عنف العراق: حرب طائفية أم حرب الآخرين؟
هل وقع العراقيون في فخ الحرب الطائفية التي خطّـط لها وأعلنها أبو مصعب الزرقاوي، الزعيم السابق لتنظيم القاعدة في بلاد الرافدين؟
أم أن تصاعد موجة القتل الطائفي تنفيس عن صراع السياسيين الطامحين إلى الاستئثار بمواقع السلطة والنفوذ على حساب الآخرين، أم هو رغبة أمريكية وصراع إرادات إقليمية؟
لتلمس الحقيقة، يجب التذكير مجدّدا أن بذور الفتنة الطائفية في العراق زرعت في مؤتمر المعارضة العراقية، الذي عقد في لندن منتصف شهر ديسمبر عام 2002 وما تلاه من اجتماع آخر استضافته بلدة صلاح الدين الكردية، شمال العراق، وقد رعى كل ذلك بجدارة، السفير الأمريكي الحالي في العراق زلماي خليل زادة، وكرّسه الحاكم المدني السابق بول بريمر، حين أسس مجلس الحكم المُـنحل، ووضع قانون إدارة الدولة الذي أصبح محور الدستور الجديد للعراق الجديد.
الولايات المتحدة، وهي السلطة الفعلية في العراق، قسمت العراقيين بسياستها التي استندت فيها إلى أخطاء النظام السابق، إلى سُـنة مقاومين للاحتلال، وشيعة متعاونين معه، واستفادت من أخطاء بعض الزعماء، الشيعة والسُـنة على السواء، لتوصل البلاد إلى ما هي عليه الآن: قتل على الهوية، مسرحه مناطق تتحوّل تدريجا إلى كانتونات مغلقة ذات لون مذهبي واحد، عبر عمليات التطهير الطائفي من الجانبين: السُـنة والشيعة، وهي في الواقع حرب طائفية قد تؤدّي في أحسن الأحوال إلى تقسيم العراق.
فصول الحرب الطائفية باتت مُـعلنة، وتتكرّر بنسخ متشابهة في مدن وقصبات العراق المختلفة، عدا إقليم كردستان الذي أعلن قادته عن وجوب حصول العراقيين من غير سكانه على تأشيرة دخول، وكفالة لسماح بدخوله هربا من رائحة الموت المنتشرة في أرجاء بلاد الرافدين.
لا يستطيع أحد من الساسة أو من حكام البلاد الفعليين أن هذه الحرب موجودة في مصرع العشرات من السُـنة والشيعة يوميا، وفي مهاجمة مساجد يؤمّـها الشيعة وأخرى للسُـنة، وتفجير سيارات مفخخة في أحياء مختلفة من بغداد، التي تشهد أحياء مختلفة منها عمليات قتل جماعية على أساس طائفي، تستهدف السُـنة والشيعة مع استمرار العمل بالخطة الأمنية المتعثرة، والاغتيالات المتواصلة في البصرة، والتهجير الطائفي بما دفع إلى تمديد حالة الطوارئ، التي بدأ العمل بها يوم 3 يونيو الماضي، وكلها عمليات تبدو ثأرية تتحرّك بأشكال متوالية هندسية متصاعدة، ضحاياها من المدنيين، والمتهم يبقى مجهولا.. والجميع يُـدين العمليات!
حقائق خطيرة
مجلس النواب ناقش هذا الفلتان الأمني، وارتفعت أصوات من داخله انتقدت أداء الحكومة وطالبت بحلول عاجلة. مناقشات مجلس النواب حول الملف الأمني، شارك في جزء منها رئيس الوزراء نوري المالكي، وكانت ساخنة. وطلب أكثر من 25 نائبا التحدث، ومعظمهم ألقى بالمسؤولية على الحكومة واتهمها بالعجز في مواجهة كارثة تحل بالعراق اسمها الفتنة الطائفية.
تلك المناقشات كشفت حقائق خطيرة، عندما أعلن الشيخ جلال الدين الصغير من قائمة الائتلاف الشيعية ومن شخصيات المجلس الأعلى وإمام مسجد بُراثا، الذي تعرّض أثناء صلاة الجمعة إلى تفجيرين أوديا بالعشرات من المصلّـين، أن الخطة الأمنية لبغداد وُضعت من قبل الأمريكيين، وحمّـلهم مسؤولية التدهور الأمني، وقال “إن الأمريكيين.. إما لا يعرفون بشعاب مكة أو أنهم لايكترثون لما يجري”.
وعليه، طالب الصغير بوضع خطة أمنية عراقية، ومنح العراقيين صلاحيات كاملة، ورفع صوته لينادي باستدعاء ممثلين عن قوات الاحتلال إلى البرلمان، لمعرفة دورهم في ما يجري من تدهور أمني، وليثير دهشة، ربما غير حقيقية، حول دور الأمريكيين، أظهرها السياسي الكردي المخضرم محمود عثمان، الذي دعا في مجلس النواب إلى إعلان الفشل في الملف الأمني، إذا لم تًكشف الأسباب، وطالب بمراجعة للذات وتقييم للسياسات السابقة.
المناقشات كشفت أيضا، ولكن خارج قبّـة البرلمان، أن السفير الأمريكي في بغداد زلماي خليل زادة خلال زيارته الأخيرة لواشنطن، اقترح التعاون والتنسيق مع الأحزاب السُـنية، وخاصة الحزب الإسلامي، أكثر من أي وقت مضى، وأنه أعطى الضوء الأخضر للإسراع في تشكيل ميليشيات سُـنية، واصفا دورها بـ “الاستراتيجي”، مشددا على أهمية تقوية ميليشيات سُـنية متعاونة مع الإدارة الأمريكية، ومسيطر عليها، لإيجاد توازن مع الميليشيات الشيعية التي اتهمها الجنرال كيسي، قائد القوات الأمريكية في العراق بأنها أخطر من تنظيم القاعدة.
وبموازاة ذلك، فإن زيارة وزير الدفاع الأمريكي “المفاجئة” إلى بغداد لبحث العنف الطائفي وحل الميليشيات الشيعية، جاءت لتعبّـر عن اقتناع الولايات المتحدة بمجموعة تقارير قدّمها السفير الأمريكي حول ضرورة العمل للضغط على التيارات السياسية الشيعية، لحلّ الميليشيات المُـرتبطة معها، وهي إشارة إلى جيش المهدي، التابع للتيار الصدري، وفيلق بدر الذي تحوّل إلى منظمة بدر، والتابع للمجلس الأعلى، الذي يتزعمه سيد العزيز الحكيم.
السفير زلماي خليل زادة اقترح توجيه ضربات قوية لجيش المهدي ولمنظمة بدر، وربما تشمل تنفيذ اغتيالات بالإضافة إلى عمليات عسكرية واسعة، كما حصل في مدينة الصدر، وتحميل جيش المهدي مسؤولية القتل الجماعي الذي نُـفّـذ في حي الجهاد والشعلة ومناطق أخرى من بغداد.
إذن، فإن الأمريكيين هم من يدير البوصلة باتجاه الحرب الطائفية، وهذا ما كشفته مناقشات مجلس النواب. فقد اتهم القيادي البارز في حزب الدعوة علي الأديب، الأمريكيين بأن لهم دورا خفيا في تأجيج الصراع الطائفي، وكذلك فعلت النائبة صفية السهيل، من القائمة العراقية بزعامة أياد علاوي، التي قرأت بيان استغاثة عن أهالي طالبوا بوقف عمليات قصف الهاونات المستمرة التي تستهدف منازلهم، وتلقّـيهم المئات من رسائل التهديد تطالبهم بالرحيل الجماعي، وإلا سيتعرضون للقتل والترحيل القسري. وذكرت أن القوات العراقية والامريكية لهما دور سلبي في عدم إنقاذ أهالي تلك المناطق وتركهم هدفا لقصف طائفي.
في المناقشات أيضا، نبّـه النائب مثال الالوسي، وهو سياسي سُـني مستقل، إلى أن حل المشكلة الأمنية لن يتحقق ما لم يُـشخّـص المجرم الحقيقي الذي وراءها، وذكر أن الفساد الإداري له دور كبير في تداعيات تدهور الوضع الأمني.
وأيضا، النائب عن القائمة العراقية، مهدي الحافظ، دعا إلى مراجعة السياسات السابقة، واتهم برنامج الحكومة الحالية بأنه يركّـز على ضرورة إعادة التوازن في كل شيء بما يرسّـخ مفهوم المحاصصة الطائفية في جميع مرافق الدولة العراقية.
هذا النائب، وهو وزير سابق، اعترف أن الكثير من أعضاء البرلمان ليس لديهم معلومات واضحة عن المليشيات، وتفاجأ حين علم أن نحو 37 مليشية، منظمة وغير منظمة، موجودة في البلاد، وأن قسما منها يخضع لسيطرة جهات رسمية، وهي تتواجد أمام مرآى ومسمع الجميع، وتملك مختلف الأسلحة.
مهدي الحافظ، هو الآخر شكّـك في دور قوات الاحتلال الأمني، وتساءل عن حقيقة السيادة الوطنية في العراق، وأشار بقوة إلى دور واضح للدول الإقليمية التي تحيط بالعراق، وتدعم كل دولة، إما السُـنة أو الشيعة، إعلاميا وماديا.
حرب الآخرين!
عموما، مناقشات البرلمان الساخنة كشفت عن حقائق خطيرة: عن دور خطير للقوات الأمريكية وباقي قوات التحالف في تدهور الوضع الأمني، وبالخصوص عند عدم أكتراثها بإنقاذ الأهالي الذين يتعرضون لقصف الطائفيين، سُـنة كانوا أم شيعة، أو في تلقيهم رسائل تهديد لحملهم على الهجرة، وكشفت أن الحكومة العراقية غير مبسوطة اليد في تطبيق الخطة الأمنية وعدم تمتّـعها بالسيادة الكاملة.
كما كشفت أيضا عن دور خطير للمليشيات المعروفة أو تلك التي تعمل تحت الأرض، وأن عددها يقارب 37 مليشيا لحدّ الآن، وهو ما يعتبر رقما خطيرا، هذا إذا لم يكن أكثر من الرقم المُـعلن بكثير.
وكشفت عن دور لدول مجاورة للعراق بتغذية الفتنة الطائفية، وذلك بدعم امتدادتها الطائفية داخل العراق، وأن منظمات دولية تقوم بدور سلبي في عدم استقرار العراق، بإصرارها على إجراء تغييرات عاجلة وسريعة في الدعم الحكومي للمواد الأساسية للشعب العراق من وقود وتموين، وأن تلك الحقائق كان لا يمكن الكشف عنها لو لم تكن جلسات البرلمان علنية.
مليون عراقي نزحوا من مناطقهم؟
بعد تفجيرات سامراء في شهر فبراير الماضي، والتي خطط لها لتشعل الفتنة الطائفية، اشتعل العراق بموجات قتل طائفية، ونزل مقاتلون إلى الشوارع يحرقون المساجد ويعبثون بحياة البشر، بينما القوات الأمريكية وباقي قوات الاحتلال في مدن العراق الأخرى، كالبصرة مثلا، انسحبت من الشوارع لتُـتيح للمقاتلين مُـمارسة هوايتهم في العنف الطائفي.
وفي بغداد هذه الأيام، حيث تزداد موجة القتل الجماعي “الطائفية”، ورغم استمرار الخطة الأمنية، فإن القوات الأمريكية لا تبدو متواجدة في مناطق تُعد استراتيجية، مثل حي المنصور، ويُـفترض أن تكثف القوات الأمريكية والجيش والشرطة العراقية من تواجدها فيه وحوله، لأهميته الاستراتيجية كونه يضم الحي الدبلوماسي، لكنه بات اليوم بيد المسلحين “المسيطر” عليهم، لأن في ذلك ضمانة لموازنة نفوذ للميليشيلت الشيعية، بحجة أن ذلك من شأنه احتواء ومواجهة الميليشيات التابعة لقوى سياسية متعاطفة ومتعاونة مع إيران.
التصرفات الأمريكية، التي بدأ الحديث عنها لأول مرة، ولو على استحياء في مجلس النواب، تشعل نار الفتنة الطائفية وتزيد الأوضاع الأمنية سوءا.
الآن، يوجد في بغداد عدد كبير من الميليشيات الطائفية: في مدينة الصدر والكاظمية والأعظمية والتاجي وخان ضاري في ابوغريب والدورة والمحمودية والاسكندرية واليوسفية والمدائن، ومناطق عديدة من محافظة ديالى القريبة، وعدد منها يقوم بإطلاق قذائف الهاون على مناطق في بغداد تسكنها أغلبية شيعية أو سُـنية.
كل ذلك يجري وقوى سُـنية تتّـهم ميليشيات الأحزاب الشيعية، وهذه الأخيرة تتّـهم، في المقابل، مسلّـحين بعثيين يسمَّـون صدّاميين، وآخرين يطلقون عليهم التكفيريين.
اللافت، أن محمود المشهداني، رئيس مجلس النواب اتهم هو أيضا القوى المحتلة بدفع العراقيين نحو الحرب الأهلية، وتوّج اتهامه بالقول “إن هناك فرقة إسرائيلية دخلت العراق وتعيش مستترة، وتحاول اختراق كل الجبهات”.
الأخطر من كل الكلام، أن أعمال القتل تصحبها عمليات تطهير طائفي تجري على قدم وساق، وقد أشارت إحصائية أخيرة لوزارة المهجّـرين والمهاجرين، إلى أن عدد العائلات التي نزحت من مناطق التوتر، قارب خمسة وعشرين ألف عائلة، توزّعت على عموم محافظات العراق، باستثناء إقليم كردستان، بينما تذكُـر تقارير أن نحو مليون عراقي نزحوا من مناطقهم بسبب عمليات التطهير المستمرة في عنف طائفي يتصاعد، والمسميات تتدرج من حرب أهلية إلى حرب الآخرين إلى حرب طائفية.
نجاح محمد علي – دبي
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.