مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

“كبار” و”صغار” في لوحة شطرنج أمريكية

swissinfo.ch

كشف انهيار قمة تونس بشطحة قلم واحدة عن لوحة إستراتيجية جديدة في الشرق الأوسط العربي.

لوحة تنشطر فيها الجامعة العربية إلى جامعتين: واحدة لـ”الصغار”، (أي الدول صغيرة الحجم والسكان) والأخرى لـ”الكبار”، (أي الدول كبيرة الحجم والسكان)..

هذا الإنشطار سلط الضوء أيضا على ما يرى فيه البعض بداية التباعد التاريخي بين الكتلتين الجغرافيتين اللتين يتّشكل منهما العالم العربي: المشرق والمغرب.

أطلّـت معالم هذا الانشطار برأسها قبل بدء التحضير لقمة تونس بوقت غير قصير. وقد تجلّت في تباين السياسات الخارجية بين الصغار والكبار منذ حرب الكويت عام 1991، خاصة حيال طبيعة العلاقات مع الدولة العظمى الوحيدة في العالم. ثم تتـوّج هذا التباين بانفجار الخلافات الحادة بين الطرفين عشية قمة تونس حول ثلاثة قضايا كبرى دفعة واحدة:

الأولى، مسألة تطوير الجامعة العربية، حيث كان الكبار يحاولون، عبر اقتراح مجلس الأمن العربي، منع الصغار من ممارسة حق الفيتو على قراراتهم.

والثانية، مسألة الإصلاحات، التي لعب فيها الصغار دور الأبطال المؤمنين بـ”البشارة الأمريكية الديمقراطية”، ضد الكبار الكافرين بهذه البشارة.

والثالثة، مسألة التعصب والإرهاب، التي أراد منها الصغار إجبار الكبار على قبول المطالب الأمريكية المُـلحّـة لتعديل كل برامجهم التعليمية والثقافية والأيديولوجية.

أما قضايا فلسطين والعراق وغيرها من القضايا القومية، فقد ذهبت “فرق عملة”، لأن الطرفين متّـفقان ضمنا على بيع جلدها إلى الشاري الأمريكي.

“لعبة أمم” جديدة

هذه بعض معالم الانشطار الجديد في العالم العربي. لكن ما هي أسبابه الحقيقية؟

قد نجد أنفسنا أمام “لعبة أمم” كبرى تُـشرف الولايات المتحدة على إنتاجها وإخراجها منذ أكثر من عقد من الزمن. فقد وصف بعض المحللين العرب هذه اللعبة بـ”المؤامرة”. لكن الأصح أن يقال إنها في الواقع إستراتيجية دبلوماسية عُليا تحاول عبرها الولايات المتحدة الإمساك بمفاصل المنطقة عبر نقاطها الضعيفة. وبالطبع، فإن الدول الصغيرة العربية هي هذه النقاط بالتحديد.

وقبل أن نقارب معطيات هذه الدبلوماسية، هذه أولا وقفة أمام حصيلة قد تُـضيء العديد من مغاليقها السرية.

عشية الغزو الأمريكي للعراق وبعده، كان العالم يغرق في تحليلات مستفيضة حول الأهداف الأمريكية من ورائه. وبرغم تباين هذه التحليلات، إلا أنها اتفقت جميعا على النقاط الآتية: النفط، هو الهدف الرئيسي، جنبا إلى جنب مع الرغبة الأمريكية في الإمساك بخناق قارة أوراسيا (أوروبا- آسيا) من خناقها عبر السيطرة على منابع النفط، إضافة إلى تحسين الأمن الحيوي الإسرائيلي. وكل هذا كان صحيحا بالطبع.

لكن هناك شيء آخر صحيح أيضا: اختارت أمريكا أساسا العراق كمدخل لإحكام القبضة على أوراسيا، لأنه يمثل “نقطة الضعف” الاستراتيجية الرئيسة في الشرق الأوسط. فقوته العسكرية مدمّرة، ومجتمعه ممّزق، واقتصاده في الحضيض، إضافة إلى أن سجل النظام البعثي أسود كالح في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهذا ما سيسّهل تبرير الغزو في حال فشلت التبريرات الأخرى المتعلقة بالإرهاب وأسلحة الدمار الشامل.

أول من أشار إلى نقطة الضعف العراقية هذه، هو بول وولفوفيتز، نائب وزير الدفاع الأمريكي، الذي قال في محاضرة عشية الغزو: “إن نظام صدام يُـعتبر الخطر الأقوى على الأمن القومي الأمريكي، لكنه أيضا نقطة الضعف الأبرز في الشرق الأوسط بسبب ديكتاتوريته السياسية وتهالكه الاقتصادي”.

وبعد وولفوفيتز، كرت سبحة الدراسات الامريكية التي تركّـز على هذه النقطة، لكن مع دمج التحليلات بالتقديرات التي تحوّل العراق من نقطة ضعيفة إلى مشروع نقطة قوة في المنطقة العربية عبر تطوره ليكون منارة ديمقراطية فيها. وهذا أمر تبنّـاه الرئيس بوش في العديد من الخطب والبيانات التي تلت الغزو.

نـمـاذج

هذا المفهوم حول نقطة الضعف، والذي طبّـق بحذافيره في بلاد ما بين الرافدين، ولد قبل الحدث العراقي بأكثر من عقد، برغم أن العراق نفسه كان هو السبب في ولادته.

فقد اكتشفت الولايات المتحدة خلال التحضير لحرب الكويت عام 1991 أن الدول العربية الكبيرة، خاصة السعودية ومصر وسوريا، تشكّـل وجع رأس حقيقيا لها. فهي مترددة وخائفة ومتطلبة، كما أنها تعيش دائما هاجسا هو ألا تظهر موالية لها على عكس كل حلفاء الولايات المتحدة في العالم.

وفي المقابل، الدول الصغيرة العربية، وبسبب خوفها من الدول الكبيرة العربية التي يُـمكن أن تغزوها، كما حدث مع الكويت، فهي مستعدة لأنها أكثر ليونة وسرعة في التأقلم مع المتطلبات الأمريكية الجديدة. وهكذا، ومن أتون حرب الكويت، ولدت نظرية النقاط الضعيفة في المنطقة، وتحركت واشنطن لوضعها موضع التطبيق:

– فهي دعمت الانقلاب داخل الأسرة الحاكمة في قطر، ثم جعلت هذه الأخيرة نقطة الارتكاز العسكرية الرئيسية بدل المملكة العربية السعودية التي سحبت منها قواتها في أعقاب غزو العراق، وفي الوقت نفسه، شجّعت واشنطن الدوحة على إجراء انتخابات بلدية (1999) ثم برلمانية، ثم استفتاء على دستور جديد (2003) يضمن حريات التعبير والدين والتجمع وحقوق المرأة. كما ولد في قطر أيضا قناة “الجزيرة” الفضائية التي كانت أول فضائية ليبرالية مرئية في الوطن العربي.

– وهي اتُّـخذت الإجراءات نفسها في البحرين، التي أصبحت مقرا لقيادة الأسطول الخامس الأمريكي، والتي شجّـعت على إعلان مملكة دستورية عام 2002 كجزء من إصلاحات مهّـدت الطريق أمام أول انتخابات تشريعية منذ 30 عاما.

– والأردن بدوره، تحّول بعد غزو العراق إلى نقطة ارتكاز أمنية وسياسية للولايات المتحدة. فقد أصبح قاعدة لتدريب الشرطة والجيش العراقيين بإشراف أمريكي، وشجـّع على التصدي لمحاولات الهيمنة السورية والسعودية على سياساته عبر منحه حقنة مالية وسياسية أمريكية في العضل، ثم دفع إلى تصوير نفسه على أنه سيكون “النموذج للدولة العربية الإسلامية في المنطقة”.

– ولبنان يُـعد، على ما يبدو الآن، لاعب أدوار شبيهة بتلك التي تقوم بها الدول الصغيرة الأخرى. فالأمريكيون يضغطون بقوة الآن لسحب القوات السورية منه، ولإجراء انتخابات رئاسية حرة قد تُـسفر عن مجيء رئيس منحاز لواشنطن وإملاءاته، أكثر من انحيازه لدمشق وسياساتها.

– ولا ننسى بالطبع موريتانيا، التي كانت من أوائل الدول الصغيرة العربية التي قفزت إلى الخندق الأمريكي.

– أما ليبيا، التي تحوّلت بين ليلة وضحاها من عدو لأمريكا إلى حليف لا يُـمانع في عودة القواعد العسكرية الأمريكية إلى أراضيه، والجاهز أبدا للمساهمة في دفن الجامعة العربية.

مشرق ومغرب

بيد أن الاستراتيجية الدبلوماسية الأمريكية لا تتوقف هنا، إذ هناك جناح آخر لها يتمثّـل في العمل على خلق شرخ بين المشرق والمغرب. والأرجح، أن أوروبا (برغم تنافسها مع أمريكا على النفوذ في المغرب الكبير)، ليست بعيدة عن هذا المنحى.

كانت قمة تونس المؤشر الواضح على بدء الأشغال الرسمية لشق هذا الشرخ. فقد صّور الصراع على القمة بأنه صراع مشرقي- مغاربي، واستنفرت من أجل ذلك كل أجهزة للدعاية والإعلان. كما بذلت جهودا موازية لإبراز المغرب العربي على أنه يسير على نقيض المشرق، من حيث الالتزام بالإصلاحات الديمقراطية وإطلاق الحريات.

والغالب، أن يستمر هذا المنحى الآن، خاصة إذا ما أدت أزمة القمة الراهنة إلى إعلان النعي الرسمي لجامعة الدول العربية، ومعها النظام الإقليمي العربي.

نظام ينهار .. نظام يصعد ؟؟

هذه بعض الخطوط العامة للوّحة الاستراتيجية الجديدة في الشرق الأوسط العربي. وكما هو واضح منها، ستكون الدول الصغيرة العربية، نقطة الانطلاق الأمريكية نحو تغيير الدول الكبيرة العربية. والأولى، ستكون قادرة على ذلك لأنها ستحظى بالحماية الكاملة للعملاق الأمريكي.

وهكذا، سيكون في وسع قطر دوما تحدي السعودية ونظامها، والأردن (وربما لبنان قريبا) تحدي سوريا، وليبيا تحدي مصر، وتونس كل الدول الكبيرة العربية مجتمعة (عبر إلغاء القمة العربية).

بيد أن الجهود الأمريكية لا تستهدف فقط تغيير الدول العربية الكبيرة عبر الصغيرة، بل أيضا إحالة النظام الإقليمي العربي برمّـته إلى متاحف التاريخ، وإحلال النظام الإقليمي الشرق أوسطي الجديد مكانه.

وبالمناسبة، المنظّـرون الأبرز الآن لهذا النظام الجديد، موجودون في الأردن وقطر وتونس وباقي الدول العربية الصغيرة.

سعد محيو- بيروت

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية