قراءة في ملامح الخريطة السياسية الموريتانية
شكلت العودة الجماعية لقادة وعناصر تنظيم "فرسان التغيير" المسلح مؤخرا إلى نواكشوط، خطوة هامة في مسار التغيير في البلاد.
ومن شأنها أن تساهم إلى حد كبير في تحديد معالم المرحلة الانتقالية التي تمر بها موريتانيا حاليا، وأفق مستقبل العمل السياسي على المديين القريب والمتوسط.
هذه الخطوة، وبالإضافة إلى أنها تجسيد لا مراء فيه، لما سبق وأن أعلنه قادة التنظيم في المنفى من أنهم قرروا وضع السلاح كوسيلة في معركتهم السياسية، وإنهاء خيار الصدام المسلح، والعودة لممارسة النضال السياسي من الداخل، فإنها تشكل كذلك بلا ريب ظهور قطب سياسي جديد على الساحة السياسية الموريتانية، سيجد الفرقاء التقليديون في الساحة صعوبة كبيرة في تجاهله أو مناهضته، بل إن معظم النشطاء السياسيين سارعوا إلى مغازلة التنظيم ومحاولة استعطاف قادته.
وقد برهنت الجموع الحاشدة التي استقبلت العائدين من المنفى، على أن أفضلية السبق التي حققها “تنظيم فرسان التغيير” في مسعاه للإطاحة بنظام ولد الطايع عن طريق القوة، كانت الورقة الرابحة الآن التي يمتلكونها في معركة ما بعد ولد الطايع، كما هو حال الجموع التي خرجت إلى الشوارع مهللة لقرار الإفراج عن زعيم التنظيم الرائد صالح ولد حننا.
ولئن كان بعض اللاعبين السياسيين في الساحة الموريتانية، حسبوا للوهلة الأولى أن “فرسان التغيير” مجرد تنظيم مسلح كان يقاتل للإطاحة بولد الطايع، وأن دوره السياسي قد انتهى بانتهاء دوره العسكري، فإن زعيم التنظيم الرائد صالح ولد حننا سارع إلى نفي ذلك حين قال: “بكل تأكيد لن ننسحب من الساحة السياسية، فنحن جزء من هذا الشعب وسنسعى في المستقبل ومن داخل البلاد للمساهمة في بناء مستقبل هذا الشعب”.
ولم يكن صالح ولد حننا ليترك الباب مفتوحا على مصراعيه أمام طبيعة المشاركة التي يزمعون القيام بها مستقبلا، خشية أن يمضي البعض إلى الحديث عن عودتهم للخيار العسكري باعتباره النهج الذي يتقنونه، حيث يقول ولد حننا: “فرسان التغيير سيستأنفون نشاطهم السياسي السلمي تحت مظلة شرعية ودستورية، فإما أن يشكلوا حزبا سياسيا مستقلا، وإما أن ينضووا تحت لواء أحد الأحزاب الموجودة التي يتقاطعون معها الرؤية السياسية”.
وانطلاقا من هذا التأكيد الذي أعلنه زعيم “تنظيم فرسان التغيير” عن عزمهم خوض غمار المعترك السياسي، وما رافق ذلك من تصريحات منسوبة لولد حننا أيضا، رفض فيها النفي بشكل قاطع ما تردد من أنباء عن احتمال ترشحه باسم التنظيم للانتخابات الرئاسية القادمة، مضيفا أنه “يضع نفسه تحت تصرف الشعب الموريتاني وتحت إمرة رفاقه في النضال”، يبقى الباب مفتوحا على مصراعيه أمام كل الاحتمالات، وتبقى ورقة فرسان التغيير، إحدى ورقتين يعتبرهما المراقبون للساحة السياسية في البلد، حاسمتين في معركة المرحلة الانتقالية.
ورقة الإسلاميين
أما الورقة الثانية فهي الإسلاميون الخارجون من السجن بتجربة سياسية قوية، ساهمت إلى حد كبير في التعجيل بسقوط نظام ولد الطايع، بل إن الكثير من المراقبين يرون أن دور الإسلاميين في إسقاط ولد الطايع، قد يكون حاسما من خلال إفشالهم للحملة السياسية التي شنها ضدهم، لإقناع الرأي العام العالمي بأنهم ثلة من الإرهابيين وأصحاب فكر ينتمي للقرون الوسطى.
فقد كشفت الأحداث الأخيرة أن نشطاء التيار الإسلامي كانوا على صلة بمعظم السفارات الغربية في نواكشوط وخصوصا السفارة الأمريكية، واستطاعوا إقناعها باعتدالهم ووسطيتهم، وزيف ما يرميهم به ولد الطايع من تهم بالتطرف والإرهاب، وبذلك استطاعوا أن يعطوا صورة عن نظام ولد الطايع، مفادها أنه نظام دكتاتوري ومتسلط، ويتعاطى مع خصومه السياسيين بمنطق العف والقمع.
ومن هنا يمتلك الإسلاميون أيضا ورقة مساهمتهم الأساسية في إزاحة ولد الطايع، إضافة إلى تجربتهم الطويلة في العمل السياسي ضمن خندق المعارضة في الداخل والخارج.
“الثقة المطلقة”!
وفي ذات السياق يبدوا أن معظم قادة الأحزاب السياسية في البلد، سواء تلك التي كانت تعارض ولد الطايع سابقا أو تلك التي كانت تدعمه، قد أخذت على محمل الجد تعهدات قادة المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية الحاكم في البلاد، بتسيير مرحلة انتقالية لا تتعدى سنتين، يتم بعدها تسليم السلطة لحكومة مدنية منتخبة، بل إن بعض من كانوا يوصفون في السابق بالمعارضة الراديكالية، رحبوا إلى حد الإطراء بالمجلس العسكري وتعهداته.
فالمرشح التقليدي للانتخابات الرئاسية أحمد ولد داداه وأحد أكبر معارضي ولد الطايع، بدأ سلسلة اتصالات ومشاورات سياسية مع بعض الأطراف في الساحة السياسية، تمهيدا لإعلان الترشح لخوض غمار الانتخابات الرئاسية، وزعيم حزب الجبهة الشعبية الشبيه ولد الشيخ ولد الشيخ ماء العينين، كان أول من أعلن عزمه خوض تلك الانتخابات الرئاسية، وتتردد داخل الساحة السياسية حاليا أسماء أخرى لمرشحين محتملين من بينهم الرئيس السابق محمد خونا ولد هيداله وزعيم حزب التحالف الشعبي التقديم مسعود ولد بلخير، والوزير السابق المصطفى ولد اعبيد الرحمن أحد المقربين من ولد الطايع..
هؤلاء جميعا سارعوا إلى مباركة الوعود التي أعلن عنها المجلس العسكري، فالسيد أحمد ولد داداه الذي عرف عنه تمسكه على مدى الثلاثة عشر سنة الماضية بخطاب معارض وصف بالراديكالي، سارع إلى القول بأن وصف حزبه بعد الثالث من أغسطس، بالحزب المعارض لم يعد وصفا دقيقا، لأننا – يقول ولد داداه – ساندنا مشروع المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية، وأعلنا ثقتنا في مشروعه الانتقالي.
وبخصوص الضمانات التي يرتكنون إليها في مساندتهم للمجلس العسكري، وثقتهم المطلقة في تعهداته يقول أحمد ولد داده: “الثقة ليست فيها احتمالات، فإما أن تحصل وإما ألا تحصل، والضمانات مهمة، وأنا لا أرى أن هناك ضمانة أكبر من أن يتحدث رئيس المجلس العسكري أمام الجميع، ويقطع على نفسه مثل هذه التعهدات”.
أما رئيس حزب الجبهة الشعبية محمد الأمين الشبيه ولد الشيخ ماء العينين الذي صدر بحقه حكم نافذ بالسجن 5 سنوات في عهد ولد الطايع أمضى نصفها في السجن، فد رفض وصف عملية الإطاحة بولد الطايع بالانقلاب وقال:”إنها ثورة وحركة تصحيحية، وليس من أهدافها احتكار الحكم، وإنما رسمت لنفسها أهدافا تستجيب لتطلعات الشعب الموريتاني من أجل بناء دولة قانون ودولة ديمقراطية”.
بل إن القوى الداعمة لولد الطايع خلال فترة حكمه، كانت هي الأخرى في طليعة من رحبوا بالتعهدات التي أطلقها المجلس العسكري. فالأمين العام للحزب الجمهوري الذي أسسه ولد الطايع وحكم البلاد باسمه على مدى الثلاثة عشر سنة الأخيرة، سارع أمينه العام بلاها ولد مكيه إلى القول إنهم يثقون بشكل مطلق في تعهدات المجلس العسكري ويساندونها كامل المساندة.
خريطة تتشكل .. ومفاجآت
هذه المواقف التي أجمع أصحابها على كلمة سواء تجاه المجلس العسكري وتعهداته، أوضحت أن الأقطاب التقليدية في الساحة السياسية لم تعد بالتمايز الذي كان سائدا في المستقبل، وإنما هناك خريطة سياسية تتشكل ملامحها حاليا، وقد تحمل من المفاجآت مستقبلا أكثر مما حمله انقلاب الثالث من أغسطس الذي لم يكن على ما يبدو مجرد انقلاب من رفاق ولد الطايع على كرسيه، بقدر ما كان انقلابا على سياسته وتوجهاته ونهجه في الحكم.
وتتعزز هذه المواقف بجملة إجراءات شرع المجلس العسكري في تنفيذها بعد وصوله إلى السلطة، كان من أبرزها إصدار قرار على شكل قانون يحظر على رئيس وأعضاء المجلس العسكري والوزير الأول وأعضاء الحكومة الانتقالية الترشح للانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي ستنظم خلال المرحلة الانتقالية، كما يمنعهم من دعم ومساندة أي مرشح أو حزب سياسي، وتقديم طلب إلى الأمم المتحدة للمساعدة في إرسال مراقبين دوليين للإشراف على تلك الانتخابات، هذا إضافة إلى تشكيل ثلاث لجان وزارية عهد إليها بتقديم مقترحات تتعلق بتسيير المسلسل الانتقالي الديمقراطي والقضاء والحكم الرشيد، وقد أمهلت هذه اللجان شهرين فقط لتقديم نتائج أعمالها التي ستتم بالتشاور مع كافة الفرقاء السياسيين وهيئات المجتمع المدني في البلد، كما شرعت الإذاعة والتلفزيون الرسميتين في تغطية نشاطات الأحزاب السياسية وإجراء حوارات مع قادتها، وهو أمر كان صعب المنال في ظل حكم ولد الطايع للبلاد.
إلا أن الإجراء الأهم حتى الآن هو إصدار قرار عفو شامل عن جميع السياسيين المدانين في جرائم وجنح سياسية إبان حكم ولد الطايع، وهو القرار الذي سمح بظهور أقطاب سياسية جديدة كانت حبيسة المنافي والسجون سابقا.
أسئلة مطروحة
وتبقى رغم كل ذلك أسئلة تطرح نفسها بإلحاح، وهي: هل سيسجل الحكام العسكريون في موريتانيا في صفحات التاريخ قصة انقلابيين في العالم العربي لا يريدون احتكار السلطة؟ وأي دور سيكون للمؤسسة العسكرية الموريتانية مستقبلا في ما بعد المرحلة الانتقالية؟ وهل سيبقى الجيش سيفا مسلطا على أعناق من يحكمون البلاد مستقبلا إذا ما سعوا لتخطي حدود اللباقة السياسية؟ وما هو مصير الوعود الطوباوية التي أطلقوها عشية استيلائهم على السلطة؟ أم أن كل هذه الوعود والبرامج مجرد ذر للرماد في العيون، وخطاب تكتيكي لتثبيت أركان الحكم داخليا وفك العزلة دوليا؟
هذه أسئلة مشروعة لكن الإجابة عليها تبقى حبيسة رحم الأيام والشهور والسنوات القادمة.
محمد محمود أبو المعالي – نواكشوط
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.