لبنان وإسرائيل: ” زلازل” ما بعد الحرب
"حرب الأسيرين" في لبنان توشك أن تضع أوزارها، مع بدء تطبيق هدنة القرار 1701 التي تبدو متماسكة إلى حد الساعة.
لكن دروس هذه الحرب قد تستمر سنوات عدة لكل الأطراف الرئيسة المنغسمة بها وعلى رأسها: لبنان وإسرائيل.
لبنانياً، ستكون هذه الحرب التي إنتصر فيها “حزب الله” عسكرياً (لأن إسرائيل عجزت عن هزيمته) وخسر مدنياً (تهجير قاعدته الشيعية ونسف كل بنى “دولته المدنية” من مستشفيات ومدراس ومستوصفات وبنى تحتية.. ألخ)، مفترق طرق بالنسبة لمستقبل الوطن اللبناني ومصيره.
الأيجابيات في مثل هذا المفترق واضحة، وهي تتمثل حالياً في قرار مجلس الأمن رقم 1701 الذي يشكّل، على سلبياته، نقل نوعية نحو الأفضل عن مشروع القرار الفرنسي- الاميركي والذي كان في جلّه صناعة إسرائيلية.
فهو بإعترافه بالدور الكامل والأساسي للدولة اللبنانية في الحل، وإدراجه بعض النقاط السبع التي وضعتها حكومة السنيورة في تضاعيفه (الإنسحاب الإسرائيلي، وسلطة الجيش اللبناني، والأعتراف بوجود مشكلة إسمها لبنانية مزارع شبعا)، بات أقرب إلى التوازن منه إلى الإنحياز إلى المواقف الإسرائيلية.
هذا التطور لم يكن ليحدث لولا عاملين إثنين كان لـ “حزب الله” الفضل الأكبر فيهما: الأول، الصمود البطولي للمقاومة الذي مكّن المفاوض اللبناني من رفض شروط الأستسلام التي وضعتها تل أبيب وصاغتها باريس وواشنطن. والثاني، إجماع الحكومة اللبنانية، بما فيها وزراء حزب الله بمباركة حسن نصر الله، على إرسال الجيش إلى الجنوب للمرة الاولى منذ العام 1978.
العامل الثاني بالتحديد قلب الأمور في المعركة الدبلوماسية رأساً على عقب لصالح لبنان. فحين تم إدخال الجيش إلى المعادلة، تفكك الإجماع الغربي سريعاً وتراجعت إلى الوراء فكرة وضع بلاد الأرز تحت الوصاية المباشرة لحلف شمال الأطلسي.
الإيجابيات، إذا، واضحة. لكن الكرة لا تزال في الملعب الداخلي اللبناني (وبالتحديد الشيعي منه) الذي سيحسم ما إذا كان القرار سيتحّول إلى فرصة لبناء نظام لبناني جديد تتزاوج فيه الدولة مع المقاومة، لتولد من قرانهما “دولة المقاومة”، أم ينقلب إلى تهديد لوجود لبنان نفسه كوطن وكيان موّحد.
أسئلة دقيقة وخطيرة
الأسئلة حول إحتمالات الداخل اللبناني تتضمن الآتي:
1- هل سيكون “حزب الله” قادراً في المرحلة المقبلة على تغليب لبنانيته الوطنية على إقليميته الإيرانية والسورية وإيديولوجيته الإسلامية العالمية؟ وإذا ما فعل، هل سيبقى حزباً موحداً؟.
2- هل سيوافق الحزب على وضع صواريخه (ومعها قرار الحرب والسلام) تحت إمرة الدولة اللبنانية، أم سيواصل المحاججة بأن بقاء إمرة الصواريخ في عهدته “ضرروي لردع إسرائيل”؟.
3- هل ستحاول قوى 14 آذار الإفادة من الكارثة الإجتماعية-الإنسانية الهائلة التي تعرضت لها قاعدة الحزب الشيعية، للعمل على تعديل موازين القوى السياسية لصالحها أو لخدمة صراع تحالف واشنطن- باريس ضد محور طهران- دمشق، أم ستغلّب هي الأخرى لبنانيتها على علاقاتها الإقليمية والدولية؟
4- وأخيراً، هل ستكون اليد العليا خلال المرحلة التالية للقرار الشيعي الداخلي أم للقرار الإقليمي الخارجي؟. بكلمات اوضح: هل ستكون إيران وسوريا قادرتين على إقناع الشيعة بمواصلة الصراع وفق أجندتهما الخاصة، أم أن هذا الأمر الأن سيكون وراء ظهر الشيعة لفترة غير قصيرة بعد أن تركهم الحلفاء لمصيرهم في مواجهة آلة الدمار الشامل الإسرائيلية؟
أسئلة دقيقة؟ أجل. وخطيرة أيضاً. إذ سيتوقف على طبيعة الإجابة عليها مستقبل الوطن اللبناني نفسه: بين أن يكون “الدولة المقاومة” أو “اللادولة- الساحة”.
نكسة إسرائيلية
هذا على الصعيد اللبناني. أما على الصعيد الإسرائيلي، فالصورة لا تبدو أقل تعقيداً.
الدولة العبرية أيضاً على مفترق طرق. إنها لم تفق بعد، ولا يتوقع لها أن تفيق قريباً، مما يمكن أن يكون “النكسة” العسكرية التي حلّت بها، بسبب فشل إستراتيجيتها العسكرية التي إستندت إلى ثلاثة قوائم: الحرب الجوية والحرب ضد المدنيين والأهداف المدنية وعمليات الكوماندوس.
لماذا لن تفيق قريباً؟
لأن الدول، كما الأفراد، تمر، حين تصاب بصدمة عنيفة أو نكسة مريرة، بثلاث مراحل سايكولوجية أساسية: رفض تصديق ما جرى؛ الألم والإحباط؛ ثم أخيراً القبول.
العرب بعد نكسة 1967 مروا بكل هذه المراحل. فهم رفضوا في البداية تصديق الهزيمة الصاعقة ونزلوا بالملايين إلى الشوارع لمطالبة جمال عبد الناصر بتثبيت مرحلة اللاتصديق هذه. ثم، وبعد وفاة ناصر وتكشف هول النازلة، إنتقلوا إلى الحزن والإحباط قبل أن يصل معظمهم في النهاية إلى قبول الهزيمة بأمر واقع (وهذا بالطبع حتى إنتصار حزب الله في 2000 و2006).
الإسرائيليون بعد صدمة “حرب الأسيرين” ما زالوا في المرحلة الأولى. إنهم غير قادرين بعد أن يصدقوا بأن جيشاً صغيراً من مقاتلي “حزب الله” لا يتجاوز عدده ثلاثة إلى أربعة آلاف مقاتل، إستطاع أن ينهي أسطورة التفوق العسكري الإسرائيلي الكاسح، وأن يضع علامات إستفهام خطيرة فوق رأس كل القواعد والمباديء العسكرية الإسرائيلية: الحرب الخاطفة. الحرب الإستباقية. النصر السريع، هيبة الردع.. الخ.
أقطاب الليكود هم الأن قباطنة مرحلة اللاتصديق هذه. وهكذا خرج أحدهم، يوفال شتاينيتز، شاهراً سيف الرفض ومعلناً أن القرار 1701 “مشين وخطير ويعني الرضوخ للإرهاب”. وكذا فعل بقية السرب الليكودي مثل ليمور ليفانت وأفيغدور ليبرمان. هذا في حين كانت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية بلسان رئيس الأركان دان حالوتس يعترف بالنكسة ويلوّح للسياسيين المدنيين بـ ” فتح ملفات كثيرة تتعلق بالجيش”.
لن تتوافر للإسرائيليين في هذه المرحلة شخصية كجمال عبد الناصر، أو أرئيل شارون، لتدعيم مرحلة لاتصديقهم لما جرى. والأرجح، بالتالي، أن يصبوا جام غضبهم على إيهود أولمرت وأن يطالبوا بلجنة تحقيق حول ” التقصير” الجديد.
لكن، وبعد أن يبدأ الجرح بالتبّرد، سيبدأ الإسرائيليون بالإنتقال إلى المرحلة الثانية: الألم والإحباط، وسيباشرون طرح أسئلة وجودية خطيرة مثل: إذا ما كان أقوى ثالث سلاح جو في العالم، وأعتى قوة برية-بحرية في المنطقة، وأخطر ترسانة نووية في الشرق الأوسط الكبير، لم تنجح في حماية مواطني إسرائيل، فمن في وسعه حمايتهم؟ وإذا ما قذف الله نوراً في صدر دولة عربية ( كسوريا مثلاً !! ) فأضاءها بالإيمان بأهمية الإنتقال من عقيدة الحرب النظامية إلى عقيدة الحرب الشعبية- الصاروخية المتحركة، فماذا سيحل بمصير الكيان الإسرائيلي ومستقبله؟
هذه الأسئلة الكبرى سيأتي وقتها لاحقاً. أما الأن، وفي مرحلة اللاتصديق، ستكون الاولوية للرفض والغضب ومحاسبة الذات ودحرجة بعض الرؤوس في الداخل.
إنها نكسة 67 إسرائيلية هذه المرة، وإن بشكل مصّغر.
شيء مـؤكـد
كما هو واضح، لبنان وإسرائيل ستمران بعد نهاية الحرب (إذا ما إنتهت عند هذا الحد)، بمرحلة إنتقالية مريرة ليس في وسع أحد بعد التكهن بمسارها. لكن ثمة شيء واحد مؤكد: العمل بالنسبة لهما لن يستأنف كالمعتاد كما كان قبل 12 تموز – يوليو 2006.
سعد محيو- بيروت
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.