في الطريق إلى “عراق جيت”..
قد يبدو للبعض أن لعبة تبادل الاتهامات عن مسؤولية الكذب لتبرير شن الحرب على العراق قد انتهت بتحمل مدير المخابرات الأمريكية المسؤولية الكاملة عما حدث.
لكن الديناميكية السياسية في واشنطن تشير إلى احتمال تحول القضية إلى “عراق جيت” بمضاعفات قد تؤثر مستقبلا على فرص إعادة انتخاب الرئيس بوش في نوفمبر 2004.
اعترف جورج تينيت، مدير المخابرات المركزية الأمريكية بمسؤوليته عن السماح بمرور 16 كلمة في خطاب الرئيس بوش عن حالة الاتحاد، تضمنت اتهاما للنظام العراقي بالسعي لشراء اليورانيوم من إفريقيا لإحياء البرنامج النووي العراقي.
وجاء إقرار تينيت بعد 24 ساعة من تقارير الأنباء التي ذكرت أن المخابرات الأمريكية كانت قد أبدت قلقها إزاء صحة المعلومات التي وردت في خطاب الرئيس بوش، وأن البيت الأبيض تجاهل طلبا من المخابرات الأمريكية برفع ذلك الاتهام من خطاب الرئيس قبل إلقائه في 28 يناير الماضي.
ورغم آلاف الأميال التي كانت تفصل بين تينيت ومستشارة الرئيس بوش للأمن القومي كوندوليزا رايس، التي كانت ترافق الرئيس بوش في جولته الإفريقية، فإنها سارعت إلى إلقاء اللوم عليه وأكدت أن الرئيس بوش لم يقل عن علم أي شيء كان يعرف أنه مخالف للحقيقة؟
وقبل أن يختتم الرئيس بوش جولته الإفريقية رأى أنه من الواجب ألا يدفع كبش الفداء تينيت ثمن تستره على خطأ الرئيس ويفقد وظيفته كمدير للمخابرات، فصرح الرئيس بوش بأنه يثق في قدراته ويعتبر أن المسألة قد انتهت بتحمله المسؤولية.
خلفية ما حدث!
ولكن الأمر في الواقع لن يكون بهذه البساطة كما عبر عن ذلك حاكم ولاية فيرمونت السابق، هاورد دين أبرز المتنافسين على الفوز بترشيح الحزب الديمقراطي لانتخابات الرئاسة القادمة الذي قال: “إن هذه الحكومة إما حمقاء أو لم تقل لنا حقيقة ما جرى”.
كما فجر السفير الأمريكي السابق لدى العراق جوزيف ويلسن قنبلة ستكون كفيلة بتحريك الديناميكيات السياسية في واشنطن باتجاه إجراء تحقيق مستق للكشف عن حقيقة ما حدث، وعدم الاكتفاء بالتغطية على ما يسميه بعض المراقبين السياسيين بفضيحة “عراق جيت”.
فقد صرّح السفير ويلسن، الذي عمل سفيرا للولايات المتحدة في جمهورية الغابون بين عامي 1992 و1995، أن المخابرات الأمريكية كلّـفته في فبراير 2002 بالتوجه إلى النيجر لتقصي الحقيقة عما ادعته أجهزة المخابرات البريطانية من إبرام صفقة يورانيوم مشع بين النظام العراقي وموردين في النيجر.
وبعد 8 أيام قضاها في مقابلات مع عشرات الأشخاص العارفين ببواطن الأمور، اتضح له عدم دقة تلك المعلومات وأرسل تقريرا بهذا المعنى إلى المخابرات الأمريكية وسلم نسخة منه إلى سفير أمريكا في النيجر، ونسخة أخرى لمكتب الشؤون الإفريقية بوزارة الخارجية الأمريكية، وبالتالي، يكون التقرير قد وصل إلى مجلس الأمن القومي ونائب الرئيس ديك تشيني، مما لا يستقيم معه مجرد إلقاء اللوم على مدير المخابرات وتحمله المسؤولية.
والتقط الخيط على الفور السناتور الديمقراطي كارل ليفين، أبرز الأعضاء الديمقراطيين في لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ الأمريكي وقال، إن ما عبر عنه السفير ويلسن يبعث على القلق وينطوي على معلومات بالغة الأهمية ويشكل دليلا شخصيا من مصدر له احترامه. ولذلك، كلف مساعديه بالشروع في تحقيق متعمق حول قضية اليورانيوم وقضايا أخرى متعلقة بقرار الحرب ضد العراق.
الكونغرس بين نارين
وسرعان ما انقسم الكونغرس الأمريكي حول قضية الكذب لتبرير الحرب على العراق. إذ حاول الجمهوريون بشكل عام التقليل من شأن قضية إدعاء شراء العراق لليورانيوم من النيجر، وقال السناتور الجمهوري جون وارنر، رئيس لجنة القوات المسلحة، إنه يتعين على لجنة المخابرات في المجلس إنهاء تحقيقها الخاص في القضية قبل أن تقرر لجنة القوات المسلحة ما إذا كانت ستراجع القضية بالتفصيل.
وأعرب السناتور الجمهوري عن اعتقاده بأنه لا يرى أي دليل على أن إدارة الرئيس بوش قد حرفت تقارير المخابرات لتلائم أغراضها السياسية، بل وعبّـر عن ثقته في أنه سيتم في نهاية المطاف العثور على أسلحة الدمار الشامل في العراق.
كما سارع السناتور الجمهوري، بات روبرتس رئيس لجنة المخابرات بمجلس الشيوخ إلى نجدة الرئيس بوش، فأكد مسؤولية مدير المخابرات الأمريكية عن ذلك الخطأ باعتباره المسؤول الأساسي عن مد الرئيس بمعلومات المخابرات.
ولكن الديمقراطيين لم يقفوا مكتوفي الأيدي إزاء التستر الجمهوري. فقد طالب السناتور الديمقراطي ديك دوربن، العضو البارز في لجنة المخابرات، بإجراء تحقيق مستقل في الموضوع وقال إن مصداقية الرئيس بوش في محك الاختبار ويتعين عليه أن يدعو إلى إجراء تحقيق واسع وكامل لتحديد المسؤول عن تضمين خطابه عن حالة اتحاد تلك المعلومات المضللة وضرورة معاقبتهم وطردهم من وظائفهم.
من جهة أخرى، يواصل الكونغرس عقد جلسات استماع حول مدى صحة المعلومات التي قدمها الرئيس بوش عن حيازة العراق لأسلحة الدمار الشامل، والتي لم تتمكن قوات الاحتلال الأمريكية من العثور على أي منها بعد ثلاثة أشهر من انتهاء الحرب.
ويرى السيد داريل كيمبل، رئيس الرابطة الأمريكية للسيطرة على التسلح، أنه أصبح واضحا أن العراق لم يكن يشكل خطرا محدقا بالولايات المتحدة كما حاول الرئيس بوش تصوير ذلك الخطر كمنطلق لشن الحرب الاستباقية على العراق. وبالتالي، فإن هناك إدراكا متزايدا في الولايات المتحدة لحقيقة أن الرئيس وإدارته استخدم معلومات لا مصداقية فيها ولجأ إلى التلاعب بمعلومات المخابرات لتبرير شن الحرب على العراق.
هل يدفع بوش الثمن؟
يعتقد المحللون السياسيون في واشنطن أن فضيحة”عراق جيت” سيكون لها آثار سلبية على فرص إعادة انتخاب الرئيس بوش لفترة رئاسية ثانية، حيث سيكون من السهل على خصومه من المرشحين الديمقراطيين إعادة تذكير الناخبين الأمريكيين بفشله في الحفاظ على الأمن القومي بالتقصير الواضح في الحيلولة دون وقوع أحداث سبتمبر الإرهابية، ثم في توريطه البلاد في حرب ضد العراق بمبررات كاذبة لم تقتصر فقط على صفقة اليورانيوم الوهمية فحسب، وإنما امتدت إلى إخفاء حقائق هامة عما سيتحمله دافعو الضرائب الأمريكيون من نفقات بسبب الوجود الأمريكي في عراق ما بعد الحرب.
كما تبين للشعب الأمريكي أن تلك النفقات تصل إلى 4 مليارات دولار شهريا، بالإضافة إلى الخسائر البشرية اليومية في القوات الأمريكية، وعدم الوفاء بالوعد الوهمي للرئيس بوش بأن تلك القوات لن تبقى في العراق يوما واحدا أكثر مما تقتضيه الحاجة، ثم تراجعه عن ذلك والتعلل بأن بناء العراق سيحتاج إلى سنوات حتى يتم توفير الاستقرار في البلد.
ويرى هؤلاء المحللون أن مصداقية بوش ستتآكل بمرور الوقت لسبب آخر، هو تأكيده لوجود علاقة بين النظام العراقي وبين تنظيم القاعدة، وأن النظام العراقي سيمرر أسلحة الدمار الشامل لتنظيم القاعدة الذي يمكن أن يستخدمها في شن هجمات أخطر من تلك التي تعرضت لها الأرض الأمريكية في سبتمبر 2001، غير أن القوات الأمريكية لم تتمكن من العثور على دليل واحد على وجود عناصر القاعدة في الأراضي العراقية، ناهيك عن فشلها في العثور على أي دليل على حيازة العراق لأسلحة الدمار الشامل.
وقد بدأ المتنافسون على الفوز بترشيح الحزب الديمقراطي لخوض معركة انتخابات الرئاسة الأمريكية القادمة في المطالبة بإجراء تحقيق شامل ومستقل في مزاعم الرئيس بوش التي استند إليها في تبرير حربه على العراق. فقال السيد هاورد دين، أبرز المنافسين الديمقراطيين للرئيس بوش، “نحتاج لإجراء تحقيق شامل ومستقل بمشاركة الحزبين وخارج نطاق الكونغرس”.
تراجع تأييد الرأي العام
وعلى صعيد الرأي العام الأمريكي، تظهر أحدث الاستطلاعات انخفاضا واضحا في تأييد أسلوب الرئيس بوش في التعامل مع الوضع في العراق من 74% في شهر أبريل وعقب الإطاحة بالرئيس صدام حسين، إلى 53% حاليا كما أفاد استطلاع أجرته مجلة نيوزويك الأمريكية.
وفيما يتعلق بالأدلة التي استخدمها الرئيس بوش لتبرير الحرب على العراق، أعربت نسبة 53% ممن شاركوا في الاستطلاع عن اعتقادهم بأن الرئيس لم يتعمد تضليل الشعب لتبرير الحرب. غير أن نسبة وصلت إلى 38% يرون أن إدارة بوش ضللت الرأي العام، وكان من الملفت للنظر في استطلاع النيوزويك أن نسبة من أيدوا إعادة انتخاب بوش لفترة رئاسية ثانية لم تزد عن 47%، فيما أعربت نسبة 46% عن عدم رغبتهم في إعادة انتخابه.
كما أظهر استطلاع آخر أجرته شبكة التليفزيون الأمريكية إيه بي سي ABC بالتعاون مع صحيفة واشنطن بوست انخفاضا في تقييم رضى الأمريكيين عن أداء الرئيس بوش لمهام منصبه من 68% قبل أسبوعين إلى 59% بسبب تردي الوضع في العراق.
ويقول الدكتور جيمس زغبي، مدير المعهد العربي الأمريكي، إن الناخبين الأمريكيين يقررون انتخاب المرشح لرئاسة الجمهورية على أساس اعتبارات محلية مثل قوة الاقتصاد، ومدى توفر الوظائف. ومع تدهور الأداء الاقتصادي في عهد الرئيس بوش سيخسر أصواتا كثيرة وسيحاول العمل على إحراز تقدم رئيس في عملية السلام في الشرق الأوسط من خلال خارطة الطريق وتصويرها على أنها ستخدم المصالح القومية الأمريكية من خلال زيادة فرص الاستقرار في المنطقة، وبالتالي، تقليص المخاطر الأمنية على المصالح الأمريكية في الخارج وتقليل فرص شن العمليات الإرهابية ضد الأراضي الأمريكية.
ولكن حتى وإن تحقق ذلك الإنجاز فلن يخدم الرئيس بوش كثيرا، حيث سيخسر أصوات اليمين المحافظ واليمين المسيحي المتطرف الذي يريد استمرار الصراع في الشرق الوسط حتى يصل إلى ذروته بحرب كبرى تنطوي على عودة السيد المسيح حسب اعتقادهم.
كما ستكون لفضيحة “عراق جيت” آثار أخرى تتعلق بمصداقية مبدأ بوش للحروب الاستباقية والتي بدأها بحربه الوقائية ضد خطر عراقي محدق تبين للشعب الأمريكي أنه كان من صنع الرئيس استنادا إلى معلومات مخابرات تبين أنها غير صحيحة.
ولذلك، لن يحظى الرئيس بتأييد لمبدأ شن الحروب على أساس أخطار موجودة في دول أخرى خشية أن تكون تكرارا لفضيحة “عراق جيت”، خاصة مع تزايد الخسائر الأمريكية في العراق، وتعثر عملية تدويل المشاركة في عراق ما بعد الحرب، التي استهدف بها الرئيس بوش إضفاء صبغة دولية تبعد عن القوات الأمريكية صفة المحتل وتوفر لها غطاء من الشرعية والأمن في نفس الوقت.
محمد ماضي – واشنطن
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.