“كلاب حراسة الديمقراطية” تتحول إلى “كلاب أليفة”!
ما الذي حدث لدور وسائل الإعلام الأمريكية وكيف تحوّلت من كلاب يقظة تراقب الممارسة الديمقراطية إلى كلاب أليفة تجلس على حجر البيت الأبيض وتراعي مصالح الشركات الأمريكية الكبرى؟
الإجابة عن هذا السؤال تطلب أكثر من ستين عاما وأكثر من مائتي صفحة ضمّـها كتاب جديد بعنوان “كلاب حراسة الديمقراطية”.
ما الذي حدث لدور وسائل الإعلام الأمريكية وكيف تحوّلت من كلاب يقظة تراقب الممارسة الديمقراطية وتنقض على كل من يحاول النيل منها، وتقوم بمهمة السلطة الرابعة، إلى كلاب أليفة تجلس على حجر البيت الأبيض وتراعي مصالح الشركات الأمريكية الكبرى؟
الإجابة عن هذا السؤال تطلبت أكثر من ستين عاما وأكثر من مائتي صفحة ضمّـها كتاب جديد بعنوان “كلاب حراسة الديمقراطية”، وضعت فيها السيدة هيلين توماس، اللبنانية الأصل، عميدة مراسلي البيت الأبيض خلاصة تجاربها الصحفية مع تسع فترات رئاسية، تعاقب خلالها رؤساء أمريكيون على المكتب البيضاوي وتغيرت فيها ملامح التغطية الإخبارية من الاتصال المباشر والمتكرر مع الرئيس الأمريكي، إلى المؤتمرات الصحفية المنسقة مسبقا، والسيطرة على تدفق الأخبار والتلاعب بها، ومن الأسئلة الصحفية الجريئة للرئيس وكبار المسؤولين إلى الخشية من طرحها، وتحول الإعلام الأمريكي بشكل متزايد نحواليمين المحافظ، بحيث تردّت مهمة مراسلي البيت الأبيض إلى مستوى الإخفاق في طرح التساؤلات حول مبررات الغزو الأمريكي للعراق، وسلسلة الإجراءات التي انتقصت من الحريات المدنية للأمريكيين بحجة الأمن الداخلي وغيرها من القضايا المصيرية.
وتقول هيلين توماس: إن مصداقية الصحافة الأمريكية تعرّضت، لسوء الحظ، إلى هجوم من إدارة الرئيس بوش ومن جماعات سياسية ودينية أمريكية، سرعان ما أسفرت عن انحناء رؤساء تحرير الأخبار في وسائل الإعلام الأمريكية للرقابة الحكومية، من خلال سيطرة الشركات الأمريكية الكبرى عليها. فشركة جنرال إلكتريك تتحكّـم في شبكة “إن بي سي”، وتتحكم شركة فياكوم في شبكة “سي بي إس”، وتدير شركة ديزني شبكة “إيه بي سي”.
وبالنظر إلى مصالح تلك الشركات، فإنه لا ينبغي لأحد أن يتصوّر أنها ستستميت دفاعا عن حرية الصحافة، لتضحي بسهولة وصول رؤساء تلك الشركات إلى البيت الأبيض أو أنها ستضحي بالإيرادات الضخمة من الإعلانات لتفسح المجال في برامج شبكات التليفزيون الأمريكية أمام مناقشات حرة ومثيرة للجدل والنقاش.
“تخطي الخطوط الحمراء”
وضربت عميدة المراسلين، الصحفيين في البيت البيض مثالا على الترهيب الحكومي للصحافة في أعقاب هجمات 11 سبتمبر الإرهابية، فقالت: “إن إدارة بوش سارعت إلى الإيعاز بأن أي انتقاد توجّـهه وسائل الإعلام الأمريكية إلى قصور الحكومة في بذل الجهد اللازم للحيلولة دون وقوع تلك الهجمات، سيكون منافيا للشعور القومي الأمريكي، ولم تكتف الإدارة بالتلميح، بل اتصل وزير الخارجية آنذاك كولن باول ومستشارة الرئيس لشؤون الأمن القومي كوندوليزا رايس بكل شبكات التلفزيون وشركات توصيل الخدمة التلفزيونية بالكابل، ووجّـها تحذيرات صارمة بعدم بث شرائط أسامة بن لادن التي أعقبت الهجمات، وهو ما وصفته المؤلفة بأنه يشكّـل تخطيا من المسؤولين الأمريكيين للخطوط الحمراء، التي تكفل حرية الصحافة في أمريكا دون تدخل حكومي.
وأصبح تخوف المراسلين والصحفيين من طرح الأسئلة الهامة ظاهرة عامة تجلّـت مثلا في إخفاق وسائل الإعلام الأمريكية في التدقيق والتمحيص، فيما اشتمل عليه قانون “الوطني” من انتقاص للحريات المدنية، وكذلك فشل الإعلام الأمريكي في مناقشة قانونية التنصّـل من التزامات مواثيق جنيف فيما يتعلق بأسرى الحرب، سواء في أفغانستان أم العراق، ولم تفق الصحافة الأمريكية من غيبوبتها إلا عندما تسرّبت صور التعذيب السادي للمعتقلين العراقيين في سجن أبو غريب، ولكن لم يصل ردّها إلى حد إقناع الرئيس بوش بالعدُول عن تجنب الالتزام باتفاقيات جنيف أو التعهد بعد اللجوء إلى تعذيب السجناء.
وترى هيلين توماس أن الصحافة الأمريكية سمحت لإدارة بوش باستخدام السرية والتعتيم الإعلامي فيما يتعلق بكثير من الأمور الهامة، وتناست وسائل الإعلام الأمريكية بذلك دورها في تقديم الحقيقة كاملة للشعب الأمريكي، وحق المواطن الأمريكي في أن يكون ملما بحقيقة ما يحدث.
ولم يقتصر ذلك التعتيم على البيت الأبيض، إذ ترى هيلين توماس أن وزارة الدفاع الأمريكية نجحت في حجب صور أكفان الجنود الأمريكيين القتلى في العراق عن عيون وعدسات كاميرات وسائل الإعلام الأمريكية، وبالتالي، عن الشعب الأمريكي، ولم تحتج وسائل الإعلام الأمريكية على ذلك، وهو ما لم يحدث من قبل.
“استئجار الصحفيين” و”تلفيق الأخبار” !
وتنبّـه هيلين توماس في كتابها الجديد إلى ظاهرة ابتدعتها إدارة الرئيس بوش، هي استئجار صحفيين مرموقين للترويج لسياساتها، مثلما حدث في العام الماضي عندما دفعت وزارة التعليم الأمريكية قُـرابة ربع مليون دولار لمقدم برنامج تليفزيوني، وصحفي ينتمي للتيار المحافظ لمقدم يُـدعى آرمسترونغ وليامز للترويج لبرنامج حكومي تحت اسم “مكان لكل راغب في التعليم من الأطفال الأمريكيين”، ولأن مقدم البرنامج لم يطلع المشاهدين على حقيقة أنه تلقّـى هذا المبلغ من الحكومة، فإنه يكون قد ضلّـل الرأي العام الذي اعتقد أن ما قدمه كان تقريرا صحفيا موضوعيا، وليس خدمة علاقات عامة للحكومة.
وترى هيلين توماس كثيرا من الغرابة في زعم الرئيس بوش بأن إدارته لا تعرف شيئا عن استئجار هذا الصحفي واثنين آخرين في إطار الترويج لحكومته، حيث أن الأوامر صدرت بعد كشف المستور بوقف دفع مكافآت حكومية للصحفيين.
ولكن ظاهرة استئجار الصحفيين لم تتوقف، وسرعان ما كُـشف النقاب عن أن وزارة الدفاع الأمريكية دفعت ملايين الدولارات لزرع تقارير ومقالات وتعليقات في الصحف العراقية، بهدف إضفاء مسحة من التفاؤل وإدعاء الإيجابيات في الأداء الأمريكي كقوة احتلال في العراق.
وتفنّـنت إدارة الرئيس بوش في صناعة الأخبار الإيجابية. ففي عام 2004، استخدمت بدْعة جديدة، تمثلت في توزيع شريط فيديو تمّـت فبركته للترويج لخطة الرئيس بوش الخاصة بأدوية المسنين، تم فيه استخدام ممثلين مأجورين على أنهم مراسلون صحفيون، وبحيث بدا الشريط وكأنه تصوير لمؤتمر صحفي حقيقي تم توزيعه على بعض محطات التليفزيون الأمريكية.
وضربت هيلين توماس مثالا آخر على تلفيق الأخبار والنيل من المعارضين، فقالت “إن البيت الأبيض منح بطاقة صحفية ليوم واحد لصحفي كان يعمل في موقعين للمحافظين على شبكة الإنترنت من ولاية تكساس، ليحضر مؤتمرا صحفيا للرئيس بوش في البيت الأبيض في فبراير عام 2005، وكانت مهمة ذلك الصحفي المغمور أن يسأل الرئيس بوش سؤالا ينطوى على الإساءة بشكل بالغ لزعيم الأقلية الديمقراطية في مجلس النواب هاري ريد، وصيغ السؤال بحيث احتوى على معلومات مغلوطة عن النائب الديمقراطي”.
خمس طرق للسيطرة على الأخبار..
خصصت هيلين توماس فصلا كاملا من كتابها للحديث عن الجهود غير العادية، التي بذلتها إدارة الرئيس بوش للتلاعب في الأخبار وتحريفها لتخدم أهداف سياسة تلك الحكومة فقالت:
“مع أن كل إدارة أمريكية وجدت أن الصحفيين الأمريكيين ينظرون إلى دورهم على أنهم بمثابة كلاب حراسة الديمقراطية، وليسو كلابا مدللة على حجر الحكومة، فإنه لسوء الحظ كبحت هجمات سبتمبر 2001 والحرب التي شنّـتها الولايات المتحدة على العراق جماح الصحفيين، وكبّـلت طبيعتهم الساعية دوما إلى التشكك فيما تقوله الحكومة، والرغبة في البحث الدءوب عن الحقيقة”.
وتطرقت هيلين توماس إلى الطرق التي اتّـبعها البيت الأبيض في السيطرة على تدفق الأخبار وإدارتها، فقالت “إن أسهل طريقة كانت حجب الأخبار ومنع الصحفيين من الوصول إليها أساسا، وهو ما اتبع مع قناة الجزيرة أثناء غزو العراق”.
أما الطريقة الثانية، فهي مضايقة المراسلين الصحفيين، بحيث يضطرون إلى تقديم الأخبار بالطريقة التي تُـرضي البيت الأبيض، وإلا سحبت بطاقة السماح للصحفي بتغطية البيت الأبيض وحضور المؤتمرات الصحفية داخله، والحرمان من فرصة السفر على متن طائرة الرئاسة والحصول على تصريحات مباشرة من الرئيس أثناء سفره.
كما يلجأ المسؤولون الأمريكيون إلى طريقة ثالثة هي “الكذب الأبيض” للتحكم في الأخبار وإدارتها عن طريق التصريح بجانب فقط من القصة الإخبارية للتغطية على الجوانب الأخرى الأهم فيها.
ويلجأ البيت الأبيض في محاولته إدارة تدفّـق الأخبار إلى طريقة رابعة، هي تسريب بعض الأخبار عن مصدر مسؤول لاستخدامها كبالون اختبار لجسّ النّـبض، ومعرفة توجّـهات ردود الأفعال لسياسات بعينها قبل تبني تلك السياسات، ويظهر ذلك جليا في تزويد وسائل الإعلام الأمريكية بكمّ هائل من المعلومات المغلوطة والأنباء المحرفة، قبل شن الحرب الأمريكية على العراق.
أما الطريقة الخامسة للتحكّـم في الأخبار، فتعمد إلى التركيز على توقيت الخبر والطريقة التي يتم بها نشره، وتستخدم الإدارة الأمريكية عدة عناصر في هذا الإطار، منها البيانات الصحفية، والمؤتمر الصحفي اليومي ومؤتمرات الرئيس الصحفية، ويستهدف توقيت إصدارها صرف الانتباه العالمي أو المحلي عن قصص إخبارية أخرى مثيرة للجدل.
بوش و”العفوية المُصطنعة”
وفي هذا الصدد، كشفت هيلين توماس، عميدة الصحفيين في البيت الأبيض النقاب عن أن المؤتمرات الصحفية التي يعقدها الرئيس في البيت الأبيض معدّة مُـسبقا، وأن إجابات الرئيس، التي قد تبدو عفوية، مُـعدّة ومُـجهّـزة مسبقا، بل ويتدرب عليها قبل المؤتمر الصحفي!
وقالت، “عندما بدأ الرئيس بوش حملته للترويج لبرنامجه لخصخصة برنامج الضمان الاجتماعي، لم يكتف بالإعداد المُـسبق لمؤتمراته الصحفية، بل بضمان الاختيار الدقيق للحضور، بحيث لا يحضر مؤتمراته إلا من يتأكد البيت الأبيض من موافقتهم على سياسات وآراء الرئيس! وعندما تصاعد مدّ تيار المناهضين للحرب على العراق، منعهم البيت الأبيض من حضور اللقاءات الجماهيرية مع الرئيس بوش، وحتى إذا جاهر أحد الحاضرين برأي مخالف يتم إخراجه من القاعة، لأن الرئيس بوش يواجه مصاعب جمّـة في التعامل مع من يخالفونه في الرأي. لذلك، فإن المُـحيطين به هم مجموعة من الرجال والنساء يجيدون الإجابة بكلمة نعم”.
ولم تسلَـم مؤلفة الكتاب من نقمة البيت الأبيض، لأنها لم تنضم إلى مجموعة الكلاب الأليفة على حجر الحكومة. فقد كانت تحظى دائما بفرصة طرح السؤال الأول على الرئيس لكونها عميدة المراسلين الصحفيين في البيت الأبيض، ولكن جُـرأتها في طرح الأسئلة منعتها من الاستمرار في تغطية البيت الأبيض، وتحولت إلى كاتبة أعمدة صحفية في صحف مؤسسة هيرست، وسرعان ما رفع البيت الأبيض اسمها من قائمة الصحفيين المتميّـزين، ولم تعد قادرة لا على طرح السؤال الأول، كما اعتادت لعشرات السنين، ولا على حضور أي مؤتمر للرئيس بوش الذي لا يحتمل إلا الموافقة على كل ما يقول.
محمد ماضي – واشنطن
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.