“قضية القرن” في سويسرا: النخبة في قفص الإتهام
تبدأ صباح الثلاثاء 16 يناير الجاري أولى جلسات قضية انهيار شركة سويس اير للطيران، في واحدة من الملفات التاريخية الهامة في الاقتصاد السويسري، وربما الأوروبي أيضا.
ويمثل أمام القضاء 19 شخصية من مدراء سابقين وأعضاء في مجلس إدارة الشركة المنهارة ومستشارين، يواجهون تهما تبدأ بالإضرار بالدائنين والتسبب في ضياع الثروات، وأقلها التحايل الضريبي.
تتركز دائرة الاتهام في هذه القضية على 3 شخصيات رئيسية، حيث يقف ماريو كورتي، مدير سويس اير التنفيذي ورئيس مجلس إداراتها السابق، في مواجهة 5 تهم دفعة واحدة. فإلى جانب التهمة الرئيسية الأولى، وهي الإضرار بالدائنين والتسبب في ضياع الثروات، يواجه أيضا تهم عدم الأمانة الإدارية، وتفضيل بعض الدائنين على غيرهم والتلاعب في البيانات الرسمية حول التعاملات التجارية للشركة.
ويشترك معه في نفس التهم السابقة، المتهم الثاني في القضية جورج شوردرت، المدير المالي السابق للشركة، مع إضافة تزوير المستندات والوثائق، ومعه زميلته في هذا المنصب جاكلين فوز، التي لم تزور في المستندات، وإنما يقال أنها لعبت دورا كبيرا في التفضيل بين الدائنين، لكن الثلاثة يوصفون بأنهم كانوا من صناع القرار وأصحاب القول الفصل في مسيرة الشركة قبل رحيلها.
تعود شهرة القضية إلى عوامل مختلفة، فهي المرة الأولى التي تنهار فيها مؤسسة سويسرية عملاقة بمثل هذا الحجم الذي كانت عليه تحت وطأة ديون، وإلى جانب أنها تسببت في خسائر مالية فادحة للمستثمرين والعمال والموظفين وأسرهم، فهي تمس أيضا واحدة من أكبر الشركات التي كانت تحمل اسم الكنفدرالية حول الأرض، وارتبط اسمها بمعايير الدقة والجودة والنزاهة في العمل، فضلا على أنها كانت واحدة من أواخر الشركات التي امتلكت الحكومة الفدرالية نسبة كبيرة من أسهمها، وجاء انهيارها في عام 2001 متزامنا مع توجهات الحكومة الفدرالية للتخلص من مسؤولياتها المالية، وعرض نسبة كبيرة من الأسهم التي بحوزتها في شركات مختلفة للبيع.
مسار معقد وملف متشعب
كتب أحد المحللين الإقتصاديين لدى بنك كريدي سويس يوم 6 يوليو 2000 أنه يتوقع حدوث خسائر في شركة سويس اير لا تقل عن نصف مليار فرنك. فكان من الطبيعي أن يتخلص المستثمرون من أسهمهم في أسرع وقت ممكن، وعندما اشتكت إدارة سويس إير من نشر هذا التحليل، فصل البنك هذا المحلل من عمله، لأنه حاد عن الحرفية المهنية.
ثم خسرت الشركة 3 مليارات فرنك، أي 6 أضعاف ما توقعه المحلل المفصول، وإن كانت التحقيقات لم توضح إلى اليوم إذا كانت هذه الخسائر بسبب هذا التحليل، أم أن هناك عوامل أخرى أدت إليه؟ كما من غير المعروف أيضا، كيف توصل المحلل إلى حساب هذه النسبة من الخسارة، ومن هو المستفيد من انهيار أسعار أسهم الشركة بين عشية وضحاها إلى لاشيء، هل هو من اشترى كل هذه الأسهم فيما بعد ليعلن إفلاسها؟ وإذا كان هذا صحيحا فلماذا؟
ولأن القاعدة الاقتصادية تقول إن من يخسر تذهب ثروته إلى آخرين، فإن أحدا لم يحدد حتى اليوم من هو أو هم الرابحون أو المستفيدون من وراء هذا الانهيار التاريخي الهائل، أم أن الإهمال الجسيم والتلاعب بموارد الشركة المالية هي التي قادت تلقائيا على تلك الخسارة؟
فقد ثبت في التحقيقات الأولية أن احد المدراء كلف خزانة الشركة حوالي 150000 فرنك لشراء سيارة للخدمة، وآخرين يقولون إن توسع أعمال الشركة ومساهماتها في شركات طيران أخرى كانت وبالا عليها، لأنها أقدمت على شراء شركات ليست في المستوى الذي يضمن لها الأرباح الجيدة، ورأي ثالث يعتقد أن توسع أعمال الشركة بين الطيران والشحن والنقل والخدمات الأرضية، هو الذي تسبب في امتصاص جميع أرباحها، بل يذهب بعض المحللين إلى القول إلى أن الشركة خسرت الكثير من الأموال بسبب تمسكها بسياسة أسعار المبيعات المرتفعة، رغم ظهور منافسين كثر حول العالم.
وتبدو القصة معقدة للغاية، إذ تتداخل فيها ملفات متعددة بين سويس إير كمجموعة متكاملة تضم العديد من الشركات، وبين سويس اير كشركة طيران، وليس خفيا أن تلك الأخيرة كانت تعاني من ضائقة مالية تتفاقم عاما بعد عام.
فقد حدد الأوروبيون نشاطها داخل القارة بعد رفض الناخبين الإلتحاق بالإتحاد الأوروبي، ولم يكن لها أن تنافس وحدها على الخطوط والرحلات الهامة حول العالم، في مقابل شركات عملاقة بدأت تشكل تحالفات تضمن بها عملا كبيرا.
ومن هذه الأزمة، يقال أن إدارة المجموعة أعطت لشركة الطيران حجما غير عادي من خلال الخلط بين الميزانيتين، للحفاظ على ماء الوجه ومواصلة العمل، أملا في تحسن الأوضاع، لكن هذا لم يحدث، بل تداخلت الأوراق واختلطت الملفات بين المجموعة الأم والعديد من الشركات، فوصلت إلى طريق مسدود، فمن الواضح أن مجلس إدارة المجموعة لم يكن موفقا في اختيار قراراته في عام 2000.
فقد أعلنت الشركة في منتصف عام 2000 أن لديها ارباح تصل إلى 200 مليون فرنك عن حصيلة أعمالها في بداية نفس العام، وفي أغسطس من نفس السنة، أعلن أحد مكاتب المراجعات المالية المعروفة عن وجود ثغرة مالية تتراوح بين 3.25 مليار فرنك و4.45 مليار في ميزانية المجموعة.
فقد اشترت المجموعة أنشطة وحصصا بحوالي 5 مليارات فرنك، بينما كان المبلغ المخصص لهذا 300 مليون فقط، فمن استفاد من تلك الصفقات؟ وكيف تمت الموافقة عليها؟ هذا ما ستكشف عنه بالتأكيد جلسات المحكمة.
وربما ساهمت الأزمة الدولية الحادة التي عاشها العالم في عام 2001 على ضبابية الرؤية، بعد أن أصيب الطيران المدني الدولي بضربة قاصمة، فاختفت كل بشائر الأمل في أن شيئا ما قد يحدث لإنقاذ سويس اير.
توقعات مثيرة للجدل
ويتوقع خبراء قوانين العقوبات الاقتصادية، عدم صدور أحكام قاسية على أي من المتهمين، بل ربما يحصل أغلبهم على البراءة، ويتحمل عدد قليل منهم المسؤولية كاملة بأحكام بالسجن مع إيقاف التنفيذ أو غرامات مالية أو كلا العقوبتين معا، “فلن يدخل أحدهم السجن”، حسب رأي دانيال يوسيتش، خبير قانون العقوبات في تعليقه على القضية لسويس أنفو.
بينما يعتقد زميله كارل هوفشتيتر، الأستاذ في جامعة زيورخ بأن هذه المحكمة لا تتناسب مع حجم القضية والمأساة التي خلفها انهيار سويس اير، ويقول إن هذه المحكمة قد تنظر بشكل جيد في قضايا مثل التحايل أو النصب، أي تلك التي تكون فيها الجريمة مدبرة ومقصودة، بينما قضية سويس اير مختلفة تماما، وستكون التهم على الأرجح في نطاق الإهمال الجسيم، حسب رأيه في حديثه مع سويس انفو.
في المقابل، يشير رئيس جهاز الإدعاء العام في زيورخ أندرياس برونر إلى توقعات الرأي العام وتطلعاته من وراء تلك القضية، ويعتقد أنها مُـبالغ فيها تماما، “وكأنما يتوقع منا الرأي العام أن نقوم بمعالجة التاريخ”، حسب قوله.
في سياق متصل، يعتقد البعض أن هناك جرائم ستسقط بالتقادم مع حلول عام 2008، ولذا يعطي أغلب المتهمين الانطباع بأنهم يلعبون على عنصر الوقت، لكن برونر لا يسير في هذا الاتجاه، لأنه يعتقد أن “سقوط التهمة بالتقادم، هي براءة من الدرجة الثانية”.
مثلما كان انهيار شركة الطيران الوطنية “سويس اير” حدثا مدويا ضخما، ستكون محكمة يوم الثلاثاء 16 يناير فصلا جديدا في أكبر قضية اقتصادية يشهدها تاريخ سويسرا للحديث، وستكون مادة إعلامية خصبة ستتناولها الأقلام بالتحليل والبحث بين السطور عن الأسباب الحقيقية وراء هذا الانهيار.
سويس انفو – تامر أبو العينين وأندرياس كايزر
نشأت سويس إير في مارس عام 1931 بعد اندماج شركتي (بال اير) و(أد أسترا ايرو) وكانت تعتبر شركة الطيران الوطنية السويسرية، وأحد علامات الجودة والإمتياز في الكنفدرالية.
تفاقمت أزماتها المالية بوضوح بعد توسعاتها الكبيرة ودخولها في أكثر من مجال استثماري، للمشاركة في شركات طيران أجنبية وافتتاح شركات فرعية آخرى لها صلة مباشرة أو غير مباشرة بالطيران المدني.
من أحد العوامل الهامة التي تسببت في إلحاق أضرار بالشركة، كان تمسكها بسياسة أسعار مرتفعة ورفض الدخول في تحالفات مع شركات الطيران الأوروبية وتحجيم نشاطها في أوروبا، بعد أن رفض السويسريون الانضمام إلى الإتحاد الأوروبي.
في عام 1993، فشلت مفاوضات الاندماج مع الشركة النمساوية والهولندية بسبب تمسك الحكومة السويسرية آنذاك بموقفها من الحصول على حصة الأسد.
منذ عام 1995 وحتى سنة 2000، اشترت الحصص التالية في شركات طيران مختلفة:
49.5% من أسهم شركة الطيران البلجيكية سابينا
43% من الإيطالية فولاري
49% من اير ليتورال
49.9% من أسهم الألمانية (إل تي يو)
49% من الفرنسية (أ أو ام)
37.9% من البولندية (لوت)
34% من الخطوط البرتغالية (تاب)
استغرق الإعداد للمحاكمة 5 سنوات كاملة، من التحقيقات وجميع الوثائق والمستندات.
تتواصل جلسات الاستماع لأقوال المتهمين حتى 5 فبراير المقبل، ثم تبدأ مرافعات الدفاع والنيابة والمحامي العام من 15 فبراير إلى 9 مارس 2007.
الإضرار بمصالح الدائنين والتسبب في ضياع الثروات
الإخلال بالأمانة المهنية في إدارة أعمال الشركة
تزوير المستندات والوثائق
التلاعب في البيانات الرسمية حول تعاملات الشركة التجارية
سوء الإدارة
تفضيل بعض الدائنين على غيرهم
التحايل الضريبي
وهي التهم التي تقع تحت طائلة قانون العقوبات السويسري بموجب المواد 152، 158، 164، 165، 167، 251، والفقرة 261 من قانون الضرائب.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.