانت تستخدم للتنقل والنقل، فإنها كانت تسهلك عندما تتقدم في السن. ولم نجد أثرا يدل على استهلاكهم للخيل أو الجياد”.
لكن منطقة قصر الحير الشرقي، التي كانت تستهلك الدجاج كغيرها، فإنها انفردت باستهلاك صِـنف من الحمام لا يوجد في مناطق أخرى، إذ تقول الخبيرة السويسرية المتخصصة في دراسة العظام “صنف الحمام الذي عثرنا على بقاياه في قصر الحير الشرقي، هو صنف منحدر من صنف حمام “بيزه”، الذي لا يمكنه العيش في منطقة كقصر الحير الشرقي، لأنه يحتاج إلى منعطفات جبلية يبني فيها أعشاشه”.
وإذا كان تدجين الحمام قد تم في القرن الثالث قبل الميلاد وأن حجمه بقي هو نفسه، سواء بالنسبة للبري أو المدجّن، فإن الصنف الذي عثرت عليه البعثة الأثرية السورية السويسرية في قصر الحير الشرقي، أكبر حجما من الحمام العادي وحتى من حجم الحمام الذي عثر عليه في نفس الفترة في مناطق ساحلية بسوريا.
وتفسير الخبيرة السويسرية لذلك هو أنه “تم اختيار نماذج معينة في قصر الحير الشرقي، لتطوير صنف ذي حجم أكبر، وهذه هي المرة الأولى التي يتم فيها تسجيل تطور في حجم جسم الحمام البري أو المدجّن”، وتضيف الخبيرة السويسرية “نحن بصدد إتمام الدراسة لمعرفة الهدف الفعلي من ذلك، لكن تفسيري أولي لذلك، لربما لاستهلاك لحومه أو كحمام زاجل لنقل الرسائل”.
وقد دفع وجود عظام في قصر الحير الشرقي تعود لعشرات طيور الحمام، التي توفيت بسبب مرض يصيب العظام إلى استنتاج أن “هذا الصنف من الحمام، ليس فقط كونه تعرض لعملية تطوير زادت من حجم الجسم، بل أيضا أنه لم يكن طليقا وكانت تتم تربيته في أقفاص”.
ولا يقتصر عمل الأثريين المختصين في دراسة العظام على رسم خارطة الاستهلاك الحيواني لحقبة من الحقب، بل أيضا لرسم خارطة الانتشار الجغرافي لأصناف من الحيوانات البرية التي إما انقرضت أو اختفت من مناطق معينة. كما تسمح الدراسة الأثرية للعظام بمعرفة طرق التجارة، كالعثور في منطقة البتراء بالأردن على عظام أسماك، رغم بُـعدها بحوالي 120 كيلومترا عن البحر الأحمر.
وإذا كانت الفائدة متواضعة بالنسبة لحقب تاريخية تطورت فيها الكتابة، فإن الخبيرة جاكلين ستودر ترى “أهمية أكبر لعلم دراسة العظام بالنسبة لحقب العصر الحجري، الذي لم يكن الإنسان يعرف فيها الكتابة بعد”.
وإذا كان عدد المختصين في علم الأركيو زولوجيا في العالم يتجاوز 800 خبيرا، فإن الصعوبة تكمن في ضرورة امتلاك مكتبة عظام تسمح بالمقارنة. ومن هذا المنطلق، يمكن القول أن أكبر إسهام للبعثة السورية السويسرية في قصر الحير الشرقي، هو حصيلة أكثر من عشرة آلاف قطعة مصنفة ومسجلة، قد يستفيد منها المختصون في علم الأركيو زولوجيا، لمقارناتها مع قطع أخرى في باقي أنحاء العالم.
عمل تحضيري قد يثير الإستغراب!
يتمثل عمل الخبير الأثري المختص في دراسة العظام في تحضيرات دقيقة كثيرا، ما تثير استغراب غير المتعودين على رؤية ذلك، إذ كما تقول جاكلين ستودر “يتمثل العمل الأولي في الاعتناء بالقطع العظمية، حتى الصغيرة منها، وتنظيفها من التراب. وتتمثل المرحلة الثانية، في الملاحظة وتحديد الفئة التي تنتمي إليها والقسم من الجسم الذي تنتمي اليه القطعة العظمية. تأتي بعدها مرحلة التدقيق في وصف الطريقة التي وجد عليها: هل هو عظم كامل أو مكسر وما طبيعة الكسور؟ وهل هناك أثر لعملية جزر، إما عبر الكسر او عبر ضربة ساطور او آلة قاطعة، وهل هناك آثار لجزر بسكين أو ما شابه ذلك”؟
هذه الملاحظات تقود الخبير الى تحديد الطريقة التي تعامل بها الإنسان، الذي قام بجزر هذا الحيوان أثناء سلخه وإفراغه من أعضائه، وفقا للطرق المتداولة والتي تختلف من حِـقبة الى أخرى ومن حيوان إلى آخر.
لكن الأغرب من ذلك، عندما يضطر علماء الآثار المختصين في دراسة العظام للاستعانة بالسكان المحليين للحصول على جُـثث حيوانات ميتة، إما آليفة او برّيّة، للحصول على عظامها بغرض مقارنتها مع ما يتم العثور عليه من عظام أثرية في المنطقة، إذ كثيرا ما تُجلب هذه الحيوانات في حالة تعفن متقدمة، ومع ذلك، يضطر الخبير الى معالجتها بطهيها في موقد عادة ما يتم تنصيبه في ركن بعيد من مقر إقامة البعثة الأثرية.
ومن القصص الطريفة التي روتها الخبيرة جاكلين ستودر، استغراب صاحب مطعم في حلب، تناولت عنده فراخ حمام، عندما لم يجد أثرا للعظام فوق الطاولة. فقد ذهبت خصيصا للحصول على عظام الحمام الحالي، لكي تقارنها مع ما حصلت عليه في موقع قصر الحير الشرقي من عظام لنوع من الحمام كان الأمويون يربُّـونه بغرض الاستهلاك.
أما عن الدقة التي يتطلبها عمل الأثريين المختصين في العظام، فتتذكر الخبيرة جاكلين ستودر أن في بداية عملها بقصر الحير الشرقي، تم العثور على أعداد من عظام عصافير صغيرة الحجم، كان يُعتقد أنها استهلكت من قبل حيوانات أخرى. ولكن بعد اكتشاف مراحيض بالمباني المحيطة بقصر الحير الشرقي مؤخرا وتحليل ما احتفظت به، تم العثور على قطع من عظام مكسرة لهذه العصافير وبها آثار المرور عبر جهاز هضمي بشري، وهذا ما دفع الأخصائية إلى الجزم “اليوم يمكن التأكيد على أن الأمويين في قصر الحير الشرقي، كانوا يستهلكون هذه العصافير”. وتنتهي إلى خاتمة “من أجل التجرُّؤ على تأكيد هذه الجملة السابقة، تطلَّـب الأمر إجراء البحوث المطوّلة والمتكررة”.
يعتبر الباحث السويسري لودفيغ روتي مايير، رائد ما عُرف فيما بعد بعلم الأركيو زولوجيا، إذ كان أول من نشر دراسات عن علم الأركيو زولوجيا في عام 1860 بتحليل علاقة الإنسان بالحيوان من خلال تحليل اللقى الأثرية في مواقع التنقيب الساحلية السويسرية بروبنهاوزن، والتي تعود للعصر الحجري الحديث والعصر البرونزي.
لهذا السبب، تقول الخبيرة في البعثة الأثرية السورية السويسرية جاكلين ستودر: “يعتبر لودفيغ روتي مايير بحق، رائد علم الأركيو زولوجيا، لأن قبله كان مختصون في علم التشريح هم الذين يقومون بهذا العمل بالاكتفاء بمقارنة القطع، أو علماء العصور القديمة الذين يكتفون برسم تلك العظام، ولكن لم يكونوا يدرسون العلاقة القائمة بين الإنسان والحيوان”.
وإذا كان من الطبيعي اليوم أن نجد في كل موقع تنقيب أثري أخصائيا في دراسة السيراميك او الخزف، فإن الأمر ليس كذلك بالنسبة لاستعانة علماء الآثار التقليديين بأخصائيين في دراسة العظام أو ما يُعرف بالأركيو زولوجيا، إذ تعترف الخبيرة السويسرية ورئيسة قسم دراسة العظام بمتحف العلوم الطبيعية في جنيف جاكلين ستودر بأن “علماء الآثار والتاريخ التقليديين، ما زالوا لا يوفون هذا التخصص حق تقديره”.
لكن سويسرا بدأت تولي هذا التخصص أهمية كبرى، إذ تشير جاكلين ستودر إلى أن “سويسرا كانت رائدة في هذا المجال وقدمت أعلاما لهم شهرة عالمية، ولنا مركزا هاما متخصصا في علم الاركيو زولوجيا في مدينة بازل، وخبيرا متخصصا في مدينة نوشاتل وفي جنيف، أسهر أنا وخبير ثاني على تدريس هذا التخصص في الجامعة في إشتراك مع قسم علم الآثار والتاريخ”.
أما بالنسبة لسوريا، فتقول الخبيرة السويسرية “لا يوجد مركز متخصص في علم دراسة العظام، ولكن هناك طلبة سوريين أبدوا اهتماما بهذا التخصص”.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.