لبنان وغزة: “حروب الآخرين”
حربا لبنان وغزة لن تضعا أوزارهما أو على الأقل تصلا إلى هدنة مؤقتة، إلا إذا ما توصلت الأطراف الإقليمية والدولية المتصارعة إلى تفاهمات معينة.
وفي الأثناء، سيواصل الشرق الأوسط برمته رقصته الخطرة فوق براميل البارود الجاهزة للانفجار..
السؤال الكبير الذي بقي معلّـقاً من دون إجابة خلال الأسابيع العاصفة الماضية في فلسطين كان: أين دور الفرع الإسرائيلي من محور واشنطن- تل أبيب في المجابهات الحارة، مع محور طهران – دمشق – حماس؟
هذا السؤال لم يبق معلّـقاً طويلاً، بعد أن حولّت الدولة العبرية حادث خطف الجندي جلعاد شاليت إلى أزمة إقليمية كبرى، ثم بعد أن أشعلت حرباً شاملة أخرى ضد حزب الله في لبنان.
فبعد يوم واحد من بدء عملية “أمطار الصيف” العسكرية الإسرائيلية ضد كهرباء غزة وجسورها وبناها التحتية، كانت أربع طائرات حربية إسرائيلية تشن حرباً صوتية على الرئيس السوري بشار الأسد في قصره في اللاذقية، وتستنفر قواتها على الحدود مع لبنان ضد “حزب الله”، وتدفع الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان للاتصال بالأسد لتحميله مسؤولية “عدم إعادة جلعاد إلى منزله” (…).
من بين كل هذه التداعيات، كان موقف عنان هو الأخطر والأغرب، إذ أن الرجل لم يكتف بتلبية مطالب تل أبيب للضغط على دمشق، بل هو أيضاً تحدث مع السوريين باللغة نفسها التي يتحدث بها الإسرائيليون حين قال إن “الذين يتّـخذون القرارات في الشأن الفلسطيني (في تلميح إلى خالد مشعل) ليسوا فقط في دمشق، بل هم أيضاً تحت أمرة الرئيس السوري”.
كان موقف عنان ملفتاً بما فيه الكفاية، وقد اعتبره العديد من المراقبين الشرق أوسطيين مؤشراُ على وجود نوايا تصعيديه أمريكية – إسرائيلية في المنطقة. وهكذا، وبرغم أنه من الصحيح أن الامتدادات الإقليمية لـ “أمطار الصيف” في غزة بقيت في إطار “الرسائل التحذيرية” لدمشق وطهران وبيروت، إلا أنه كان واضحاً من البداية أنها يمكن أن تتحول في أية لحظة إلى “رسائل تنفيذية” بسبب أحد احتمالين:
إما فشل العمليات العسكرية الإسرائيلية في قصم ظهر “حماس” في غزة واحتمال استمرار عمليات خطف الجنود والمستوطنين اليهود أو تدخل طهران ودمشق لمساعدة حماس، سواء بإطلاق عمليات استشهادية داخل إسرائيل وخارجها أو بتحريك جبهات أخرى ضدها جغرافياً (لبنان) وأمنياً (خطف رعايا إسرائيليين في الخارج).
الاحتمالان الإثنان تحققا معاً. فقد فشلت الحملات العسكرية الإسرائيلية في هز بنيان “حماس”، وفي الوقت ذاته، فتحت إيران وسوريا جبهة لبنان بالطريقة ذاتها التي شجّـعتا بموجبها حركة حماس على فتح جبهة غزة: خطف جنود إسرائيليين ووضع هيبة الردع الإسرائيلية على محك خطر، وهذا أنجز عبر قيام “حزب الله”، أبرز ركائز هذا محور السوري – الإيراني – الغزاوي، بتحويل لبنان برمته إلى جبهة ثانية لتخفيف الضغط على الجبهة الأولى في غزة.
والسؤال الفوري الذي طرح فور اندلاع الحرب في لبنان كان: هل تتضمن المجابهات احتمال فتح جبهة سوريا أيضاً، خاصة بعد أن خصّ الرئيس الأمريكي بوش هذه الأخيرة بوابل من التهم والتهديدات؟
لا معلومات محددة حول هذا الأمر، لكن المؤكد أن المحور الثلاثي، وحين قرّر فتح الجبهة اللبنانية، وضع في الاعتبار احتمال تعرّض سوريا إلى ضربات عسكرية إسرائيلية، وقرر، على ما يبدو، قبول أثمان مثل هذا التطور.
أدلة عـــدّة
• العملية الكبرى والناجحة لحزب الله ضد إسرائيل، والتي تضمّـنت خطف جنديين، لم تكن لتحدث بدون موافقة دمشق.
• الرفض السوري القاطع لكل الضغوط الغربية (والعربية) لإبعاد نفسها عن حركة “حماس” ورئيسها خالد مشعل.
• الثقة الكاملة التي يشعر بها السوريون والإيرانيون بأنهم قادرون على المبادرة إلى الهجوم، بسبب التراجع الإستراتيجي الذي تعرض له المشروع الأمريكي في العراق وبقية أنحاء الشرق الأوسط، والتقدم التكتيكي الذي أحرزه المحور إقليمياً (فوز حماس في الانتخابات وصمود النظام السوري وتعثّر الانقلاب الغربي في لبنان.. الخ)، ودولياً (بدء تبلور تكتل معاهدة شنغهاي الصيني – الروسي – الإيراني).
أي حرب؟
هل حسابات المحور في محلها؟ سيكون الأمر كذلك، إذا لم تصل المجابهات العسكرية الحالية إلى مجابهات إقليمية شاملة، أي إذا ما بقيت أقل من حرب شاملة وأكثر من مجرد عمليات أمنية، لكنها لن تكون على هذا النحو، إذا ما قرر التحالف الأمريكي – الإسرائيلي التوجه مباشرة إلى القلب النابض للمحور في منطقة الهلال الخصيب، أي سوريا، والعمل على إسقاط النظام فيها بالقوة العسكرية.
حينذاك، سيكون على المحور، الإثبات بأنه قادر، ليس فقط على الصمود في وجه التحالف الإسرائيلي – الأمريكي المتفوق تكنولوجياً ونوعياً، بل أيضاً على تحميل هذا التحالف خسائر فادحة تمنعه من قطف الثمار السياسية لنصره العسكري المحتمل.
على أي حال، لم تصل الأمور إلى هذا الحد. فالعمليات العسكرية لا تزال محصورة جغرافياً في شريطي غزة وجنوب لبنان، ومحدودة سياسياً في إطلاق الأسرى الإسرائيليين الثلاثة، ومفتوحة على إمكان تدخل الدول الكبرى للَـجم التصعيد، خاصة في لبنان.
وبالتالي، التحدي الرئيسي أمام محور دمشق – طهران الآن، هو منع تحالف واشنطن – تل أبيب من شق الجبهات الداخلية في فلسطين ولبنان، أولاً داخل حركة “حماس” نفسها بين قيادتي الداخل والخارج، وثانياً (وهنا الأخطر)، بين حزب الله وحلفائه وبين معارضيه في قوى 14 مارس.
مصير الحزب
هذا على صعيد الجانب الإقليمي من الحرب الشرق أوسطية الراهنة. ماذا الآن عن مصير “حزب الله”، وكيف يمكن أن يخرج من هذه المجابهات؟
ينبغي القول أولاً أن لبنان ككل، وليس فقط حزب الله، وقع في حال من الحصار البري والبحري والجوي الإسرائيلي الكامل والخطر. ومع ذلك، ما ثمة ما هو أخطر من الحصار العسكري: الحصار الدبلوماسي الدولي المفروض عليه.
فالرئيس الأمريكي جورج بوش، وبرغم دعوته الأطراف المتنازعة إلى ضبط النفس، منح الدولة العبرية ضوءا أخضرا كاملاً لشن الحرب على بلاد الأرز، وإلى أجل لم يحدده. وفرنسا، التي أصبحت الراعية الدولية الجديدة لبلاد الأرز بعد الانسحاب السوري، تجد نفسها عاجزة عن فعل أي شيء، وهي لم تستطع سوى إقناع واشنطن بـ “مناشدة” تل أبيب “عدم تدمير حكومة فؤاد السنيورة. وروسيا تبدو (حتى الآن على الأقل) في غير وارد العمل للإفادة من الأزمة الشرق أوسطية الجديدة، فيما هي منغمسة في قطف ثمار الأزمة القديمة المتعلقة بالملف النووي الإيراني.
كل هذا يجعل أي تحرك دولي لاحتواء التصعيد في لبنان صعباً. وليس قرار كوفي عنان بإيفاد بعثة ثلاثية إلى المنطقة، أكثر من محاولة لرفع العتب ولتغطية عجز منظمته الدولية عن القيام بأي تحرك جدّي، وهذا يعني أن الحرب في لبنان مرشحة للاستمرار أياماً وربما أسابيع عدة، قبل أن تسمح واشنطن للأسرة الدولية بالتدخل لابتداع الحلول، لكن، حتى لو حدث هذا التدخل غداً أو بعد غد، فلن يصب هذا بالضرورة تماماً في مصلحة “حزب الله”.
أسباب كثيرة ومتعددة
1. إذا ما وضع مجلس الأمن الدولي يده على الأزمة، كما تطالبه الآن الحكومة اللبنانية، فإنه سيضغط حينذاك بقوة لتطبيق القرار 1559 الذي صدر في أواخر 2004، والذي دعا إلى تجريد حزب الله من سلاحه، مقابل العمل على وقف الحرب. والطبع، مثل هذا التطور سيجعل إسرائيل تفاخر بأن قوتها العسكرية وحدها هي التي أجبرت الحزب على تنفيذ القرار.
2. وإذا توسّـطت فرنسا، ومعها الإتحاد الأوروبي وروسيا لإبرام صفقة ما حول تبادل الأسرى، فهي ستطالب بثمن مرتفع مقابلها: السماح للجيش اللبناني بالسيطرة الكاملة على منطقة الحدود مع إسرائيل، وبالتالي، انسحاب حزب الله منها.
3. ثم: إذا ما دخلت سوريا مجدداً على خط الساحة اللبنانية، كما تطالبها الآن كوندوليزا رايس، فهي هذه المرة لن تكون مهتمة أساساً بحماية أو تعزيز مواقع “حزب الله”، كما فعلت في السابق حين وافقت على اتفاق أبريل الدولي حول المقاومة، بل بحماية وتعزيز مواقعها هي، خاصة في العلاقة مع واشنطن، وهذا قد يتطلب تنازلات مهمة من “حزب الله”.
إلى هذه المعطيات، يجب أن نضيف الوضع الداخلي اللبناني، حيث تنتظر قوى 14 مارس الفرصة السانحة لإسقاط قرار الحرب والسلم من يد حزب الله، وإعادة رسم موازين القوى المحلية على أسس جديدة.
ماذا في وسع الحزب أن يفعل في مثل هذه الظروف؟ بمقدوره بالتأكيد الرهان على نشوب حرب إقليمية عامة تنغمس (أو تدفع إليها) سوريا مباشرة، إذ أن ذلك سيحول بين ليلة وضحاها الحرب اللبنانية – الإسرائيلية المحدودة، إلى حرب قومية عامة بين “القوميتين” العربية والعبرية.
لكن، وفي غياب مثل هذه الحرب، سيكون على الحزب في مرحلة ما، التفاوض، ليس فقط حول وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، بل أولاً وأساساً حول طبيعة وأبعاد وحدود دوره العسكري والسياسي في لبنان.
كما هو واضح، بصمات الأبعاد الإقليمية والدولية للحرب الدائرة الآن في لبنان وغزة، تكاد تطغى بشكل كاسح على العوامل المحلية الدافعة إليها. ولأن الصورة على هذا النحو، من الصعب تخيل حلول داخلية لهذه الأزمات خارجية.
بكلمات أوضح، حربا لبنان وغزة لن تضعا أوزارهما أو على الأقل تصلا إلى هدن مؤقتة، إلا إذا ما توصلت الأطراف الإقليمية والدولية المتصارعة إلى تفاهمات معينة، سواء مرحلية أو دائمة، وفي هذه الحين، سيواصل الشرق الأوسط برمته رقصته الخطرة فوق براميل البارود الجاهزة للانفجار.
سعد محيو – بيروت
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.