لبنان: ربيع جديد، تاريخ جديد
في 23 مارس الحالي، بدأ فصل الربيع في لبنان، لكنه هذه المرة كان فصلاً مميزاً للغاية، إذ أنه يشهد إلى جانب تجّدد دورة الحياة تجديداً في تاريخ هذا البلد التاريخي الذي ترقى جذوره إلى الفينيقيين قبل آلاف السنين.
فهل يعني هذا التجديد أن الهوية الوطنية اللبنانية شهدت ولادتها التاريخية وانقضى الأمر، أم أنه لا تزال أمامها أشواط خطرة يجب أن تقطعها للوصول إلى ذلك؟
آثار إقدام التجديد التاريخي هذه مبثوثة في كل مكان: في “الأسطورة المؤسسة” التي خلقها الشعب اللبناني لاستقلاله الثاني (بعد الاستقلال الأول عن الفرنسيين عام 1943)، وحوّل بموجبها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري إلى البطل الذي بذل دمه لتحيا الحرية والسيادة.
في الالتفاف حول العلم اللبناني بلونيه الأحمر والأبيض وأرزته الخضراء، وذلك للمرة الأولى في تاريخ لبنان الحديث، تحّول النشيد الوطني اللبناني إلى النغمة الوحيدة المستحبة من الجميع، بمن فيهم “حزب الله” الذي يُـفترض أن مشاعره تميل أكثر إلى الأناشيد الإسلامية منها إلى الوطنية.
وأخيراً، نزول الشابات والشباب، أي الجيل الجديد، بمئات الآلاف إلى الشارع حاملين رايات التغيير السياسي- الاجتماعي الشامل، وليس فقط إخراج السوريين من البلاد، واضطرار الطبقة السياسية التقليدية لبذل جهود كثيفة للتأقلم معهم، وهذه ظاهرة جديدة غير متوقعة وغير مسبوقة، حيث كان الكثيرون يعتقدون أن الجيل الجديد لا يهتم سوى بالشكل دون المضمون، بالصورة دون الكلمة، بالسطحي دون العميق.
هل يعني ذلك أن الهوية الوطنية اللبنانية شهدت ولادتها التاريخية وانقضى الأمر، أم أنه لا تزال أمامها أشواط خطرة يجب أن تقطعها للوصول إلى ذلك؟ سنأتي إلى هذا السؤال بعد قليل. لكن قبل ذلك، وقفة أولاً أمام التفاعلات الدرامية الراهنة على الساحة اللبنانية.
الزيارة التاريخية
من بين كل التطورات المتسارعة التي شهدها لبنان منذ اغتيال الرئيس الحريري في 14 فبراير الماضي، والتي شملت استقالة حكومة عمر كرامي وبدء انسحاب القوات السورية، وصدور تقرير لجنة تقصّـي الحقائق الدولية، التي أدانت دور المخابرات اللبنانية- السورية، كانت زيارة البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير إلى واشنطن هي الأهم والأبرز.
لماذا؟ لسببين:
الأول، أنه في كل تاريخ لبنان الحديث، كان بطريريك الموارنة هو المفاوض الأول مع القوى الغربية المقررة لمصير لبنان. وعلى سبيل المثال، كان البطريرك الحويك هو الذي طلب من الفرنسيين في باريس عام 1920 ضم البقاع وثلاثة أقضية أخرى إلى جبل لبنان، فشكّـل بذلك “لبنان الكبير” الحالي.
والثاني، أن لبنان الجديد الذي يولد الآن، سيعتمد في ولادته على ما إذا كان المسيحيون ما زالوا متمسكين بلبنان الكبير أم أنهم يريدون العودة إلى لبنان الصغير، كما كان في القرن التاسع عشر في عهد نظام المتصرفية الذي فرضته أيضاً القوى الغربية.
بيد أن ما حدث في واشنطن هذه المرة، كان مغايراُ لما حدث في المفاصل التاريخية السابقة: بدلاً من أن يطلب البطريرك، طلب منه أن يطبق ما يبدو أنه خطة أمريكية- فرنسية موضوعة سلفاً تتضمّـن الآتي (وفق مصادر أمريكية وأوروبية عليا):
– اتفاق على إخراج سوريا من لبنان، وقبول دور سياسي لحزب الله، ومنع نشوب صراعات طائفية في لبنان.
– إقناع القادة المسلمين اللبنانيين بأن الديمقراطية على الطراز الغربي في بلادهم، لن تكون بعد الآن المدخل لهيمنة المسيحيين على الحكومة، وتنسب “لوس أنجليس تايمز” إلى مسؤول أمريكي قوله: “تحدثنا مع صفير حول كيفية تطمين المجموعات الإسلامية بأن الوسيلة للتقدم إلى الأمام هي في نظام ديمقراطي يعكس حقيقة التنوع العرقي والديني والجنسي (المراة والرجل) للبنان”.
– حزب الله يمكنه، في حال أصبح حزباً سياسياً، أن يسيطر على 20% من الأصوات في انتخابات حرة، والولايات المتحدة ستقبل بأية حكومة تتشكل بعد الانتخابات، بما في ذلك تلك التي يمكن أن يهيمن عليها الشيعة أو حزب الله.
وقد أوضح إدوارد غابرييل، السفير الأمريكي السابق لدى المغرب، هذه النقطة الأخيرة بقوله: “إنهم (الأمربكيون) سيدعون الأوراق تسقط حيثما أرادت، ثم يتعاملون مع أية حكومة جديدة”.
الرهان الأمريكي هنا واضح: بدلاً من إثارة مجابهات دموية لنزع سلاح حزب الله، يتم العمل على تشجيع بروز بيئة سياسية أكثر انفتاحا تقوم بتوليد ضغوطها الخاصة لتحقيق هدف نزع السلاح.
المخاطر ..
الآن، إذا ما جمعنا كل هذه الخيوط التي اتضحت بعد زيارة البطريرك لواشنطن فعلى ماذا سنحصل؟
في حال سارت كل الأمور على ما يرام، وواصل السوريون انسحابهم بأقل الاضطرابات الأمنية الممكنة، ستكون الطريق ممهدة أمام ولادة تاريخية جديدة للبنان جديد يلعب هذه المرة (وبقرار دولي على أرفع المستويات) دور النموذج الديمقراطي الأول في الشرق الأوسط.
لكن، هل هذه الأجواء الدولية المؤاتية تواكب أجواء محلية مؤاتية أيضاً؟
هذا السؤال يعيدنا فوراً إلى المسألة الأولى التي طرحناها حول مستقبل الهوية الوطنية اللبنانية، وهنا تتبدى فوراً أمام أعيننا صورة واحدة: حمل صغير وديع تشاء ظروفه العاثرة أن تلده أمه وسط قطيع من الذئاب المهتاجة. الهوية الوطنية اللبنانية هي الآن هذا الحمل المتوحد، أما الذئاب فحدّث ولا حرج، إنهم جحافل تكاد لا تنتهي.
على رأس هؤلاء، يقبع الزعماء السياسيون والدينيون للطوائف والمذاهب، هؤلاء لا يمكن بأي حال أن يقبلوا استمرار ظاهرة ساحة الشهداء التي يتوحّـد فيها الآن الشباب اللبناني. وإذا كانوا يقبلون اليوم، فلأنهم لم يحققوا بعد أهدافهم السياسية. لكن في اللحظة التي تتحقق فيها هذه الأهداف، سيبدءون حملة مشتركة لا هوادة فيها لإعادة كل شاب وشابة لبنانية إلى قطيعه الطائفي.
الوحدة الوطنية اللبنانية ستتحقق هنا، ولكن بالمقلوب: بدلاً من شبان يقفزون فوق الانتماء الطائفي إلى الانتماء الوطني، كهول من كل الطوائف يتحدّون لذبح الانتماء الوطني قبل أن يرى النور.
هذا التطور حدث بحذافيره قبل 30 عاماً بالتمام والكمال. فحين رأى زعماء الطوائف أن الشبان والشابات آنذاك بدءوا يندمجون في مواكب مشتركة مطالبين بلبنان ديمقراطي جديد، قرروا نسف المعبد على من فيه.
كتب كريم بقرادوني، أحد قباطنة الطوائف (في “الوطن الصعب والدولة المستحيلة”) معترفاً: “حين شاهد بيار الجمَـيل، زعيم حزب الكتائب، الشبان المسيحيين ينضمون إلى الشبان اليساريين المسلمين في تظاهرة واحدة، قرر إشعال الحرب الأهلية”، وهذا التطور يمكن أن يتكرر الآن، حين سيجد الزعماء الدينيون والسياسيون الطائفيون أن من مصلحتهم الاندراج في “وحدة طائفية” ضد “الوحدة الوطنية” التي تترعرع براعمها الآن في ساحة الشهداء.
بيد أن المعوقات أمام وحدة اللبنانيين ليست محلية فقط، حيث هناك العديد من القوى الإقليمية التي لها مصلحة قصوى في إبقاء اللبنانيين منقسمين ومبعثرين.
فثمة مثلاً، قوة إقليمية عربية لا تؤمن أصلاً بالتعايش الحضاري الإسلامي- المسيحي، وثمة قوة عربية أخرى لا تجد مصلحتها إلا بمواصلة إشعال الحرائق بين الطوائف، ثم هناك دوماً وأبداً إسرائيل، التي يقوم مشروعها الإقليمي برمته على نسف الحلم الوطني اللبناني الحضاري، وعلى إعادة رسم خرائط الهلال الخصيب العربي لإقامة دويلات طائفية متصارعة، ومتقاتلة، ومتذابحة إلى الأبد.
.. والفرص
هل يعني كل ذلك أن الهوية الوطنية في لبنان محكوم عليها سلفاً بالإعدام؟ ليس تماما. هناك العديد من العوامل التي لم تكن متوافرة من قبل، والتي تصب في مصلحتها:
– إجماع الجيل الجديد اللبناني على رفض “الفتنة” والحرب الأهلية وثقافة الموت، ورغبته العارمة في الوفاق والسلام وثقافة الحياة، وهذا بالطبع عامل بالغ الأهمية في التاريخ وفي صنع التاريخ، ويكفي أن نتذكـّر هنا أن خوف فرنسا وألمانيا من تكرار الحربين العالميتين، الأولى والثانية، هو الذي دفعهما في الدرجة الأولى إلى اتخاذ ترتيبات السلام التي أدّت في النهاية إلى ولادة الاتحاد الأوروبي.
– انتهاء الانقسام الحاد والمدمّـر في الخطاب السياسي اللبناني بين الهوية اللبنانية والهوية العربية. الهوية اللبنانية المنفتحة وغير العنصرية لم تعد “غريبة” عن الشبان المسلمين، والعروبة الديمقراطية والحرة لم تعد “عجيبة” عن الشبان المسيحيين، وهذا على أي حال تكرّس في نصوص دستور الطائف.
– وجود غطاء دولي قوي للهوية الوطنية (حتى الآن على الأقل!)، عبر الدعم الغربي العام لتحويل لبنان إلى منارة ديمقراطية للشرق العربي، وبالطبع، هذه المنارة الديمقراطية ستكون مستحيلة إذا ما كان زجاجها متكسراً على أسس طائفية ومذهبية.
كل هذه المعطيات تفتح كوة أمل للحمل الصغير بأن ينفذ بريشه من بين أنياب الذئاب الطائفية.
بيد أن هذا يتطلب، أول ما يتطلب، بروز قيادات شابة جديدة تحوّل الوطنية اللبنانية من حلم رومانسي إلى برنامج سياسي، وأحزاب عابرة للطوائف، وقوة ضغط وطنية.
فكما أن الربيع الجديد يحتاج إلى تفتح الأزهار وتبرعم الأشجار، كذلك التاريخ الجديد، يحتاج هو أيضا إلى تفتح جيل جديد وتبرعم برامج تقدمية جديدة.
سعد محيو – بيروت
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.