مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

المدير السابق لمركز سيرن السويسري… مسيرة 100 عام في خدمة العلم والسلام

هيرفغ شوبر
"الفيزياء للفكر. أمَّا الأحاسيس، فلها الموسيقى"، هذا ما يقوله هيرفغ شوبر، الذي أتمَّ 100 عام من عمره ولا تزال أنامله تعزف ألحانًا على البيانو. CERN

هو واحد من الثُلَّة المؤسّسة لأقوى مسرِّع للجسيمات في العالم، ورائد في تعزيز السلام في الشرق الأوسط عبر تأسيسه مركزًا للعلوم التجريبية والتطبيقية. ومع ذلك، فإنّ الدرس الأهمّ الذي تعلّمه هيرفغ شوبر، خلال حياته التي تمتدّ لقرن بأكمله، هو أن الإنجازات الكبيرة لا تتحقق إلا عبر التعاون. بورتريه.

إنه رجل ذو شخصية فريدة. معمّر، أجرى مناقشات مباشرة مع عدد لا يحصى من الزعامات السياسية والدينية العالمية، وساهم في إنجاح العديد من الاكتشافات العلمية الكبرى وجهود التعاون الدبلوماسي. فهل سبق وأن طلبت منك شخصية معمّرة تأكيد موعدٍ معها عن طريق البريد الإلكتروني لكثرة مشاغلها ومواعيدها؟!

ما إن وصلنا إلى ريف جنيف، وجلسنا مع هيرفغ شوبر، الذي لا تزال عيناه تتألقان بالطاقة والفضول، حتى اتضح لنا أن 100 عام من تجارب الحياة، تعلّمك أيضًا كيفية سرد القصص بأسلوب مشوِّق ومسلٍ.

 وظيفتان وراتب واحد          

في عام 1981، عندما تولّى الفيزيائي الألماني شوبر رئاسة المركز الأوروبي للأبحاث النووية، والذي يُشار إليه اختصاراً بـ”سيرن” (CERN)، كان عليه أولًا أن يعالج قصية أساسية، وهي الموارد المالية. وهكذا، أجرى الرجل تعديلات على هيكل النظام المالي للمركز، وكان أول من عمل بنظام الميزانية السنوية المحددة. كما أحال تمويل التجارب إلى الدول الأعضاء. وكان أيضًا أول مدير عام للمركز، متوليا أعباء شغل منصبين منفصلين. يستعيد شوبر تلك الذكريات، قائلا: “كنت أشكو باستمرار من اضطراري لشغل عمل مديريْن عاميْن”.

وبعد إرساء أسس مالية صلبة، ساهم شوبر في تحقيق واحد من أكثر المشاريع العلمية طموحًا حتى يومنا هذا: بناء نفق دائري تحت الأرض بطول 27 كيلومترًا ليحتضن مصادم الإلكترونات والبوزترونات الكبير (LEP)، والذي سيضم لاحقا مصادم الهادرونات الكبير (LHC)، الذي يعدّ اليوم أقوى مسرع للجسيمات في العالم وأعظم الآلات التي صنعها البشر تطورًا على الإطلاق. ويستخدم العلماء والعالمات المسرّع للتعرّف على الجسيمات الأساسية التي تُشكِّل الكون. وكان آخر جسيّم تم اكتشافه هو “هيغز بوزون” (Higgs Boson) عام 2012.

>> يتحدّث هيرفغ شوبر في الفيديو الموالي عن شبكة الويب العالمية، ولقاءاته مع مارغريت تاتشر والبابا يوحنا بولس الثاني (بالانجليزية)

معضلة نوبل

أمّا الاكتشاف الأقرب إلى قلب شوبر فهو “بوزونات دبليو وزد”، والتي يشار إليها في اللغة العربية باسم البوزونات الواويَّة والعَينيَّة.

وتبسيطًا للأمر، لا يخوض شوبر في شرح التفاصيل الفنية الدقيقة. حيث يشرح أن اكتشاف “بوزونات دبليو وزد” أكَّد وجود ما يسمى بالتفاعلات النووية الضعيفة، وهي إحدى القوى التي يقوم عليها النموذج المعياري لفيزياء الكم. ويضيف: “إنها واحدة من أهم القوى في الطبيعة، وبدونها لن تكون الشمس قادرة على إنتاج الطاقة، ولن نحصل على ضوء الشمس”.

وقد تأكَّد وجود القوى النووية الضعيفة، بعد اكتشاف “بوزونات دبليو وزد” في تجربة أُطلق عليها اسم “UA 1 “، صمّمها وأشرف عليها الفيزيائي الإيطالي كارلو روبيا. ويتذكر شوبر أن هذا الجهد الدولي “جمع حوالي 200 شخص”. ويوضح أن ذلك كان عملًا ثوريًّا، من حيث حجم الفريق، لأنه عادةً، يتم تشكيل فرق بحثية صغيرة مكونة من عشرة أفراد أو أكثر قليلًا، كما كان الحال مع فريق دراسة فيزياء الطاقة العالية.

وقد فاز روبيا بعد عام واحد من نشرِ هذه النتائج الثورية، بجائزة نوبل بالمشاركة مع سيمون فان دير مير، الذي اخترع طريقة لإحداث كمية كافية من الاصطدامات أدَّت إلى اكتشاف “بوزونات دبليو وزد”.

وكان شوبر قد شعر بالسعادة عندما تواصل معه وفد جائزة نوبل لإبلاغه بالقرار، ولكنه شعر أيضًا أن الجائزة كان حريًّا بها أن تسلط الضوء على الجهد الجماعي للفريق الذي شارك في التجربة. ولكنها مشيئة ألفريد نوبل الذي نصَّ في وصيته على أن تُمنح جائزته، التي تحمل اسمه، لثلاثة أشخاص كحدّ أقصى.

“ليس من المناسب في عصرنا هذا أن تقتصر مثل هذه الجائزة المرموقة على ثلاثة أشخاص فقط لأن التعاون ضروري، ليس فقط في فيزياء الجسيمات، ولكن أيضًا في سائر مجالات العلوم”.

هيرفغ شوبر

ويعتقد شوبر، لهذا السبب، أن جائزة نوبل لم تعد تتماشى مع تطورات العلم الحديث. إذ يقول: “ليس من المناسب في عصرنا هذا أن تقتصر مثل هذه الجائزة المرموقة على ثلاثة أشخاص فقط لأن التعاون ضروري، ليس فقط في فيزياء الجسيمات، ولكن أيضًا في سائر مجالات العلوم”.

افتح يا سمسم!

من الركائز التي تأسس عليها مركز سيرن، هو التعاون، وكذلك إنشاء مركز للتفوّق العلمي قادر على منافسة التقدّم العلمي في الولايات المتحدة. وتطلّب التعاون الحقيقي الجمع بين بلدان ظلَّت حتى سنوات قليلة مضت في حالة حرب مع بعضها البعض. ويتذكَّر شوبر تلك الحقبة، فيقول: “العلم من أجل السلام… هكذا كان يطلق عليه في تلك الأيام”.

وقد أدرك شوبر أهمية التعاون أثناء عمله في سيرن. ولذلك، وبعد أن انتهت ولايته في إدارة المركز عام 1988، واصل العمل في المجال الذي يُعرف اليوم باسم “الدبلوماسية العلمية” (science diplomacy). ويقول بالخصوص: “أردت أن أستفيد من سمعة سيرن، ونجاحه لتقديم المساعدة في التقريب بين البلدان”.

وقد تجسَّدت مبادرته الأولى في الأردن عام 2017، عندما شارك في افتتاح المختبر المعروف باسم سيزامي (SESAME) [أو سمسم باللغة العربية]. ويشرح شوبر التسمية بقوله: “هي كلمة السر التي تفتح الأبواب في رواية ألف ليلة وليلة”. وكان شوبر قد أصر على اختيار اسم له معنى في ثقافات مختلفة. وعلّق مبتسمًا: ذلك أفضل من “اختصار مثل سيرن، الذي لا يعرف أحد معناه”.

وسيزامي، هي اختصار للمرادف الإنجليزي للمركز الدولي لضوء السنكروترون للعلوم التجريبية وتطبيقاتها في الشرق الأوسط (Synchrotron-light for Experimental Science and Applications in the Middle East).

وبرعاية اليونسكو، يعمل مركز سيزامي، ومسرع الجسيمات التابع له، وفق نفس النموذج المستخدم في سيرن. ويتشكَّل مجلس إدارته من عالمة واحدة أو عالم واحد، وممثلة حكومية واحدة أو ممثل حكومي واحد من كل دولة عضو فيه.

وتضم قائمة الدول الأعضاء حاليًّا الأردن وقبرص ومصر وتركيا وباكستان وإيران وإسرائيل والسلطة الفلسطينية. ويقول شوبر إن سيزامي هي المنظمة الوحيدة التي يمكن فيها رؤية أعضاء وعضوات من إسرائيل وإيران جالسين.ات بسلام حول نفس الطاولة لمناقشة قضايا المشروع.

ويضيف: “صدّق أو لا تصدق، رغم التحديات الحالية في الشرق الأوسط، لا تزال ورشة العمل هذه تواصل أعمالها. ومع أن الوضع السياسي يُثير المشاكل من كل نوع، إلا أن العمل الفيزيائي والتعاوني أثبت فعاليته وجدارته”.

هيرفغ شوبر مع مارغريت تاتشر
رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت تاتشر (الوسط) خلال زيارتها منشأة أبحاث سيرن في 12 أغسطس 1982 كجزء من إقامتها الخاصة في سويسرا، مع زوجها دينيس تاتشر (اليسار). وقد رافقهما حينها، بصفته مديرا عاما للسيرن، هيرفغ شوبر (اليمين). KEYSTONE

مركز للفيزياء في البلقان

يأمل شوبر في تحقيق نتائج مماثلة في مشروعه الرئيسي الآخر، وهو بناء مركز لأبحاث التكنولوجيا والعلوم في منطقة البلقان، وهي التي تفتقر فيها العلاقات إلى حُسن الجوار.

ولمواجهة مشكلة الافتقار إلى منظمة جامعة ترعى المشروع، كما هو حال منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) بالنسبة لمركز سيسامي (SESAME)، لجأ شوبر إلى سويسرا، مذكّرا بتقاليد التعددية العريقة في بلد جبال الآلب، وهو ما يبرز في استضافتها ودعمها لمنظمات دولية مثل الصليب الأحمر. وخلال مأدبة غذاء في أحد الأيام من عام 2019، وافق وزير الخارجية السويسري إنياتسيو كاسيس على مدّ يد المساعدة.

وعلى إثر هذه الموافقة، شرعت وزارة الخارجية السويسرية في تسهيل المناقشات بين دول البلقان، عسى أن تؤدي ذات يوم إلى إنشاء مركز آخر للتعاون العلمي يحمل اسم “المعهد الدولي للتكنولوجيات المستدامة في جنوب شرق أوروبا”.

“فشل المشروع المنافس لسيرن، الذي كان يهدف إلى بناء مسرّع للجسيمات في تكساس، لأنه كان في وسط صحراء. من يرغب في الذهاب إلى الصحراء والعيش فيها؟!”

هيرفغ شوبر

أهل الفيزياء كسائر البشر

يعرب شوبر عن تقديره لسويسرا للدور الذي لعبته جنيف في تمكين التعاون العلمي في سيرن. ويقول إن الأطراف التي اختارت جنيف مقراً لهذا المركز المرموق ربما لم يكن بإمكانها التنبؤ بأهمية قرار مماثل.

 ويضيف أنَّ الروابط الجيدة والموقع المركزي هما ميزتان مهمتان، ولكنَّ الأهم من ذلك هو البيئة الثقافية “الرائعة” في جنيف، وبحيرتها، وجبالها، وطابعها الدولي.

ويقول إنه “في نهاية الأمر، أهل الفيزياء بشر أيضًا ولهم.ن عائلات… وقد فشل المشروع المنافس لسيرن، الذي كان يهدف إلى بناء مسرّع للجسيمات في تكساس، لأنه كان في وسط صحراء. من يرغب في الذهاب إلى الصحراء والعيش فيها؟! “

مصادمات المستقبل وشبكة الويب

قد يكون موقع جنيف ميزة يُمكن أن تستغلَّها المديرة العامة الحالية لمركز سيرن، الإيطالية فابيولا جيانوتي، في بناء المصادم الدائري المستقبلي الجديد (FCC)، وهو مسرّع جسيمات ضخم في نفق يمتدُّ تحت الأرض على طول 91 كيلومترًا، وسيسمح بزيادة طاقات التصادم إلى سبعة أضعاف طاقة مصادم الهادرونات الكبير.

يتابع شوبر تطورات المشروع عن كثب، وهي تُعيده إلى ذكريات بناء مصادم الإلكترونات والبوزونات الكبير والعقبات التي كان عليه أن يتخطاها منذ حوالي 40 عامًا.

ويرى أنَّ العقبة الأكثر صعوبة هي شرح فوائد البحوث الأساسية للمجتمع. كما يعتقد أن النتائج لن تظهر إلّا بعد عقود من الزمن، ناهيك عن ظهور منتج يمكن تسويقه. ويقول إن المثال الوحيد الذي يمكن المقارنة معه في هذا السياق هو شبكة الويب العالمية. فقد ظهرت البذرة، التي تطورت منها شبكة الإنترنت الحديثة، في ثمانينات القرن العشرين لتسهيل عمل سيرن في نقل البيانات بكفاءة من التجارب إلى الجامعات في جميع أرجاء العالم.

وعندما تواصل تيم بيرنرز لي، مبتكر شبكة الويب العالمية، مع شوبر ليخبره عن اختراعه وربما براءة اختراعه باسم سيرن، سعى المدير العام آنذاك للحصول على أكبر عدد من الآراء الخبيرة في هذا المجال.

ويستذكر شوبر قائلا: “سألت في جنيف، وفي بروكسل… وأجمعت الآراء على قول لا… إنها شبكة مثيرة للاهتمام فقط بالنسبة لكم.ن أنتم.ن أهل الفيزياء”. وهكذا عاد شوبر إلى بيرنرز لي، وأخبره أنه يستطيع أن يفعل ما يحلو له باختراعه. “في النهاية، ذهب إلى الولايات المتحدة، حيث كانت ثلة على قدر من الذكاء لجعلها [أي شبكة الويب] سلعة تجارية”.

واليوم، لا يبدو المدير العام السابق منزعجًا من هذه التجربة. فبعد 100 عام من الخبرة في الحياة، ينصبُّ اهتمامه على شيء آخر.

“دون علم، أي إرث معرفي سنترك لأطفالنا وطفلاتنا؟”، يتساءل شوبر، مستطردًا في استنكار: ” أنّ عمر الأرض حوالي 4000 عام، وأن الشمس تتحرك حولها، وما إلى ذلك؟!”

في المقابل، يختتم محدّثي المعمّر بنبرة تفاؤل :” ما حقّقناه في سيرن، ولا نزال، على مدى السنوات الخمسين إلى الستين الماضية، سيتم تدريسه في المدارس قريبًا”.

يصعب سرد جميع الإنجازات والمغامرات التي عاشها هيرفغ شوبر على مدى 100 عام من حياته في مقال قصير، وهذا جليٌّ في سيرته الطويلة التي نشرتها مؤخرًا دار شبرينغر للنشر “Springer” وأتاحتها للجمهور على موقعها الإلكترونيرابط خارجي.

تحرير: صابرينا فايس وفيرونيكا دي فوري

ترجمة: ريم حسونة

مراجعة: عبد الحفيظ العبدلي/أم

هل نال المقال إعجابك.كِ؟ اشترك.ي في نشراتنا الإخبارية المتنوّعة للحصول على مجموعة مختارة من أفضل محتوياتنا مباشرة عبر البريد الإلكتروني. 

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية