سويسرا تترأس منظمة الأمن والتعاون في أوروبا من جديد
للمرة الثانية، تتولى سويسرا رئاسة منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، وهو ما يشكل فرصة تعزّز برن من خلالها دورها كوسيط على الساحة الدولية، بالرغم من تراجُع دور وإشعاع هذه المنظمة الإقليمية. في الأثناء، لا تعتبر هذه المهمّة أمرا جديدا بالنسبة لسويسرا التي سبق لها ترؤس هذه المنظمة الإقليمية التي تتخذ من فيينا مقرا لها قبل حوالي عشرين عاما.
ومثلما كان الوضع في الماضي، لا تزال التحدِّيات التي يتعيّن على المنظمة مواجهتها كثيرة ومن أهمها التوترات القائمة في بلدان أوروبا الشرقية وفي منطقة القوقاز والإصلاحات المؤسساتية المطلوبة والخلافات القائمة بين الولايات المتحدة وروسيا، وهما بلدان عضوان في المنظمة، بشأن مسألة نزْع السلاح، ناهيك عن الإضطرابات التي تمر بها أوكرانيا، المُنقسمة بين رغبتها في الإلتحاق بالإتحاد الأوروبي والإحتفاظ بعلاقاتها مع روسيا.
رغم ذلك، يرى بعض الخبراء أن هذه المهمّة تمثِّـل فرصة ثمينة بالنسبة لسويسرا، التي تواجه حاليا بعض الصعوبات في علاقاتها مع الإتحاد الأوروبي، حيث أوضح كريستيان نونليست، الخبير لدى مركز الدراسات حول الأمن بالمعهد التقني الفدرالي العالي بزيورخ أن “هذه الرئاسة ستعمل على تعزيز مكانة سويسرا كبلد وسيط ومُساعِد في عمليات التفاوض”.
خلال اجتماع عقدته منظمة الأمن والتعاون في أوروبا في كييف يومي 5 و6 ديسمبر 2013، وجّه وزير الخارجية السويسري ديديي بوركهالتر نداءً إلى السلطات في أوكرانيا، ذكّــر فيه بأن “من مسؤولية كل الدول حماية حقوق الإنسان لمواطنيها، بما في ذلك الحق في التظاهر سِلميا”.
في إشارته إلى رفض حكومة أوكرانيا التوقيع مؤخرا على اتفاقية تعاون مع الإتحاد الأوروبي، أكّد رئيس الكنفدرالية لعام 2014 بأنه “لا يجب إرغام لا أوكرانيا أو أي بلد آخر على الإختيار بين الشرق والغرب”، كما شدد على أن “منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، تُـعتبَـر أحسَن ضامِن لتفادي انقِسامات جديدة بين الشرق والغرب”.
ترغب سويسرا، التي تترأس المنظمة في عام 2014، في استغلال هذه الفرصة لـ “بناء الجسور”، سواء فيما يتعلق بالصراعات المحلية أو بين “المناطق أورو- آسيوية، والمناطق الأورو – أطلسية”. وفي تلك المناسبة، عدّد وزير الخارجية السويسري أولوياته بهذه المناسبة كما يلي:
– الإسهام في إيجاد حلول للصراعات، وبالأخص في غرب منطقة البلقان وجنوب القوقاز.
– تحسين الوقاية من الكوارث الطبيعية وحُسن إدارتها، واحترام الدول الأعضاء لتعهّداتها في مجال حقوق الإنسان.
– تعزيز قدرة منظمة الأمن والتعاون في أوروبا على التحرّك للسماح لها بالتدخل بفعالية في الأزمات، وبالأخص كوسيط. وهذا بإدماج أكثر لمنظمات المجتمع المدني والشباب في هذه الجهود.
(المصدر: وكالة الأنباء السويسرية ATS-SDA)
تعاون مع صربيا
في الواقع، لم تكن سويسرا، حسب أقوال مسؤولين بوزارة الخارجية، راغبة في تولّي هذه الرئاسة، لكنها تلقّت تشجيعا كبيرا من قِـبل باقي البلدان الأعضاء، لكي تستلم رئاسة منظمة الأمن والتعاون من أوكرانيا في موفى 2013.
عندها اقترحت برن أن تتولّى هذه المهمة لمدة سنتين بالإشتراك مع صربيا التي كانت منافسة سويسرا الرئيسية لتولي المنصب في عام 2014. وبما أن هذا المقترح هو الأول من نوعه في تاريخ المنظمة التي تأسست عام 1975، يرى توماس غريمينغر، سفير سويسرا لدى منظمة الأمن والتعاون في أوروبا أنه “بذلك تكون سويسرا قد جازفت بتحمّل مخاطر مدروسة، وهو ما سيسمح للمنظمة بمواصلة مسيرتها الطويلة”.
عمليا، سيتولّى وزير الخارجية ديديي بوركهالتر رئاسة المنظمة بشكل رسمي ابتداء من أول يناير 2014، على أن يتولاّها نظيره الصربي انطلاقا من بداية عام 2015. ومن الصُّـدف أن يتولّى بوركهالتر ابتداء من نفس التاريخ رئاسة الكنفدرالية السويسرية للعام القادم، وهو ما سيُتيح له إمكانية إجراء محادثات ثُـنائية مع قادة الدول الأعضاء في منظمة الأمن والتعاون، طِـبقا لما يسمح به البروتوكول الدبلوماسي.
في هذا السياق، يرى كريستيان نونليست، أن بإمكان سويسرا أن تستفيد من رئاستها لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، من أجْل توثيق علاقاتها مع صِربيا، التي عرفت بعض الجمود منذ عام 2007، أي إثر إقدام سويسرا – كأول بلد في العالم – على الإعتراف باستقلال جمهورية كوسوفو المنشقّة عن صربيا. وأضاف نونليست أن “من شأن هذه الرئاسة أن تعزّز دور سويسرا كوسيط مُحايِـد في أوروبا الشرقية”.
مهمّة وساطة
في الأثناء، يُمكن أن توفر رئاسة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا فرصة إضافية لجيل جديد من الدبلوماسيين السويسريين للإحتكاك بالساحة الدولية، في الوقت الذي تستعِدّ فيه برن، وِفقا لبعض المراقبين، لتقديم ترشيحها لعُضوية غيْر دائمة في مجلس الأمن الدولي.
من جهة أخرى، يمكن لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، التي تحتفل في عام 2015 بمرور أربعين عاما على تأسيسها، أن تستفيد بدورها خلال فترة الرئاسة السويسرية من جودة العلاقات الثنائية بين برن وموسكو ذلك أن سويسرا ظلت – بحكم أنها بلد مُحايد – بعيدة عن شتى أصناف التحالفات السياسية والدفاعية.
على صعيد آخر، قد تأمل منظمة الأمن والتعاون في أوروبا أيضا في أن تساعد الرئاسة السويسرية على إدخال شيء من التجديد على ما يُعرف بـ “سياسة الحلول الوسطى”، التي قد تستفيد منها كل الأطراف المعنِيّة، خصوصا وأنها كانت نقطة القوة بالنسبة للمنظمة في منطلقها. وفي هذا السياق، يُشار إلى أن وزير الخارجية السويسري ديديي بوركهالتر شدّد في السابق على الدور التقليدي لسويسرا بوصفها “باني الجسور”.
البلقان والقوقاز
أوضحت هايدي غراو، رئيسة قسم منظمة الأمن والتعاون في أوروبا بوزارة الخارجية السويسرية، بأن من بين أولويات سويسرا، العمل على تحقيق المُصالحة في منطقة البلقان وفي جنوب القوقاز وتعزيز الأمن الإنساني وحقوق الإنسان والتعاون الإقليمي وتوظيف سياسة المساعي الحميدة، من أجل تحقيق هذه الأهداف، إذ شددت الدبلوماسية السويسرية على “أننا لا نرغب في أن تكون رئاستنا لهذه المنظمة مجرّد رئاسة عابِرة”، موضِّحة بأن سويسرا تبحث عن حلول مُستدامة.
لكن السيدة هايدي غراو، أشارت في نفس الوقت للبنية المعقّدة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا موضِّحة “بأن الدور القيادي مهمِ، ولكنه لا يكفي لوحده في منظمة ترتكِز سياساتها على اتخاذ القرارات بالإجماع”.
وكما أضافت المسؤولة الدبلوماسية السويسرية، بأن من مصلحة سويسرا أيضا، توفير الاستقرار والأمن في أوروبا. وقد تعمل الرئاسة السويسرية على تعزيز العلاقات الثنائية مع عدد من البلدان الأعضاء في منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، التي من بين أعضائها أربعة بلدان تتمتّع بالعضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي، وعلى 8 من أهم الاقتصادات في مجموعة العشرين.
لكنها ترفض في نفس الوقت الإعتقاد بوجود صِلة مباشرة بين رئاسة منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، وترشيح سويسرا لمنصِب عضو غيْر دائم بمجلس الأمن الدولي بين عامي 2023/2024.
يوجد مقر منظمة الأمن والتعاون في أوروبا في فيينا، العاصمة النمساوية.
أُسست في عام 1975 تحت مُسمى “مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا”، وتم الإعتراف بها في عام 1992 كاتفاقية إقليمية وِفقا للفصل الثامن من ميثاق الأمم المتحدة.
بعد إعادة تسميتها بـ “منظمة الأمن والتعاون في أوروبا” في عام 1994، أصبحت بمثابة آلية للدبلوماسية الوقائية ولتفادي وقوع الصراعات ولإدارة الأزمات ولإعادة البناء وتعزيز أسس الديمقراطية للمجتمعات التي تخرج من صِراعات مسلحة.
في المجالين السياسي والعسكري، تعمل المنظمة جاهِدة للتخفيف من حدة التوترات وتعزيز علاقات الثقة المتبادلة وفرض الرقابة على الأسلحة في الحيِّز الجغرافي للدول الأعضاء فيها.
تضم المنظمة حاليا 57 بلدا عضوا، من بينها سويسرا التي انضمت إليها في عام 1975.
(المصدر: وزارة الخارجية السويسرية)
أي انعكاسات داخل سويسرا؟
الإلتزام السويسري في منظمة الأمن والتعاون في أوروبا لم يُثر معارضة سياسية داخل الكنفدرالية. فقد خصّصت برن محفظة مالية تناهز قيمتها 16 مليون فرنك، ستخصص بالدرجة الأولى لتغطية التكاليف المترتبة عن تنظيم المجلس الوزاري لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا الذي سينعقِد في مدينة بازل في شهر ديسمبر 2014.
في الأثناء، أقرّ أندرياس إيبي، عضو البرلمان عن حزب الشعب السويسري (يمين شعبوي) بأن الأزمة التي مرّت بها منظمة الأمن والتعاون في أوروبا خلال السنوات الأخيرة، قد أساءت إلى سُمعتها، إلا أنه شدّد في نفس الوقت، على الدور المفيد الذي قامت به كمُراقبة للإنتخابات وداعمة للديمقراطية. في المقابل، يبقى حزب الشعب مُعارِضا بشدّة للرؤية القائلة بأن رئاسة منظمة الأمن والتعاون في أوروبا هي “مرحلة تدريب وتأهيل” لسويسرا، لكي تضطلع بدور أكبر على مستوى الأمم المتحدة هذه المرة.
وأيا كانت المواقف، تُجمع كافة الأطراف المعنية على أن سويسرا تركت انطِباعا جيدا أثناء رئاستها الأولى لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا في عام 1996، عندما أشرفت آنذاك على الجهود الرامية إلى تطبيق اتفاقية السلام، التي وضعت حدّا لحرب البوسنة والهرسك.
(نقله إلى العربية وعالجه: محمد شريف)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.