قطارات الموت.. الفساد متهماً والخصخصة حلاً
أدى تصادم وقع بين قطار للركاب واخر للبضاعة شمالي القاهرة يوم الإثنين 4 سبتمبر الى مقتل خمسة اشخاص واصابة 28 اخرين بجراح في ثاني حادث مميت من نوعه بالسكك الحديدية خلال اسبوعين بمصر.
وقع التصادم بعد اسبوعين فقط من اصطدام قطاري ركاب في دلتا النيل مما أسفر عن مقتل 58 شخصا في واحدة من أسوإ كوارث القطارات منذ 4 أعوام.
تشهد مصر- منذ سنوات طويلة- حرباً صامتة يروح ضحيتها آلاف المواطنين سنوياً. فمع شروق شمس كل يوم، يطالع المصريون في صفحات الحوادث بالصحف الحكومية والمعارضة والمستقلة على السواء، أخبار وقوع العديد من حوادث الطرق، ولم يعد الأمر قاصراً على حوادث الطرق السريعة، التي تنجم غالباً عن اصطدام سيارتين يروح ضحيته اثنين أو ثلاثة. فالفجيعة الكبرى، في حوادث القطارات، حيث تزداد الخسائر، ويرتفع عدد القتلى والمصابين.
وقد كشف المهندس حنفي عبد القوي الرئيس – السابق- لهيئة السكك الحديدية، أن مصر شهدت خلال الـ 6 أعوام الأخيرة (2000 – 2006)، 59 حادث قطار، بمعدل 11 حادثاً في العام، أي ما يعادل حادثاً كل شهر، مشيراً إلى أن الحصيلة النهائية للسنوات الست هي: 6 آلاف قتيل، و21 ألف مصاب!!
كارثة مروعة
وكانت مدينة قليوب قد شهدت صباح الاثنين 21 أغسطس 2006 حادثًا مروّعًا بين قطارين، نجم عنه سقوط 58 قتيلاً وإصابة 165 آخرين بجروح، في حادث هو الأسوأ من نوعه منذ وقوع حادث قطار الصعيد في عام 2002، الذي راح ضحيته أكثر من 300 شخص.
ووفقًا لما أعلنته وزارة النقل ومحافظة القليوبية، فقد وقع التّـصادم بين القطارين المُـتجهين إلى القاهرة، والقادم أحدهما من المنصورة والآخر من بينها في الساعة 7.45 من صباح ذلك اليوم، وذلك عندما ارتطم القطار الأول بمؤخرة القطار الثاني لدى توقفه في منطقة قليوب.
وفي محاولة لامتصاص الغضب الشعبي من تقصير الحكومة، أعلن وزير النقل المهندس محمد منصور إقالةَ رئيس هيئة السكك الحديدية المهندس حنفي عبد القوي، ووقْف نائبه المهندس عيد مهران عن العمل لحين الانتهاء من التحقيقات، كما قرَّر الوزيرُ تشكيل لجنة فنية لمعرفة أسباب الحادث.
وقرَّر الرئيس حسني مبارك إجراءَ تحقيقٍ فوريٍّ في الحادث، كما توجَّه رئيسُ الوزراء الدكتور أحمد نظيف لموقع الكارثة، وذلك بعد الانتقادات التي واجهها من جانب المواطنين والمعارضة، بسبب عدم قيامه بذلك فورَ علمه بوقوع الكارثة، وتعهَّد نظيف بإجراء تحقيقاتٍ واسعةٍ فيما جرى، مشيرًا إلى أن النيابة العامة ستقوم بتحقيقاتها.
كما أعلن الدكتور علي مصيلحي، وزير التضامن الاجتماعي أن الحكومة قرّرت صرف 5 آلاف جنيه للمتوفَّى وألف جنيه للمصاب، وقال إن هذا أقصى ما يُـمكن أن تقدمه الدولة طبقًا للََّـوائح والقوانين.
وكان عدد من أهالي الضحايا والمصابين في كارثة تصادم القطارين، قد تظاهروا عند مدينة قليوب في نفس اليوم، ونددوا بإهمال الحكومة، ونشبت مشادات بين أهالي الضحايا وأعضاء مجلس الشعب والمجلس المحلي عن الحزب الوطني الحاكم، كادت تتطور إلى اشتباكٍ بالأيدي لولا تدخّـل قوات الأمن.
حكومة “الموت”
وفي تصريحات خاصة لسويس إنفو، ألقى النائب البرلماني الصحفي محسن راضي، عضو الكتلة البرلمانية للإخوان المسلمين عن دائرة بنها، بالمسؤولية الكاملة على الحكومة، مشيراً إلى أن ما حدث ينبغي أن يفتح ملفات الفساد، لا في قطاع السكك الحديدية وحسب، ولكن في كافة مرافق الدولة، بينما تستمر مسيرة الإهمال والفساد، دون إصلاح، مطالباً باستقالة الحكومة فوراً.
كما طالب عدد كبير من أعضاء مجلس الشعب بتدخُّـل القيادة السياسية “لإنقاذ الشعب المصري من حكومة الدكتور أحمد نظيف وإقالتها فورًا”، متهمين الحكومة بإهدار أرواح المواطنين وتهديد حياة الناس بالخطر، نتيجة استمرار حوادث قطارات السكك الحديدية، محذرين من حالة الاحتقان والغضب الشعبي تُـجاه الإهمال الحكومي الذي يتسبّـب في ضَـياع أرواح المواطنين وتشريد آلاف الأُسَر.
وكانت اللجنة التي شكَّلها الدكتور أحمد فتحي سرور (رئيس مجلس الشعب) – لتفقُّـد حادث اصطدام قطارَي قليوب – قد اتهمت بدورها الحكومةَ بالتقصير والإهمال في قطاع السكك الحديدية، واعتبرت أن هذا التقصير “هو السبب الرئيسي في تكرار مثل هذه الحوادث”.
تاريخ من الكوارث
وقال حمدي الطحان، رئيس لجنة النقل والمواصلات بمجلس الشعب بعد تفقّـد مكان الحادث مساء الاثنين 21 أغسطس 2006: “إن هناك إهمالاً شديدًا وتقصيرًا واضحًا من المسؤولين في هذا القطاع، وهو ما أودى بحياة العشرات وإصابة المئات، ولابد من وضع نهايةٍ لهذه الكارثة التي من المُـمكن أن تتكرّر في المستقبل، مشيراً إلى أنه يجب مُـحاسبة المسؤولين، حتى لو كان الحادث نتيجة خطأ بشري”.
وليس هذا الحادث الأول من نوعه، فللسّـكك الحديدية في مصر تاريخٌ طويلٌ من الكوارث، كان أكبرها عام 2002 عندما لقي 360 شخصًا مصرعهم وأصيب المئات في حادث احتراق 7 من عربات أحد القطارات العاملة على خط الوجه القبلي، ما دفع وزير النقل ورئيس هيئة السكك الحديدية للاستقالة وقتها، بل ويُـعتبر الحادث هو الثالث من نوعه خلال هذا العام.
ففي شهر فبراير الماضي وقع حادث تصادم بين قطارين بالقرب من دمنهور، أسفر عن إصابة 30 شخصًا، وفي مايو الماضي، وقع تصادم بين قطارين بالشرقية أسفر عن إصابة 45 شخصًا.
وقد كشفت مصادر بوزارة النقل عن أن كارثة قطاري قليوب ستعجّـل من قيام الحكومة بخصخصة هيئة السكك الحديدية بعد أن كانت قد قرّرت في وقت سابق تأجيل تلك الخطوة إلى مرحلة قادمة، خشية من رفض الرأي العام بيع هذا المرفق الحيوي والاستراتجي.
الخصخصة حلاً
ومن جانبه، يوضح الخبير الاقتصادي ممدوح الولي، الرئيس المناوب لقسم أسواق المال والاستثمار بصحيفة الأهرام المصرية في تصريحات خاصة لسويس إنفو أن “الخصخصة وسيلة جيدة لإصلاح المرافق، جرّبتها دول عديدة بأوروبا، منها ألمانيا على سبيل المثال، وحققت الهدف المطلوب منها”.
وقال الولي، عضو مجلس نقابة الصحفيين المصريين ومقرر اللجنة الاقتصادية بها، “أما في التجربة المصرية، فلم تحدث التجربة إلا في مجال الصناعات، ومع ذلك لم تحقق النجاح المطلوب، وذلك لاستمرار تدخل الدولة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال القرارات الفجائية غير المدروسة والتي تؤثر على دراسات الجدوى وعناصر التكلفة”.
أما في الحالة المصرية فلها وضع خاص. فعلى الرغم من رفض أعضاء البرلمان مؤخراً خصخصة المرافق، وخاصة هيئة السكك الحديدية، إلا أن إجراءات الخصخصة بدأت فعلياً قبل عرض الأمر على البرلمان، حيث تمّ تكوين شركة قابضة للاستفادة من مساحات الأراضي الموجودة في حرم (أي حول المواقع التابعة) السكك الحديدية، وقامت الشركة بعرض عدد من المشروعات لإنشاء فنادق ومشروعات أخرى بجوار السكك الحديدية، كما يتم الإعداد حالياً لإنشاء خط سكة حديدي خاص ما بين القاهرة ومدينة العاشر من رمضان.
عجز بـ 12 مليار جنيه!!
ويؤكد الولي أن خصخصة السكك الحديدية قادمة لا محالة، ويحتّـم ذلك العجز الكبير في موازنة الهيئة، حيث أنه من خلال آخر الأرقام المتاحة من الجهاز المركزي للمحاسبات حول أداء الهيئة خلال عام 2004، يتّـضح أن إيرادات الهيئة لم تبلغ 2.3 مليار جنيه مصري (أي ما يعادل 400 مليون دولار)، في حين بلغت المصروفات 9 مليار جنيه مصري (أي مليار و565 مليون دولار)، وهو ما يشير إلى العجز الكبير في موازنتها، مما يكبّـد الحكومة سنوياً أعلى مبلغ تخصصه لهيئة اقتصادية يزيد عن نحو 2 مليار جنيه (أي ما يعادل 348 مليون دولار) خلال السنوات القليلة الماضية.
إلا أن هذا التدخل لم يكن كافيا لعلاج العجز الحاد، حتى وصل العجز المرحل للموازنة لهيئة السكك الحديدية إلى نحو 12 مليار جنيه مصري (أي ما يعادل 2 مليار و87 مليون دولار) حتى عام 2004، مما يعني ضمنياً أن حقوق الملكية بها قد تآكلت.
وينتهي الولي، الذي نشرت له بُـحوث كثيرة في مجال التجربة المصرية في الخصخصة، إلى القول بأن “هناك دول بدأت بخصخصة قطاع الخدمات، أما نحن في مصر، فقد قدّمنا البدء بقطاع الصناعات على حساب قطاع الخدمات”، مشيراً إلى أنه يميل إلى “الخصخصة في قطاع المرافق الخدمية لكونه الحل الوحيد للارتقاء بمستوى الخدمات، شريطة وجود رقابة برلمانية مشددة”.
القاهرة – همام سرحان
تعتبر السكك الحديدية في مصر، التي أنشئت عام 1851، من أقدم الخطوط في العالم.
تتكون من 50 خطاً، وتصل أطوالها إلى 9500 كيلومتر، ويسير عليها نحو 1300 قطار يومياً، منها 1250 قطاراً للركاب تنقل نحو 3.2 مليون راكب يومياً، أي ما يعادل 800 مليون راكب سنوياً، بينما هناك نحو 50 قطاراً للبضائع تنقل نحو 12 مليون طن سنوياً وتبلغ قيمة البنية الأساسية نحو 4.15 مليار جنيه.
خدمة السكك الحديدة مقسمة إلى مستويين، أحدهما سياحي (فاخر) يقتصر في معظم الأحوال على السياح الأجانب أو المصريين القادرين، والآخر اقتصادي (شعبي) قطاراته قديمة وبطيئة، ينحشر فيها الركاب بأمتعتهم وأحياناً بدوابهم، ويقضون على متنها ساعات طويلة.
شهدت مصر خلال العقد الماضي سلسلة من أسوأ حوادث القطارات، قُتل فيها أكثر من 6000 شخص وجُرح مئات آخرون كانوا ضحية أعطال فنية أو أخطاء بشرية ارتكبها سائقو القطارات ومسؤولو الحركة المحولجية، إضافة إلى أخطاء الركاب أنفسهم.
وقعت كبرى هذه الكوارث عشية عيد الأضحى في فبراير 2002، حين قتل أكثر من 350 شخصاً وجرح مئات بسبب حريق شب في أحد قطارات الدرجة الثالثة، كان في طريقه إلى صعيد مصر وعلى متنه مئات الفقراء العائدين إلى قراهم للاحتفال بالعيد.
ترجّـح العديد من الإحصاءات أن مزلقانات السكك الحديدية تأتي في مقدمة أسباب ارتفاع معدلات حوادث القطارات بنسبة 40%، حتى أنه يطلق على معظمها مزلقانات الموت، ويبلغ عددها حوالي 1264 مزلقاناً.
كشفت نتائج تحليل الحوادث على خطوط السكك الحديدية خلال الفترة ما بين يناير 2001 إلى 1 مايو 2006 عن وقوع 59 حادثة بمعدل 7.10 حادثة سنوياً، راح ضحيتها أكثر من 6 آلاف وأكثر من 21 ألف مصاب.
من أشهر حوادث القطارات، حادث بلبيس الذي أصيب فيه 45 شخصاً في مايو 2005 بسبب تصادم قطار الشحن القادم من الزقازيق في طريقه للقاهرة وقطار آخر للركاب كان متوقفاً على نفس القضبان في الطريق المعاكس، تسبّـب الحادث في خروج أربع عربات من قطار الشحن كانت محمّـلة بالقمح. وفي أقواله في التحقيق، شكا قائد قطار الركاب من أن الفرامل لم تكن تعمل بالكفاءة المطلوبة، مؤكداً أنه حاول إيقاف القطار لكنه فشل.
وفي نوفمبر 1999، اصطدم قطار بين القاهرة والإسكندرية بسيارة نقل وخرج عن القضبان، مما أسفر عن مقتل 10 وإصابة 7 آخرين.
وفي أبريل 1999 قتل 10 أشخاص وأصيب 50 شخصاً بعد اصطدام قطارين.
وفي أكتوبر 1998 لقي 50 شخصاً مصرعهم وأصيب أكثر من 80 آخرين بسبب خروج قطار عن القضبان بالقرب من الإسكندرية.
وفي فبراير 1997 لقي 11 شخصاً مصرعهم بعد اصطدام قطار بمؤخرة آخر، وسط ضباب كثيف، ممّـا أدى إلى مصرع 75 مسافراً.
وفي ديسمبر 1993، لقي 12 شخصاً مصرعهم وأصيب 60 آخرون في تصادم قطارين.
وفي فبراير 1992، لقي 43 شخصاً مصرعهم في تصادم قطارين.
تُـعاني هيئة السكك الحديدية من مشكلات عديدة رصدتها العديد من التقارير الرقابية والبرلمانية، أهمها الاختلال في اقتصاديات التشغيل والمراكز المالية بسبب اختلال التوازن بين التكاليف والأسعار وقصور الموارد عن تغطية الاستخدامات.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.