لبنان يتأرجح بين “كفي ملاك وعفريت”
"يريد الأمريكيون لبنان حقاً نموذجاً للمنطقة العربية برمّـتها. لكن أي نموذج؟ الدولة الديمقراطية المفتوحة على العلمانية والسلام الأهلي، أم كنفيدرالية الدويلات الطائفية المستندة إلى التعصّـب والحروب الأهلية المتصلة"؟
سؤال طرحه رئيس وزراء لبناني سابق يلخّص واقع تأرجح لبنان بين كفي ملاك وعفريت متناقضين تماماً.
السؤال الذي طرحه رئيس وزراء لبناني سابق في جلسة خاصة، يلخّص بشطحة قلم واقع تأرجح بلاد الأرز بين كفي ملاك وعفريت متناقضين تماماً: الوحدة أو التفكيك، العلمانية الحديثة (ولو بأشكالها الاولّية والتدرجية) أو البنى المتأخرة ما قبل الحديثة، البناء الذاتي الوطني أوالتدمير الذاتي الطوائفي.
لكن، لماذا وكيف وصل لبنان إلى هذا المنعطف التاريخي الخطر، برغم أنه حقق ما يمكن أن يوصف بأنه أول ثورة شعبية ديمقراطية في التاريخ العربي في 14 مارس الماضي؟
ثمة إجابتان لا واحدة. الأولى داخلية، وتتمثل في تطور كان يتوقعه العديد من المحللين: إنقضاض الطبقة الطائفية اللبنانية، التي توصف عن حق بأنها “أقوى طبقة سياسية في العالم”، على كل النبض الوطني التوحيدي الذي تجلى في تظاهرة المليون مواطن يوم 14 مارس الماضي، إذ فور إذعان دمشق للمطالب الشعبية اللبنانية، المدعومة بقرار دولي قوي بالأنسحاب العسكري والأمني من لبنان، بادرت هذه الطبقة إلى إشعال نيران العصبيات الطائفية والمذهبية لإعادة “قطعانها الشاردة” إلى الحظيرة.
فتم صرف عشرات ملايين الدولارات على عمليات الحقن الطائفي، ووضعت أجهزة الإعلام، المرئية والمسموعة، (خاصة تلفزيوني ” الأل. بي . سي”، الماروني وقناة “المستقبل” السّنية) في خدمة إستثارات غرائزية قل نظيرها حتى في خِـضم الحرب الأهلية الدموية اللبنانية في الفترة ما بين 1975 – 1989.
ذورة هذا الهجوم الطائفي المضاد، إذا جاز التعبير، تجسّـد في الانتخابات النيابية الأخيرة التي أسفرت عن حالة إستقطاب قسمت البلاد، قولاً وفعلاً، إلى أربع كتل طائفية كبرى، هي السُنّـة (لأول مرة في تاريخهم)، والشيعة، والدروز، والمسيحيون، وهكذا بات لكل طائفة كبرى رئيس واحد، وصوت واحد تقريباً، الأمر الذي جعل الانفجارات الطائفية أمراً سهل المنال، في كل حين يشعر قادة إحدى الطوائف أن مصالحه أو طموحاته الخاصة مهددة.
مشروع جعجع الفدرالي
هذه التطورات مهّدت الأجواء تماماً أمام أي توجه دولي- إقليمي لاحتمال إعادة رسم خريطة لبنان على أسس الفرز الطائفي الجغرافي.
بالطبع، قد لا يكون هذا الفرز سهلاً. فمعظم القوى السياسية اللبنانية يبدو معارضاً لتفكيك الدولة الموحدة اللبنانية الحالية، وإعادة تركيبها على قاعدة النظام الاتحادي أو الكانتونات.
وحده تيار “القوات اللبنانية” الماروني، الذي يرأسه سمير جعجع، الذي أطلِـق سراحه قبل أيام بعد سجن دام نيفاً وأحد عشر عاماً، تقدم علناً منذ عام 1994 بمشروع لتحويل لبنان إلى دولة فدرالية من 17 محافظة، بعد القيام بـ”تطهير طائفي” ( ترانسفير) في كل من هذه المحافظات. آنذاك، أسندت القوات مشروعها إلى الأسس الآتية:
– منذ أكثر من 1300 عام، لم ننجح في التوصل إلى حل في لبنان، لأننا لم نقر بحقيقة الواقع، وهي أن هذا البلد يقوم على التعددية الطائفية والثقافية والحضارية. وهكذا، ومنذ أن قامت الدولة في لبنان عام 1920، بات اللاإستقرار والحروب هي السمة الغالبة.
– الطائفية حقيقة مجتمعية ثابتة، لا عارضة في لبنان والمنطقة العربية، ونشأت قبل ردح طويل من قيام الدولة. لذا، يجب خلق التطابق بين المجتمع والدولة، بحيث تعكس هذه الأخيرة الحقيقة الطائفية كما هي، إستناداً إلى ثنائية مطلقة مسيحية- إسلامية.
– الفدرالية الثنائية هي الحل الحقيقي والنهائي للأزمة اللبنانية، حيث تتمتع كل طائفة بحقها في تحقيق ذاتها وطموحاتها الاقتصادية والسياسية والثقافية وأمنها الذاتي، في إطار إتحادين عاصمته بيروت.
بالطبع، لم يكن هذا الطرح جديداً. فمنذ أن أسس الانتداب الفرنسي “دولة لبنان الكبير” عام 1920، كان يبرز دوماً تيار مسيحي يدعو إلى تأسيس دولة مسيحية صافية. بيد أن هذه المقاربة بقيت إجتهاد أقلية حتى في ذروة الحرب الأهلية. كما أنه لم يحظ بأي دعم من الطوائف الإسلامية، عدا في بعض الأحيان، بعض التوجهات الغامضة بين الدروز.
واليوم، ترفض الكتلة المسيحية الرئيسية، التي يتزعمها قائد الجيش السابق ميشال عون، فكرة الدويلات الطائفية جملة وتفصيلا. بدلا عن ذلك، يتقدم عون بمشروع وحدوي حديث يستند إلى العلمانية الديمقراطية، ويدعو إلى نقل اللبنانيين من الإنتماء الطائفي إلى الإنتماء الوطني، ومن كونهم رعايا لمذاهب إلى مواطنين في دولة حديثة.
وليس من الواضح حتى بالنسبة لسمير جعجع، ما إذا كان سيعود إلى العزف على قيثارة التقسيم الطائفي، إذ شدد بعد خورجه من السجن أنه “يتعين عدم العودة إلى أفكار الماضي التي طُرحت في خضم الحرب”.
“الفوضى البناءة”
بيد أن الاستنكاف عن مداعبة فكر التقسيم، على أهميته، لا تلغي حقيقة الفرز الطائفي الانتخابي الذي حدث مؤخراً، مما جعل الداخل اللبناني جاهز لأية صيغ خارجية قد تُـطرح للعبث بالخرائط.
وهنا تطل الأجندة الأمريكية (وفي تضاعيفها الأجندة الإسرائيلية) برأسها. فمنذ تعثر مشروع الاحتلال الأمريكي للعراق، كانت الإدارة الأمريكية تنتقل سريعاً من نظريات بناء الدولة – الأمة (العراقية أولاً)، والنظام الإقليمي الشرق أوسطي الجديد، إلى نظريات تفتيت الدول الراهنة إلى كيانات مذهبية وطائفية وعرقية في إطار فدرالي فضاض، وإلى نظرية “الفوضى البناءة” في الشرق الأوسط التي صكّـها روبرت ساتلوف، مدير مؤسسة واشنطن لدراسات الشرق الأدنى.
هذه النظريات، التي دعمها مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية المتقدمة في واشنطن وتل أبيب وباقي مراكز الأبحاث الأمريكية والإسرائيلية، وتبنتها بالكامل إدارة بوش، تدعو إلى إعادة رسم خريطة الهلال الخصيب العربي، ومن بعده خريطة المنطقة برمتها، على أسس قبلية وطائفية، سواء عنى ذلك تشكل كيانات سياسية جديدة أو تحويل الدول الراهنة إلى كنفيدراليات هشة.
بداية، هذا التوجه إنطلق من العراق، الذي يبدو أنه يسير بخّـطى حثيثة الآن نحو التقسيم أو الكنفيدرالية الهشة. لكن الجائزة الكبرى ستكون سوريا، التي يعتبرها المحافظون الجدد العقبة الرئيسية أمام ما يسمونه “تهدئة” الهلال الخصيب، وبسط السيطرة الأمريكية التامة عليه، وصولاً إلى حدود إيران التي سيأتي دورها حينئذ.
أي دور للبنان في هذا السيناريو؟
لبنان، له دور كبير. فهذا البلد، كما أسلفنا، تم تأهيله منذ الانتخابات الأخيرة لأية برامج تفتيتية جديدة، ولم يبق سوى تفجير صواعق الانفجار التقسيمي فيه، التي ستمدد حينئذ بسرعة نحو سوريا لمحاولة تقسيمها وتفتيتها. هذه الصواعق يمكن أن تكون:
1- إصدار قرارات جديدة من مجلس الأمن، تطالب الحكومة اللبنانية بتطبيق القرار رقم 1559 القاضي بتجريد حزب الله والمخيمات الفلسطينية من السلاح. وبالطبع مثل هذه الضغوط قد تفجر الصراعات بين مسيحيين يؤيدون هذه القرارات، ومسلمين يعارضونها.
2- تصعيد المسيحيين لمطالبتهم بإعادة النظر في صيغة النظام السياسي الراهن الذي أرسى دعائمه إتفاق الطائف عام 1989، مما قد يؤدي إلى عودة طرح الشعار المسيحي المتطرف: إما العلمانية الكاملة أو الطائفية الكاملة.
3- وأخيراً، إحتمال دخول الاستخبارات الإسرائيلية بقوة على خط حرب المخابرات الإقليمية – الدولية الراهنة على أرض الأرز، لإشعال الانفجارات المذهبية والطائفية، وهذا يمكن أن يتم، مثلاً من خلال عمليات إغتيال أو تفجيرات كبرى يعلن فيها طرف أصولي إسلامي ما مسؤوليته عنها. وهنا، توقف المراقبون ملياً أمام البيان الخطير الذي أصدره ما يسمى تنظيم “القاعدة في بلاد الشام”، والذي كفّـر فيه قادة الشيعة اللبنانيين، وعلى رأسهم العلامة محمد حسين فضل الله، إضافة بالطبع لوصفه المسيحيين اللبنانيين بـ “الكفار”، ليطرحوا السؤال: هل هذه هي بدايات الدخول الاستخباري الإسرائيلي على الخط اللبناني؟
كما هو واضح، الارتباط يبدو كاملاً بين مصير الكيان اللبناني وبين مصائر دول الشرق الأدنى العربي، وهو إرتباط مزدوج، حيث التطورات لدى طرف ما تؤثر تأثيراً قوياً على التطورات لدى الطرف الآخر.
بيد أن القول الفصل هنا سيكون بالطبع لأمريكا، وإلى حد أقل بكثير لفرنسا التي حاولت هي الأخرى عام 1921 تقسيم سوريا ولبنان إلى دويلات طائفية.
فإذا ما قررت الولايات المتحدة دفع لبنان ليكون نموذجاً علمانياً ديمقراطياً للمنطقة، سيكون لها ذلك. أما إذا ما قررت أن يكون هذا النموذج طائفياً تقسيمياً كما يبدو التوجه حتى الآن على الأقل، فسينحدر لبنان إلى مرحلة “اللاإستقرار غير البناء”، وحينها قد لا يبق مشروع جعجع الفدرالي التقسيمي مجرد مشروع.
سعد محيو – بيروت
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.