عيد العمال.. يوم عمل في سويسرا
غرة مايو أيار ليس يوم عطلة في سويسرا! في المقابل، يتواصل الجدل داخل صفوف النقابيين حول كيفية الخروج من الأزمة العميقة التي تمر بها العلاقة بين الأطراف الإجتماعية منذ خضوع الجميع لأحكام السوق والعولمة..
يبدو الفاتح من مايو أيار من عام 1889 بعيدا جدا عن مخيلة الذين سيشاركون في الإحتفال بعيد العمال في مدينة زيوريخ هذا العام. ففي ذلك التاريخ، آحتُفل للمرة الأولى بالحدث على المستوى العالمي إثر قرار اتخذته الإشتراكية الدولية الثانية تخليدا لأول إضراب عام شنه ثلاثمائة وخمسين ألف عامل أمريكي في غرة أيار من عام 1886 للمطالبة بإقرار يوم عمل من ثماني ساعات.
أما اليوم، وفي ظل انتصار قوى السوق واتساع مجال العولمة فلا زالت النقابات تدعو العمال في العديد من العواصم الغربية والشرقية للمشاركة في مسيرات وتجمعات فقدت بريقها وحيويتها منذ نهاية الحرب الباردة. وفيما تحولت التظاهرة في فرنسا- لأسباب انتخابية داخلية – إلى محطة للمواجهة بين المجتمع وأقصى اليمين المتطرف، تستعد قوات الأمن في زيوريخ لمنع نشطاء أقصى اليسار من ممارسة شغبهم السنوي في التظاهرة العمالية الكبرى الوحيدة التي تنظم في سويسرا.
الفاتح من مايو- أيار، وعلى عكس معظم بلدان العالم، ليس يوم عطلة مدفوعة الأجر في الكونفدرالية بل لا يكاد يثير أي اهتمام لدى السويسريين الذين يقدسون العمل بشكل مثير للتعجب أحيانا. لكن عيد العمال العالمي يظل مناسبة للتذكير ببعض المشاكل التي تعاني منها النقابات السويسرية والساحة الإجتماعية عموما.
“العولمة مرت من هنا”…
عندما أقر الدستور الفدرالي حرية التنظم في عام 1848 فتح الباب على مصراعيه بوجه تشكيل عدد ضخم من الجمعيات والروابط والهيئات من مختلف المشارب والإهتمامات توزعت على كل الكانتونات. وبحكم التنوع اللغوي والديني والثقافي لسويسرا، لم يتشكل أول تجمع نقابي فعلي إلا في عام 1880 تحت اسم “الإتحاد النقابي السويسري”.
هذا الإتحاد لا زال قائما إلى اليوم ويعتبر أهم تشكيل نقابي في البلاد إلا أنه يعاني على غرار كل النقابات الأخرى من ظاهرة تراجع إقبال العاملين بمختلف أصنافهم على التجند لممارسة العمل النقابي أو مجرد الإهتمام بالدفاع عن المكتسبات الإجتماعية. فآخر الإحصائيات تؤكد أن أقل من ربع القوى العاملة السويسرية منتظمة في نقابة أو في منظمة شبيهة بل إن الساحة النقابية السويسرية موزعة بين أربع اتحادات رئيسية لا يتجاوز عدد أعضائها (حسب السجلات الرسمية) خمس مائة وأربعين ألف شخص!
قد يعتقد البعض أن تقاليد الحوار والتشاور العريقة في سويسرا قد سمحت للطبقة العاملة بالحصول، على امتداد القرن الماضي، على معظم ما يتمناه نظراؤهم في بقية بلدان العالم. وقد يستشهد البعض بالهدوء التام الذي يميز المناخ الإجتماعي في بلد لا يزيد فيه معدل البطالة عن اثنين فاصل ستة في المائة (في موفى مارس – آذار الماضي) ليعلن أن النقابات قد أدت واجبها وأنه قد آن الأوان لإحالتها على التقاعد.
هذه المعطيات صحيحة بلا شك. فهذا البلد يعرف منذ عشرات السنين ما يطلق عليه اسم “السياسة التعاقدية” التي تتميز بدورية المفاوضات بين النقابات وأرباب العمل في مختلف القطاعات والجهات (كل عامين أو أربعة أعوام). هذه السياسة سمحت إلى وقت قريب جدا بتجنب الهزات والإضرابات (التي لا زالت محظورة قانونا في العديد من القطاعات) وبتمكين الشغالين عموما من الحصول على حصة معقولة (محدودة جدا في نظر البعض) من الثروة الوطنية ومن ظروف عمل معقولة وضمانات صحية وتأمينية جيدة.
لكن عقد التسعينات وما صاحبه من أزمة اقتصادية لم تشهدها سويسرا منذ الخمسينات ومن ظواهر غير مألوفة ناجمة عن انعكاسات مباشرة وغير مباشرة لتسارع نسق عولمة الإقتصاد الدولي (بعد انهيار المعسكر الإشتراكي) في بلد يعتمد أساسا على تصدير المنتجات والخدمات، كشف عن اختلالات عميقة في العمل النقابي السويسري.
فقد تعددت الحالات التي أحيل فيها مئات العمال والموظفين على البطالة بدون أي سابق إنذار بل بدون إعلام السلطات السياسية الفدرالية أو المحلية ناهيك بالنقابات. وهو ما أحدث رجة نفسية هائلة في صفوف “الطبقة الشغيلة” ألحقت ضررا فادحا بمصداقية النقابات ودفعت نشطاءها إلى البحث عن الطرق الكفيلة بوقف الإنحدار وتدارك الخسائر.
لا مفر من العودة إلى ممارسة السياسة!
أول الإنجازات المسجلة في هذا السياق تمثلت في اتجاه العديد من النقابات الكبرى وخاصة في مجالات البناء والصناعات والخدمات نحو التوحد من أجل تشكيل قوى ضغط فعالة بوجه الأساليب الجديدة لأرباب العمل. فشهدت الساحة النقابية السويسرية حدثين مهمين خلال العامين الماضيين تمثل الأول في اتحاد أهم فيدراليتيتن نقابيتين تابعتين لاتحاد النقابات السويسري (المقرب من الحزب الإشتراكي) وتمثل الثاني في توجه كونفدرالية النقابات المسيحية والفدرالية السويسرية للموظفين (المقربتان من الأحزاب البورجوازية) إلى الاندماج في اتحاد عمالي قوي يكون قادرا على إيجاد توازن جديد على الساحة النقابية.
أما التطور الثاني، فهو تنامي الوعي في صفوف القيادات النقابية بأن الزمن تغير وبأن عهد حماية الإقطاعيات المهنية والدفاع عن المصالح الفئوية قد انتهى في ظل واقع جديد يرغم اليد العاملة النشيطة على تغيير نوعية الشغل ومكانه مرات عديدة في العمر استجابة لضرورات السوق المتغيرة بسرعة فائقة وطلبات أرباب العمل المتزايدة. ولعل ما قاله جون كونز الأمين العام السابق لنقابة قطاع البناء قبل عامين بالضبط، يلخص التحدي الهائل الذي يواجه الحركة النقابية السويسرية: “لا بد لنا من إعادة تشكيل ميزان قوى وإلا فان أرباب العمل سيأكلوننا بالملعقة الصغيرة”.
لذا فان التعبير الأكثر ترديدا على لسان المسؤولين النقابيين هذه الأيام هو: “لا بد من التصدي لمحاولات تفكيك المكاسب الإجتماعية” التي ناضلت أجيال من العمال من أجل الحصول عليها. لكن هذا التوجه يقتضي حتما عودة النقابات إلى ممارسة السياسة مثلما دعا إلى ذلك جون كلود رينفالد النقابي البارز والنائب السابق في البرلمان منذ عام ثمانية وتسعين في كتاب حمل عنوان “فلتحيا السياسة”، لقي صدى واسعا في الأوساط السياسية والإجتماعية.
وبما أن معظم النقابات السويسرية متهمة بتضخم بيروقراطيتها وبانقطاعها عن القاعدة العمالية العريضة بل وبتساهلها في العديد من الأحيان مع بعض الأعراف، فان خروجها من وضع “المهادنة” وتحولها مجددا إلى قوة ضاربة تستطيع حماية المكتسبات وتقدر على التفاوض بندية ونجاعة مع أرباب العمل لن تكون مهمة سهلة في المدى المنظور.
سويس إنفو
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.