فقرٌ خفي في بلد غني!
قد لا يلحظُ الزائر لسويسرا وُجود عدد مُلفت للانتباه للمُتسولين في الشوارع. لكن مدَ اليد ليس مقياسا أساسيا للعوز في هذا البلد الذي يعيش واحدٌ من أصل أحد عشر من أبنائه تحت خط الفقر حسب المُعطيات التي كشفت عنها دراسة جديدة.
إذا تجوَّلت في شوارع المُدن السويسرية هذه الأيام، لا بُد أن تتوقَّف، ولو لثانية، أمام مُلصق إعلاني فريد من نوعه سيشُدّ انتباهك لا محالة: قطعتا خُبز الواحدة فوق الأخرى تتوسطُهما فاتورة وردية اللون، تُذكِّرُ القاطن في سويسرا بكومة الفواتير التي تتراكم في درج من أدراجه في نهاية الشهر والتي لا مفر من تسديدها إن أراد العيش بسلام.. أما التعليقُ المكتوبُ بالأحرف العريضة على المُلصق فيكشف عن حقيقة مُفاجئة في بلد غني مثل سويسرا: واحد من أصل كل أحد عشر سويسري يعيش تحت خط الفقر.
واذا تأمل المرءُ هذا المُلصق الإعلاني لاستخلص رسالتين. الأولى تجعل من الخُبز رمزا للرزق والدخل من جهة، ومن الفاتورة رمزا للمستحقات الذي يذهب اليها هذا الدخل في نهاية كل شهر لتسديد تكاليف الإيجار والتأمين الصحي ووسائل النقل وتعليم الأطفال…دون نسيان حاجيات المواطن من الغذاء واللباس. أما الرسالةُ الثانية فهي مُوجهة لغير الفُقراء الذين قد يشُدهم الإعلان، وربما يدفعهم إلى تقديم العون عبر ملأ قسيمة تبرع لفائدة المُعوزين من مواطنيهم. وهنا يدل الخبز والفاتورة الوردية اللون على تقديم العون والتضامن من أجل محاربة الفقر في سويسرا.
فكرةُ ربط الخُبز والفاتورة في مُلصق إعلاني نبعت من “الجمعية العُمالية السويسرية لتقديم العون” التي أطلقت حملة لتوعية المواطنين بالانتشار المتزايد للفقر بين أبناء الكنفدرالية. وتُحذر هذه الجمعيةُ المستقلة النشيطة داخل وخارج سويسرا من ارتفاع عدد الفُقراء في الكنفدرالية خلال السنوات القادمة.
محجوبٌ عن الأنظار..
وتقُول الجمعية الخيرية إن عدد الفقراء العاملين الذين يعيشون تحت خط الفقر ارتفع ليناهز 530000 خلال الأشهر الاثني عشر الماضية. وحسب إحصائيات فدرالية نُشرت في شهر مارس من العام الماضي، فان الفئات الأكثر معاناة من الفقر أو تعرضا لتهديد الفقر هي الأسرُ الكبيرة العدد والآباءُ أو الأمهات الذين يتولون تربية أطفالهم لوحدهم بعد طلاق أو انفصال، والعمالُ الحاصلون على المُستوى التعليمي الابتدائي فقط والأشخاصُ العاملون لحساب أنفسهم في مشاريع صغيرة.
وقد كشفت دراسة منفصلة أُنجزت العام الماضي في زيوريخ أن ثلث سكان الكنفدرالية مُهددون بالانضمام إلى صفوف الفقراء. ولم تخطئ هذه التنبؤات حيث تؤكد دراسة جديدة مولتها “الجمعيةُ العمالية السويسرية لتقديم العون” وأنجزها عالما اجتماع في جامعة زيوريخ أن رُبع سُكان سويسرا أصبحوا فقراء، معظمهم من النساء.
وتقول مديرةُ الجمعية الخيرية بريجيت شتيمن في تصريح لـ”سويس انفو” إن أكبر العراقيل التي تقف أمام محاربة الفقر في سويسرا تكمن في كون هذه الظاهرة محجوبة عن الأنظار بحيث لا يلحظ المتجول في الشوارع السويسرية كثرة المُتسولين. وبما أن الفقر غالبا ما يولد الخجل لدى المُعوزين، تشرح السيدة شتيمن أن معظم المُحتاجين يخفون حاجتهم ويترددون في طلب مساعدة الدولة. أما السيدة شتيمن فلا تتردد في القول بان “سويسرا ليست جنة أو بلدا غريبا لا يوجد به فقر.”
من جهتها، تشدد عضوة البرلمان ريغينا ابلي التي قادت حملة من أجل اعتماد تشريع خاص بمحاربة الفقر على أن السمعة التي تحظى بها سويسرا في العالم كبلد غني، صحيحة ومُضللة في نفس الوقت.
الثروة الوطنية في يد الاقلية
وتشرح السيدة ابلي وجهة نظرها قائلة: “إن سويسرا بلد غني جدا بالفعل، لكن المشكلة تتجسد في امتلاك 3% فقط من السكان لـ90% من ثراء البلاد فيما يقتسم 97% من المواطنين الباقي”، وهذا يعني بطبيعة الحال وجود شريحة من المواطنين لا تقوى على تلبية كافة متطلباتها الأساسية وتحتاج لمساعدة الدولة.
ولم تغفل رئيسة “الجمعية العمالية السويسرية لتقديم العون” بريجيت شتيمن الإشارة إلى عامل هام ساهم في بطء مكافحة الفقر في سويسرا حيث ذكَّرت أن الفقر ظل لمُدة عقود من بين المُحرمات ولم يُدرك المواطنون مشكلة انتشار هذه الظاهرة إلا مؤخرا. وتقول السيدة شتيمن في هذا السياق: “قبل حوالي سنتين كان الفقر من المُُحرمات في سويسرا ولم يكن أحد يتحدث عنه بالفعل، أما الآن فقد أصبح الناس يعون بشكل أفضل حجم هذه المشكلة”. ولا شك أن النجاح في توعية الجمهور السويسري بهذه الحقيقة كانت بمثابة تحدي بالنسبة للساهرين على محاربة الفقر في الكنفدرالية.
وتؤكد “الجمعيةُ العمالية السويسرية لتقديم العون” أن 18% من النساء السويسريات، معظمهن أمهات وحيدات، يتولين تربية طفل أو اثنين، يعشن تحت خط الفقر ويتقاضين راتبا شهريا يقل عن 3000 فرنك سويسري أي ما يعادل 1800 دولار أمريكي. وتلفت مديرة الجمعية السيدة شتيمن الانتباه إلى أن النساء هن الأكثر تعرضا لخطر الوقوع في فخ الفقر وان الجمعية ترغب في تركيز جهودها على هذا الجانب بالذات.
فقر أرحم من فقر!
وتعمل الجمعية العمالية السويسرية لتقديم العون حاليا على إقناع الحكومة بتعديل الكفة بين الأغنياء والفقراء باعتماد برامج تربوية وتكوينية للشبان الذين يدخلون سوق العمل. وتقول السيدة شتيمن في هذا الصدد “إننا نُنفق ملايين الفرنكات السويسرية لدعم القطاع الزراعي على سبيل المثال، لكننا لا نستثمر ما يكفي من الأموال في المجال التربوي وأعتقد أن هنالك قطعا حاجة للتغيير”. وتقر السيدة شتيمن بصعوبة القضاء على الفقر نهائيا لكنها واثقة من إمكانية مراقبة الحلقة المُفرغة التي تدور فيها الرواتب الهزيلة للفقراء السويسريين وديونهم الثقيلة.
القاطنُ في سويسرا من أبناء الكنفدرالية أو الأجانب قد يندهش لهذه المعطيات لكنه سيدرك حتما أبعادها بعمق وقد يشعر أنه جزء من الأرقام الواردة في الدراسة الجديدة حول الفقر.
فالمُعوزون الذين تتحدث عنهم الدراسة يتمثلون في أشخاص يتلقون أجرا ضعيفا ولا يتبقى لديهم شيئا بعد أدائهم للفواتير الشهرية ومتطلبات الحياة اليومية، الشيء الذي يدفعهم إلى الاقتراض من المصرف الذي يُدفع فيه راتبهم.
هذا يعني أن لهؤلاء الفقراء سقف وخبز وكساء على الأقل. فماذا تُرك للفقراء في دول عربية أو إفريقية أو آسيوية أو لاتينية..فيما يُسمى بدول الجنوب؟ فقراء قد يدفعون حياتهم ثمنا كي يُصبحوا فقراء سويسريين. هو ليس تنقيصا من حجم المشكلة في سويسرا بل مجرد تأمل في وضع دنيانا التي انقسمت إلى شمال وجنوب وغني وفقير وقلة تمتلك الكعكة كاملة وأغلبية تحلم بالفتات!
سويس انفو- إصلاح بخات
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.