“التخصص في علم الآثار الإسلامية قد يُساعد في كتابة موضوعية للتاريخ”
يُعد فريق الآثار السويسري العامل في قصر الحير الشرقي بسوريا، من الفرق الغربية النادرة التي تخصصت في التنقيب في الحقب الإسلامية. ويرى رئيسه دونيس جانكان أن "التخصص في علم الآثار الإسلامية لا يلقى العناية الكافية كعلم قائم بحاله في الجامعات الغربية ولا يستهوي الطلبة السوريين بكثرة، وإذا ما أولي العناية الكافية، قد يُسهم في كتابة موضوعية للتاريخ".
بعد أن عمل ضمن فرق مختلفة في الأردن لأكثر من عشر سنوات، تحول دونيس جانكان الى سوريا، حيث أسس فريقا سويسريا متخصصا في التنقيب عن آثار الحِـقب الإسلامية، وهو الفريق العامل ضمن بعثة سورية سويسرية في قصر الحير الشرقي منذ عام 2002 والتي تقوم بأعمال تنقيب في ضواحي هذا القصر، الذي بناه الخليفة الأموي هشام ابن عبد الملك في بادية الشام في القرن الثاني الهجري، أي في حدود 728 ميلادي.
وإذا كان توجه دونيس جانكان، الذي يشتغل عالم آثار في كانتون جنيف أيضا، في بداية تكوينه في قسم الآثار في كل من لوزان وباريس، هو الاهتمام بحقبة العصور الوسطى في أوروبا، فإن الصدف (أو القدر) شاءت أن يُبتعث في تدريب إلى الأردن ويكتشف جاذبية التنقيب في الحقبة الانتقالية ما بين العصر البيزنطي والإسلامي، وهو ما دفعه لتغيير اتجاهه ليتخصص في الحقب الإسلامية، وكان هذا موضوع أطروحته. ومنذ ذلك الحين، لم يتوقف عن تعميق معرفته بتاريخ المنطقة الغابر والحاضر.
أهمية الفترة الإسلامية بالنسبة لسوريا
إذا كانت كل الحِـقب مهمة بالنسبة لتاريخ شعب أو أمة أو الإنسانية جمعاء، فإن الاهتمام بالتنقيب في الحقبة الإسلامية بالنسبة لبلد مثل سوريا، وباستعمال الطرق الحديثة، يُـعدّ من اهتمامات المسؤولين عن الآثار في سوريا، مثلما يقول المهندس وليد أسعد، مدير متحف وآثار تدمر “الفترة الإسلامية، هي فترة ازدهار على مستوى العالم، وصلت فيها الخلافة الإسلامية إلى أطراف أوروبا وشرق آسيا، وبالتالي، لا يمكن لأي باحث أو منقب، إلا أن يطَّـلع على معطيات هذه الفترة الإسلامية ودراستها والوقوف عليها”.
وتشكِّـل الفترة الإسلامية بالنسبة لسوريا، وبالأخص في منطقة تدمر، فترة مهمّـة جدا، لأن الإنسان الذي عاش في هذه المنطقة، تأثر بتعاقب الحضارات والأديان عليها منذ العصور القديمة. وقد اشتملت المنطقة على الكثير من المعابد التي تحولت الى كنائس، والكنائس التي تحولت إلى مساجد.
وعن هذا الجانب، يقول المهندس وليد أسعد: “لقد عرفَـت تدمر تعايُـشا دينيا بشكل ممتاز جدا… ومن الأمثلة، معبد بل، الذي تحوّل في الفترة البيزنطية إلى كنيسة، ثم حُـوِّل في الحقبة الإسلامية إلى مسجد وما زال حتى اليوم يحمل بقايا رسوم على أحد جدرانه للسيدة العذراء والحواريين والسيد المسيح، وهذا دليل على التسامح الديني والفهم الواسع لمتغيرات العصر والبُـعد عن التعصب”.
تدمر.. لم تكشف عن آثارها الإسلامية كاملة
بالإضافة إلى اهتمام البعثة الأثرية السورية السويسرية بالتنقيب في قصر الحير الشرقي، تقوم من حين إلى آخر بأعمال تنقيب في قسم من المدينة الأثرية في تدمر.
وإذا كانت مدينة تدمر تتميَّـز بمعالمها الأثرية، التي تعود إلى الحقبة الرومانية، وبالأخص عهد الملكة زنوبيا، فإن أعمال التنقيب التي تقوم بها البعثة الأثرية البولندية، سمحت باكتشاف سوق تجارية تعود إلى القرن الثامن.
وبما أن ذلك يتزامن مع الحِـقبة الأموية، كان هذا عامل جلْـب الفريق السويسري السوري للاهتمام بإمكانية وجود معالم أثرية إسلامية غير متعرّف عليها ضمن أنقاض آثار مدينة تدمر، ويقول دونيس جانكان، رئيس البعثة السويسرية “هذا الاكتشاف للسوق، دفعني الى التساؤل: أليس ذلك راجع إلى تدخل عمراني في العهد الأموي ضِـمن بنية المدينة التاريخية، على غِـرار ما عُـرف في بيسان بفلسطين، حيث قام الخليفة هشام ابن عبد الملك بإعطاء أمر ببناء سوق داخل المدينة القديمة “سيتوبوليس”؟
تساؤل دونيس جانكان سمح للبعثة الأثرية السورية السويسرية في قصر الحير الشرقي في الشروع في عمليات تنقيب جانبية في مدينة تدمر، وفي منطقة سبق أن نقبت فيها فرق أخرى. وقد تكللت هذه الأبحاث باكتشاف مسجد كبير أقيم في زاوية السوق، ولم يسبق أن أشارت إليه أي دراسات، وإلى جانبه مسجد أصغر.
وبخصوص الفترة التي بُـنِـي فيها المسجِـدان، يقول دونيس جانكان “المسجد الأصغر، يعود إلى الحقبة الأيوبية، أي القرن الثالث عشر ميلادي، بينما ننتظر إنهاء بعض الدراسات في العام القادم لتحديد الفترة التي بُـني فيها المسجد الكبير”.
وقد اهتمت الدراسات المتواصلة منذ 3 سنوات، بتحديد بُـنية المسجديْـن وإعادة رسمهما، إضافة إلى تحديد رسم المبنى العتيق الذي أقيم على أنقاضه. كما يرغب الفريق السوري السويسري في التعرف على حجم التدخلات العمرانية، التي قام بها الأمويون داخل المباني العتيقة لمدينة تدمر وفي ضواحيها. وكان الفريق قد قام ببحوث في البحة، التي كانت عبارة عن معسكر روماني، استولى عليه أحد صحابة رسول الله نعمان ابن البشير في القرن السابع، وفيه قتل أحد آخر الخلفاء الأمويين الوليد ابن يزيد في عام 744م.
وينهي رئيس البعثة الأثرية السويسرية دونيس جانكان حديثه بالقول “إذا كانت ضواحي مدينة تدمر قد استُكشفت من حيث التواجد الأموي بها، فإن قلب مدينة تدمر يتطلب مجهودا واهتماما اكبر، لمحاولة معرفة ما الذي حدث في العهد الأموي في المدينة، لأن الأمويين لم يكتفوا بالمرابطة في الضواحي”.
قلة الإهتمام بالتكوين الأثري للحِـقب الإسلامية؟
في الوقت الذي يتم فيه التشديد على أهمية التنقيب في الحِـقب الإسلامية والرغبة في القيام بتنقيب محايِـد ونزيه، يلاحَـظ نقص في مجال التكوين المتخصص في الحِـقب الإسلامية في المعاهد الغربية، ونقص أيضا في اهتمام الطلبة السوريين بهذه الحِـقبة أو بالمشاركة في بعثات متخصصة، مثل البعثة السورية السويسرية في قصر الحير الشرقي، إذ بالمقارنة مع البعثة السويسرية العاملة في حوض الكوم وعلى بُـعد 30 كيلومترا فقط، والتي تعرف تنافسا كبيرا بين الطلبة من سوريين وسويسريين للحصول على فرصة تدريب، تعاني بعثة قصر الحير الشرقي من عدم توافُـد طلبة سوريين للتدريب ضِـمن صفوفها، وهذا على الرغم من الإلحاح المتكرّر لرئيسها دونيس جانكان.
وفي معرض تفسيره للظاهرة، يقول جانكان: “ربما يعود ذلك إلى أن التخصص في الحِـقب الإسلامية، ليس بالتخصص المتوفر بكثرة في الجامعات السويسرية، بل على مستوى العالم أيضا. وما هو متوفر كشُعب لتدريس عِـلم الآثار الإسلامية في الجامعات، كثيرا ما يكون مقرونا بدراسة تاريخ الفن الإسلامي، باستثناء جامعة كوبنهاغن وشيكاغو، إضافة إلى بعض المختصِّـين في بريطانيا وفرنسا”.
ويضيف دونيس جانكان: “يجب بذل مزيد من الجُـهد في هذا المجال في الجامعات، للرقي بعِـلم الآثار الإسلامية إلى عِـلم قائم بحاله، وليس الاستمرار في ربطه بدراسة تاريخ الفنون الإسلامية، لأن علوم الآثار الخاصة بالعهديْـن الروماني واليوناني، أصبحت تُدرَّس في كل مكان، رغم أن الامتداد الجغرافي للحِـقبة الرومانية أو اليونانية، أقل بكثير من الامتداد الجغرافي للحضارة الإسلامية”.
وما يراه مُـلِـحّـا بالنسبة للدول الإسلامية، التي تشهد تطوّرا عمرانيا كبيرا، هو تكوين طلبة متخصِّـصين في التنقيب الإضطراري أي “الذين ينقبون عن الآثار المعرضة للتهديم لتسجيلها قبل بداية أشغال الإعمار”.
أما بالنسبة لمدى إقبال الطلبة السوريين على المشاركة في مثل هذه البعثات، وبالاستناد إلى تجربة بعثة قصر الحير الشرقي، فإن البعثة لم تحصُـل على مشاركة أي طالب سوري، رغم إلحاح رئيسها. أما بالنسبة للطلبة السوريين الذين أصبحوا يتوافدون في الآونة الأخيرة على المعاهد الفرنسية المتخصصة في الحقبة الإسلامية، فيقول دونيس جانكان: “لست أدري ما إذا كانوا يرغبون في التوجه إلى مثل هذه المناطق، للحصول على تجربة ميدانية وقضاء شهر إلى شهرين في الظروف المناخية الصعبة”، ويضيف “المعروف عن الطلبة السوريين، أنهم يفضِّـلون التخصص في الحِـقبة البرونزية، بينما يفضل الطلبة الأردنيون، التخصص في الحِـقب الرومانية والبيزنطية”.
لكن مدير متحف وآثار تدمر، المهندس وليد أسعد، له تفسيراته فيما يخص نقص إقبال الطلبة السوريين على المشاركة في البعثة السورية السويسرية، العاملة في قصر الحير الشرقي، إذ يقول: “ليست هناك سياسة بشكل عام لدى مراكز البحث والجامعات، لتوجيه الطلبة لدراسة هذا الفرع دون غيره، كما أن التوجيه الجامعي هو أمر شخصي ينبع من الرغبة والهواية. وثانيا، بالنسبة لمنطقة تدمر، التي تكثر فيها الآثار الكلاسيكية، ستجد فيها من يهتمّون بهذا النوع من الآثار أكثر ممن يهتمون بالفترة الإسلامية. ومَـن يذهب إلى منطقة الكوم، سيهتمّ بعصور ما قبل التاريخ، وليس بالعصور الإسلامية، نظرا لكثرة مواقع ما قبل التاريخ بالمنطقة”.
إذا كان العديد من البحاثة الغربيين قد اهتموا في السابق ببعض الجوانب من الحقب الإسلامية وأن الكثير من التنقيبات تمت في فترات استعمارية، كانت فيها أغلب الدول التي يتم التنقيب فيها مُستعمَرة، فإن ما هو مرغوب فيه اليوم، هو التشديد على ضرورة التمتع بالحيادية في هذه الأعمال الأثرية.
يقول المهندس وليد أسعد، مدير متحف تدمر أثناء الحديث عن عمل البعثات الأثرية الأجنبية عموما: “يبقى موضوع الحيادية، هل عمليات التنقيب والدراسات التي تتبعها فرق التنقيب تتم بشكل محايد بغرض فهْـم هذه الحقب، وبغرض العلم لقصد العلم أم أن هناك غايات أخرى؟ هذا أمر يبقى في النفوس”.
في غياب اهتمام الجامعات الغربية بتطوير فروع علم الآثار الإسلامية بشكل جدي، وبقلة حماس الطلبة الوافدين من الدول الإسلامية، يبقى تاريخ المنطقة معتمدا في كتابته على مصادر النصوص التي يقول دونيس جانكان، رئيس البعثة الأثرية السويسرية في قصر الحير الشرقي بأنها “تقدم فيها المصادر العربية والبيزنطية مواقف متضاربة، العرب يصورون الغزو (الفتوحات) بأنها كانت معارك خرجوا منها منتصرين، فاستولوا على المدن، بينما يقول البيزنطيون بعد هزيمتهم وخروجهم من المنطقة، بأن المسلمين قتلوا وذبحوا الكل في حمام دم”.
ويشدد دونيس جانكان على أهمية الدور الذي يمكن لعلم الآثار أن يلعبه لتصحيح كتابة التاريخ، إذ يقول: “تدخل علم الآثار في السنوات الأخيرة لدراسة هذه الفترات الأولى من الإسلام، أظهر جليا بأن الأمر تعلق بغزو عسكري وبمرحلة انتقال في هدوء، بين الحقبة البيزنطية والحقبة الأموية”.
ويورد بعض الأمثلة على كنائس كان يُقال أنها تعرضت للحرق والتدمير أثناء الغزو الإسلامي، “بينما تبين من خلال أعمال التنقيب (النزيه)، أن شيئا من هذا القبيل لم يحدُث وأن هذه الكنائس استمرت في أداء مهامِّـها واحتفظت بمعالمها في الفترة الأموية وحتى الفترة العباسية”.
وأحسن مثال على ذلك، يقول دونيس جانكان “مدينة تدمر، التي بقيت محتفظة بأسقفيتها حتى عام 818م …، أي حتى فترة متقدمة من العصر العباسي”.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.