فدرالية “قومية – جغرافية” أم “إدارية” في العراق؟
لا زال الجدل محتدما في العراق بشـأن ملف الفدرالية الذي اتّـضح أن مضمونها يختلف من طرف لآخر، رغم إجماع ظاهري على القبول بها.
وفيما يُـصرّ الأكراد الممثلون في مجلس الحكم الانتقالي على قيام فدرالية على أساس قومي، أعربت مُـعظم الأطراف العربية داخل المجلس وخارجه عن رفض لهذا التوجّـه.
أكّـدت مصادر عراقية أن بعض تيارات الأوساط الكردية تسعى لإعلان انفصال إقليم كردستان عن العراق في حال أصرَّ مجلس الحكم الانتقالي العراقي على رفض إقرار مبدأ قيام دولة فدرالية واحدة ذات إقليمين، عربي وكردي.
وذكّـرت المصادر القريبة من المجموعة الكردية في مجلس الحكم أن هذه التيارات بدأت تنشُـط مؤخّـرا في أوساط كردية مختلفة، لكنها تتركز في الأوساط المثقّـفة بشكل خاص، وأشارت إلى أن هذه التيارات اتجهت لتنظيم نفسها في مؤتمرات وتجمّـعات أخذت تكتسب أشكالا أكثر فعّألة في الآونة الأخيرة، حيث أعلن عن تشكيل “حركة الاستفتاء الكردستانية” في أربيل الأسبوع الماضي.
ويرى دُعاة وأنصار هذه التيارات أن مشروع الفدرالية يقصّـر عن الطموح الكردي في إقامة دولة مستقلة على أرض إقليم كردستان. وكشفت المصادر النّـقاب عن أن هذه التيارات عَـقدت مؤخّـرا مؤتمرا لها في أربيل، عاصمة إقليم كردستان الذي يُـسيطر عليه مسعود البارزاني، رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني، لبحث موضوع تنظيم استفتاء للشعب الكردي في العراق في إطار سياسة تقرير المصير التي يُـطالب بها الأكراد.
ويرى مراقبون أن عقد هذا المؤتمر يأتي في سياق تهيئة الأجواء لاحتمال إعلان انفصال إقليم كردستان عن باقي أجزاء العراق من جانب واحد، في حال فشلت الجهود الكردية لإعلان فدرالية قومية جغرافية.
“لم نكن جزءا من العراق”؟!
وقال مهدي خوشناو، رئيس اتحاد الكتاب الأكراد في أربيل، وأحد أعضاء المؤتمر: “إذا رُفض مشروعنا، لا استبعد أن يتحوّل طلبُـنا إلى خيار آخر قد لا يكون في صالح العراق”.
ومع أن خوشناو، الذي يُـعتبر أحد أبرز المثقّـفين الأكراد المعبرين عن خط البارزاني القومي لم يُـفصح عن ماهية هذا الخيار الذي لن يكون في صالح العراق، حسب تعبيره، إلا أنه كان يُـلمح إلى موضوع الانفصال عن الحكم المركزي في دولة مستقلة أو شبه مستقلة كخيار كردي بديل.
أما فرهاد عوني، رئيس نقابة صحفيي كردستان، فقد كان شديد الوضوح حينما قال: “إننا لم نكن جزءا من العراق حتى ننفصل عنه”، وذلك في معرض إجابته عما إذا كان أكراد العراق ينوون الانفصال عنه.
وشدد عوني، وهو أحد دُعاة تنظيم استفتاء كردي لتقرير مصير الشعب الكردي، وبالتالي، إقليم كردستان العراق، بالقول: “كنا جزءا ضُمَّ قسرا إلى العراق بقرار من الاستعمار، والآن نطالب بفك هذا الانضمام وعودة الأمور إلى طبيعتها”.
ويُـشاع أن نجيرفان البارزاني، رئيس حكومة إقليم كردستان يدعم شخصيا هذا التوجه، حيث علِـمِ أنه استقبل الأحد الماضي وفدا من حركة الاستفتاء أعرب لأعضائه عن ارتياحه للأعمال والتوجهات والواجبات المستقلة لحركة الاستفتاء، معتبرا انعقاد مؤتمر حركة الاستفتاء مكسبا كبيرا لجماهير كردستان.
كما أكّـد نجيرفان لأعضاء المؤتمر أن حكومة إقليم كردستان لا تتوانى في تقديم دعمها الكامل لمطالب حركة استفتاء كردستان وتنفيذها، والتي جاءت من أجل تحقيق مطالب المواطنين، واحترام الرأي العام، واصفا تلك المطالب بأنها وطنية ومسؤولة.
وقال مسعود البارزاني، وهو الزعيم التقليدي للقوميين الأكراد في مقال نشره مؤخرا في “صحيفة التآخي” الناطقة بلسان حزبه: “إن الأكراد بعد 12 عاما من حكم أنفسهم، لا يُـمكن أن يقبلوا بأقل من ذلك”.
ويرى المراقبون في إعلان السيد مسعود البارزاني إشارة واضحة لاحتمال اتخاذ خطوات على طريق الانفصال، في حال لم تتم الموافقة على إقامة فدرالية قومية في العراق.
أمريكا تطلب التريّـث
وعلم من مصادر وثيقة الصّـلة بمجلس الحكم الانتقالي العراقي أن السفير بول بريمر، الحاكم الأمريكي للعراق أبلَـغ القادة الأكراد لدى اجتماعه الأخير بهم في فندق خانزاد في أربيل الأسبوع الماضي أنه لا مجال في الوقت الحاضر لإقامة فدرالية قومية في العراق.
وربط بريمر بين موقفه هذا، وصعوبة الأوضاع في العراق الذي يمر الآن بمرحلة انتقالية بالغة الصعوبة، حيث تُـشير المصادر إلى أن بريمر قابل المشروع الكردي بتحفّـظ، كما انه طالب الجانب الكردي ممثلا بالزعيمين مسعود البارزاني، رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني، والذي يُـسيطر على محافظتي أربيل ودهوك، وجلال الطالباني، زعيم الاتحاد الوطني الكردستاني، والذي يُسيطر على محافظة السليمانية، بضرورة التريُّـث في طرح مشروع إنشاء فدرالية قومية في العراق لحين استقرار الأمور، والتوصل إلى دستور مؤقّـت للعراق، وهو ما يتوقّـع أن يتم في غضون عامين من الآن.
لكن مصادر كردية قالت إن الموقف الأمريكي لم يِـرُق للجانب الكردي الذي يعتقد أن فرصه في طرح مشروع الفدرالية القومية تضيـق كلّـما تقدّم الوقت باتجاه إجراء انتخابات عامة وإنجاز دستور للبلاد، حيث يرى الأكراد أن المرحلة الانتقالية التي يمر بها العراق حاليا ذات أهمية قصوى يتقرر فيها لعشرات السنين القادمة مصير إقليم كردستان ومصير العراق عموما.
وكانت الصحف الكردية الصادرة في مدن إقليم كردستان العراق قد قالت إن بريمر تِـهرّب من الجواب الذي يُـريده أكراد العراق، حينما تحدث عن عراق جديد ديمقراطي فدرالي موحّـد.
وقالت تلك الصّـحف إن الحاكم الأمريكي لم يُـحدد فيما إذا كانت الفدرالية المُـزمَـع إعلانُـها في العراق هي نفس الفدرالية التي يُـريدها الأكراد، وهي فدرالية قومية قائمة على مبدأ الاتحاد الاختياري بين إقليمين، أحدهما كردي، والآخر عربي، أم أنها ستكون فدرالية جغرافية؟ أي على أساس فدرالية المحافظات الثمانية عشرة التي يتكَـوّن منها العراق، وهو أمر يُـشجِّـعه الزّعماء الأكراد، ولكن بقدر تعلقه بباقي المحافظات العراقية فقط، وليس بمحافظات إقليم كردستان الثلاث.
خلاف داخل مجلس الحكم
وتُـشير المصادر القريبة من أوساط مجلس الحكم الانتقالي العراقي إلى أن بعض الأعضاء العرب في المجلس تقدّموا مؤخّـرا بمشروع فدرالية المحافظات، وهو ما يرفضه قادة الحزبين الكرديين الرئيسيين الذين يرون فيه ردّا مُـباشرا على مشروع فدرالية القوميات الذي يُـطالبون به، ويقولون إن فصائل المعارضة العراقية السابقة متّـفقة عليه.
ويقول قادة الحزبين الكرديين الرئيسيين إنهم اتفقوا مع الفصائل المعارضة في مؤتمري لندن وصلاح الدين بشأن المشروع الفدرالي للعراق، لكن الأطراف العربية المعارضة تقول إنهم اتّـفقوا على مبدأ الفدرالية مع الأكراد دون أن يبحثوا في تفاصيل ذلك حينها، مشيرين إلى أن بحث هذا الموضوع كان سابقا لأوانه في ذلك الوقت، أي قبل إسقاط نظام الرئيس صدام حسين.
ويرى الأكراد أن الأطراف العربية في موقفها هذا، إنما تتنصّـل من التزاماتها المُـسبقة في هذا الصدد، وهو الأمر الذي يكشِـف عن بوادر أزمة خطيرة في العراق، وفي داخل مجلس الحكم الذي يصطَـرع فيه تياران، وهو ما كشف عنه الدكتور عدنان الباجه جي، الرئيس الدوري للمجلس مؤخرا.
لكن موقف مجلس الحكم ليس واحدا بشأن موضوع الفدرالية، ففي الوقت الذي يعارضها فيه البعض، فإن أحد أعضاء المجلس من العرب الذين لا يُـمثلون تيارا سياسيا لا يُـؤيّـد فكرة منح الأكراد حُـكما فدراليا فحسب، بل إنه يتعدّى ذلك لمنحهم حق تقرير المصير أيضا.
ويقول سمير الصميدعي، إن الشعب الكردي له هوية وثقافة، وقد عانى كثيرا، مشيرا إلى أن الفدرالية هي الحل الحضاري لهذه المشكلة. ويمضي الصميدعي قائلا: “إن حق تقرير المصير للأكراد يجب أن يكون حُـرّا وغير مقيّـد. فللأكراد الحق في الانفصال أو البقاء مع العراق”، معتبرا منح أكراد العراق وضعا فدراليا في حدود جغرافية قومية رسالة تطمين حضارية!
أمّـا حسب الله يحيى، الكاتب العراقي المعروف، فيرى أن المخاوف التي يُـبديها البعض من منح أكراد العراق وضعا فدراليا، امتداد للمرحلة السابقة في العراق، حيث كان الرأي الواحد والحزب الواحد هما السائدان فيها.
ويتساءل يحيى: لماذا لا يريد البعض لشمس كردستان أن تُـضيء حياة الأكراد ودروبهم ودفاترهم بطريقة تُـؤمّـن لهم وجودهم في وِحدتهم التي مزّقـتها الحكومات السابقة؟
وتشير مصادر عراقية أن بعض التيارات السياسية العربية تعهّـدت لجلال الطالباني بدعم المشروع الكردي مقابل دعم مالي تحصُـل عليه. فيما تُـشير مصادر أخرى أن بعض الأطراف الكردية حصلت على تعهّـدات مكتوبة في هذا الصدد من بعض الأطراف السياسية العربية الأخرى، وهو أمر يُـمكن أن يكون مثار أزمة حقيقية في الشارع السياسي العراقي في المرحلة القريبة المقبلة.
ويخشى سياسيون عراقيون من خطورة الموقف الكردي، ويقولون إن المشروع القومي الكردي بالغ الخطورة، نظرا للطّـموح القومي الذي يكتنف أكراد العراق حاليا، مؤكّـدين أن البارزاني قال مؤخّـرا على ضرورة ضمّ أجزاء أخرى من الأراضي العراقية إلى إقليم كردستان العراق باعتبارها “كردستان المحررة بعد سقوط النظام”، وتشمل أجزاء من محافظات نينوى، وديالى، وواسط، فضلا عن محافظة التأميم ومركزها مدينة كركوك، أغنى مدن الشمال العراقي بالنفط.
ومن جهته، قال غسان مزهر العاصي، أحد أبرز شيوخ قبيلة العُبيد العربية التي تقطن قضاء الحويجة وأطراف مدينة كركوك” “إننا لا نكِـن أي حِـقد ضد الأكراد، فنحن شعب واحد، ولكننا نرفُـض بشدّة سياسة الحزبين الكرديين اللذين يُـحاولان جرّنا إلى حرب أهلية، وتقسيم العراق”.
لا حلّ وسـط بعدُ
على الصعيد نفسه، أكّـدت مصادر عراقية لـسويس انفو أن الأسبوع الماضي شهِـد انعقاد اجتماع مهمّ للجنة المركزية للحزب الديمقراطي الكردستاني في أربيل، عاصمة الإقليم الكردي.
وقالت المصادر إن الاجتماع الذي عقد يوم الاثنين 5 يناير 2004 وترأسه مسعود البارزاني رئيس الحزب، أكّـد أن مشروع فدرالية المحافظات لا يستجيب لمِـطالب الشعب الكردي في فدرالية سياسية جغرافية على أساس المُـعطيات التاريخية، حسب ما جاء في نص محضر الاجتماع.
وقال المحضر الذي حصَـلت سويس انفو على نسخة منه: “إن هذا المشروع لا يستجيب لمطالب الشعب الكردي، التي يجب حلّـها على أساس الاتحاد الاختياري بين إقليم كردستان كوحدة جغرافية سكانية سياسية من جهة، وإقليم أو بقية أقاليم العراق من جهة أخرى”.
ويأتي هذا الاجتماع في أعقاب سلسلة من الاجتماعات شهدتها أربيل بين الزعيمين الكرديين، مسعود البارزاني، رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني، وجلال الطالباني، رئيس الاتحاد الوطني الكردستاني، تلتها سلسلة اجتماعات أخرى بين الزعيمين الكرديين والسفير بول بريمر الحاكم الأمريكي للعراق لبحث تفاصيل العملية السياسية الجارية في العراق حاليا، وتداعيات مداولات مجلس الحكم الانتقالي العراقي بشأن المشروع الكردي للفدرالية.
كما أعقبت تلك الاجتماعات المكثّـفة سلسلة أخرى من الاجتماعات بين الطرفين الكرديين الرئيسيين، وأعضاء آخرين في مجلس الحكم من بينهم كل من الدكتور محسن عبد الحميد، ونصير الجادرجي، وموفق الربيعي، وأحمد الجلبي، وهي اجتماعات لم تُـسهم إلا في تثبيت مواقف كل طرف، وعدم التوصّـل إلى اتفاق على حل وسط.
مصطفى كامل – بغداد
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.