عودة الدفء بين الجزائر والرباط
تشهد العلاقات الجزائرية المغربية تحسّـنا لم تعرف له مثيلا منذ أحد عشر عاما.
وبالرغم من أن أزمة الصحراء لم تجد حلا نهائيا يرضي جميع الأطراف، إلا أن الجزائريين والمغاربة، يريدون الاستفادة من خيرات الوضع الطبيعي بأسرع وقت ممكن. لكن لماذا الآن؟
قبل القمة العربية التي عُـقدت في الجزائر ما بين 22 و 23 مارس الماضي، كثُـرت الإشاعات والأخبار المؤكدة بشأن قمة ستجمع العاهل المغربي الملك محمد السادس، والرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة.
غير أن الأسابيع الثلاثة التي سبقت القمة، شهدت هي الأخرى إشاعات تناقلها الصحفيون بشأن اعتزام الملك المغربي مقاطعة القمة لسبب مجهول، إلا أن ناقل الخبر من الصحفيين الجزائريين كان في بعض الحالات ممّـن تَـعوَّد على انتقاد الجارة المغربية، وتخصص في مسألة الصحراء الغربية، التي تُـسمم العلاقات بين المغرب والجزائر منذ أربعة عقود.
لا جدوى من التلاسن
وبالرجوع إلى دبلوماسيين غربيين وخليجيين في الجزائر، فإن عودة الدفء لخط الجزائر – الرباط بعد القمة، يبدو أمرا مفروغ منه لمجموعة من الأسباب العملية والواقعية، أهمها أن بوتفليقة ومحمد السادس، فَـهما أنه لا جدوى من التلاسن في مجلس الأمن بسبب الصحراء، وأنه لا جدوى أيضا من التلاعب بالقوى الإقليمية والدولية، لأن المغرب، إذا تمكّـن من “حشد” دعم الفرنسيين، فبإمكان الجزائريين “دفع” الأمريكيين إلى معاكسة فرنسا، وهكذا دواليك.
كما أن “ربح” المغرب التقليدي لموريتانيا وتونس ومصر والسنغال ودولا إفريقية أخرى إلى جانبه، اصطدم بدعم دولة جنوب إفريقيا لجبهة البوليزاريو، ورغبة جوهانسبورغ في استقلال إقليم الصحراء عن المغرب.
كل هذا، جعل العمل الدبلوماسي من دون فائدة، وفي مثل هذه الحالة، يتحول الفرح بتحقيق نصر دبلوماسي ما إلى إحساس مرير بتلقي هدف التعادل قبل نهاية المباراة في الوقت بدل الضائع.
يُضاف إلى كل هذا، ملل عبّـر عنه الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بشأن توقف التعاون الاقتصادي بين دول المغرب العربي بسبب الخلاف الجزائري المغربي، ثم التلاسن والانتقاد المتبادل بين دبلوماسيي البلدين من جهة، ونظرائهم الأوروبيين، من جهة أخرى بشأن الهجرة غير الشرعية وأفواج البشر التي تغزو أوروبا ركوبا في زوارق الموت.
خسائر البلدين و”تصرف” المواطنين
الغريب أن انتقاد الإسبان والإيطاليين للمغاربة بسبب “تهاونهم” أو “تواطئهم” في ملف الهجرة، يزعج الجزائريين عندما يُطلَـب منهم حل إشكال لا يعنيهم بشكل مباشر، ولعل ما يزعج الجزائريين، بحكم الطبيعة، ولو كانوا دبلوماسيين، هو صعوبة الطلب وليس التعامل مع الأوروبيين بشكل مباشر.
ولا يمكن أن نجد هيئة دبلوماسية غربية واحدة تحاول التمسّـك بمنطق فرق تسد، لأنه جلب على جنوب أوروبا الوبال والمخدرات، وبما أننا في عام 2005، فمنطق الأشياء مختلف عن عام 1840 مثلا…
ووسط كل هذا، وبعد أحد عشر عاما، خابت حُـجج المتطرفين أو “المتمسكين بآرائهم” في وزارتي خارجيتي البلدين، لأن نداء سكان المناطق الحدودية أصمّ الآذان في العاصمتين، وخسائر أحد عشر عاما من غلق الحدود المشتركة، كلّـف البلدين نتائج فظيعة تُـعد حربا بأتم معنى الكلمة، بل قد تتجاوزها.
فالمغرب يخسر سنويا ما يعادل أربعة مليارات من الدولارات، يمكن له أن يستفيد منها في حال الحدود مفتوحة، وهذا المبلغ لن تعادله مصروفات وزارة الدفاع المغربية بأي حال من الأحوال، وبجمع أحد عشر عاما، وهو زمن غلق الحدود، تكون المغرب قد خسرت أربعة وأربعين مليار دولار أمريكي على أقل تقدير من دون أن تخوض حربا ضد الجزائر، بل لمجرد أن الحدود مغلقة.
وبالنسبة للجزائر، فإن خسائرها غير مقدّرة، لكنها تعادل الخسائر المغربية أو تقاربها، والأسباب واضحة، أهمها شبكات التهريب الخيالية التي نتجت عن غلق الحدود، علما أن مواطني البلدين تمردوا منذ زمن طويل على قرار الغلق ووضعوا قوانينهم الخاصة، فكل شيء يمر ويُـباع ويُـشترى، ولتذهب قرارات الرئيس والملك إلى الجحيم.
وبالفعل، دخلت الدولة الجزائرية في جحيم تسرب مئات الملايين من الدولارات عن طريق تهريب الوقود بكميات ضخمة عبر الحدود، يضاف إليها مئات الشاحنات التي تقطع الحدود أسبوعيا سالكة طرقا فرعية وبعيدة عن أعين جمارك البلدين.
وتحوي الشاحنات، كل ما هو رخيص في الجزائر وغال في المغرب، والقائمة طويلة وتتضمن الزيت والدقيق والصابون وقطع الغيار والمواشي، خاصة الغنم، وأشياء أخرى كثيرة.
وبطبيعة الحال، لا يدفع المتّـجرون بهذه السلع ضرائبا، كما يجب تعويض ما هرّبوه من مال الدولة، التي لا زالت تدعم الخبز والحليب وأعداد ضخمة من العائلات الفقيرة في طول الجزائر وعرضها.
وبالرغم من غلق الحدود، فإن أي جزائري يمكنه المرور إلى الأراضي المغربية، والأمر نفسه بالنسبة لأي مغربي يريد التوجه إلى التراب الجزائري، حيث تفيد معلومات متداولة أن يتوجب عليهما دفع رشوة تُـقدرّ بعشرين يورو إلى حرس الحدود كي يمرا بسلام إلى الطرف الآخر، أما الأغرب من ذلك، فهو ما يتردد من أن رئيسي البلديتين الحدوديتين، وهما “مغنية” في الجزائر، و”وجدة” في المغرب على علم بمن يمر، وبالمدة التي سيقضيها.
تبادل السفريات الغير شرعية..
كما أن غلق الحدود لم يمنع الحرفيين المغاربة، وهم الأمهر في المغرب العربي من التوجه إلى العاصمة الجزائرية والمدن الكبرى لتزيين جدران وسقف بيوت علية القوم، الذين يعلمون أن من لديهم من المغاربة دخل بطريقة غير شرعية، كما أن علية القوم، منهم الدبلوماسي والغني والعسكري، والقائمة طويلة.
أما قاصمة الظهر بالنسبة للجزائر، فهي مسألة المخدرات. فقد زادت نسبة تهريب الحشيش من المغرب واستهلاكه في الجزائر، بسبب غلق الحدود وانعدم التعاون الأمني الذي كان سمة الحدود المفتوحة، ولا أحد يعلم بالتدقيق الآثار المدمرة لاستهلاك الحشيش داخل الجزائر، والنتائج التي خلّـفها، مثل الطرد من العمل والقتل والطلاق وغيرها، علما أن تقويم هذه الخسائر بالغ الصعوبة.
كل هذه النتائج المروعة داخليا وخارجيا، جعلت الخلاف حول مسألة الصحراء، مجرد “نكتة” أو “تفصيلا” يجب تناسيه وتجاوزه في أقرب وقت ممكن، وهو ما سعى إليه بوتفليقة ومحمد السادس في قمة الجزائر عندما التقيا مرتين، وهو أمر نادر الحدوث في تاريخ العلاقات بين البلدين في العشريات الأخيرة.
وبعد اللقاء الثاني، قرر بوتفليقة إلغاء تأشيرة الدخول على المواطنين المغاربة الراغبين في التوجه إلى الجزائر، وهو أمر كانت المغرب قد قامت بمثله في شهر يونيو من العام الماضي.
وفي نفس السياق، يختلف الجزائريون عن المغاربة في درجة الحماس لفتح الحدود، لسبب بسيط، وهو أن التهريب من المغرب إلى الجزائر، بعضه مدمر مثل المخدرات التي يريد الجزائريون من المغاربة مساعدتهم في محاربة دخولها إلى الأراضي الجزائرية (رغم أن البعض يتخوف من احتمال رد شبكات التهريب بين البلدين بأساليب أخرى أكثر تعقيدا وفجاجة).
في هذا السياق، يريد الرئيس الجزائري أن يناقش العاهل المغربي كل تفاصيل فتح الحدود كي يمنع أيضا تهريب الوقود الجزائري إلى المغرب، ويبدو أن الحكومة المغربية جادّة هي الأخرى في التطرق إلى هذه المسائل مع الطرف الجزائري.
على كل حال، يبدو أيضا أن فتح الحدود هي مسألة وقت قد تطول أو تقصر، لكن حسابها قد يكون هذه المرة – حسب المراقبين – بالأشهر لا بالسنوات، علما أن كلا الشعبين متحمّـس لزيارة بلد الطرف الآخر دون أن يضطر إلى دفع رشوة إلى حرس الحدود.
دوام الحال من المحال
تجدر الإشارة إلى أن رغبة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في رؤية الاستقرار داخل المغرب العربي عبر علاقات جزائرية مغربية حسنة، يقابل بتحركات استراتيجية على أرض الواقع، تمثلها أحسن تمثيل مبيعات الأسلحة لكلا البلدين اللذان يتّـبعان الآن سياسة تجديد المعدات وتحديثها.
ومن الواضح للعيان أن قوة الجزائر في ميدان ما، تقابلها قوة مغربية في ميدان آخر، تعادلها في القوة وتعاكسها في الاتجاه، بل إن روسيا الإتحادية تشارك هي الأخرى في هذا المسعى بأسلوب ورثته عن الاتحاد السوفياتي السابق.
ورغم كل شيء، توحي التطورات الأخيرة بأن العلاقات الجزائرية المغربية تسير في اتجاه تهدئة من نوع خاص، بعد أن اتفق الطرفان على ترك حلّ أزمة الصحراء للأمم المتحدة، وهذا شريطة أن لا يكون أمل كل طرف هو أن تحل الأمم المتحدة أزمة الصحراء “حسب رغبته هو”، لأن هذا يعني ببساطة أن عقارب الساعة قد تعود مجددا إلى الوراء.
وقد اتضح الآن أن أثر الضغوط الخارجية كان أبلغ وأقوى من التأثيرات الناجمة عن غلق الحدود والاحتجاجات الشعبية، وهو ما يعني أن لامبالاة الحكومتين حيال خسارة حوالي 80 مليار دولار خلال أحد عشر عاما يمثل طبيعة مترسخة وفهما للأمور بمذاق معين.
ومن هنا يدعو العقلاء في البلدين إلى ضرورة حل أزمة الصحراء بطريقة أو بأخرى، لأنها تحولت إلى باب مكسور للتدخل الخارجي، ولأن شيطان الحرب قد يُـظهر قرونه في لحظة ما لتستمر مبيعات الأسلحة “المتعادلة”، وليتواصل نزيف هدر المال العام من طرف البلدين.
وبما أن دوام الحال من المحال، يخشى البعض من أن تتجه السياسة الأوروبية أو الدولية بشكل عام يوما ما إلى التدخل المباشر في منطقة المغرب العربي حفاظا على مصالح حيوية معينة، من خلال التذرع بالخلاف الجزائري المغربي الطويل والزمن.
هيثم رباني – الجزائر
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.