لعبة شدّ الحبل بين أمريكا وليبيا لا تُفسد للـ “بزنس” ودا
على رغم الخط البياني للتطبيع الأمريكي – الليبي السائر إلى الأمام قُدما منذ قرر العقيد معمر القذافي التخلي عن الأسلحة غير التقليدية التي كانت بحوزته، لم تصل وتيرة المسار إلى السرعة التي كان يتطلع إليها الجانبان.
ظل الصّـحو والسّـحاب يتعاقبان على سماء العلاقات الثنائية؛ أحيانا عندما يذهب مسؤول أمريكي كبير إلى طرابلس، تلوح نُذر خلاف تؤدّي إلى إلغاء لقاء مع الزعيم الليبي في اللحظة الأخيرة، وأحيانا أخرى، يُعلن في واشنطن عن تسمِية سفير في ليبيا، لكنه لا يلتحق بمقر عمله.
كذلك، يُعلِـن الليبيون أن وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس ستزور طرابلس، غير أن الجانبين يستعِـيضان عن الزيارة بذهاب وزير الخارجية الليبي إلى … رايس في مكتبها في واشنطن.
تكرّرت لعبة شدّ الحبل هذه مرات، لكن في هذه المرة تطوّرت إلى أزمة صامِـتة لا تظهر منها سوى المفاعيل الإعلامية والتّـراشق بالمواقف والمواقف المضادة في مجلس الأمن.
عارضت ليبيا، بصِـفتها العضو العربي الوحيد في مجلس الأمن، مشروع القرار الذي تقدّمت به واشنطن لإدانة العملية الفدائية التي استهدفت المدرسة التلمودية في القدس المحتلة، وأثنت الشعوب ووسائل الإعلام في العالم العربي، وفي مقدّمتها الفلسطينيون، على الموقف اللِّـيبي.
لكن رد الفعل هذا زاد من تدهوُر علاقات طرابلس مع الولايات المتحدة، خاصة أن العرب أنفسهم شدّدوا على أنه “لولا وجود ليبيا في مجلس الأمن، لتم تمرير قرار إدانة الفلسطينيين، ممّـن قُتلوا في محرقة غزة ومن لا زالوا على قيْـد الحياة، بالتِـماس المجلس الأعذار للجرائم الصهيونية”، كما كتبت “البيان” الإماراتية.
وكان سليمان الشحومي، أمين الشؤون الخارجية (رئيس لجنة العلاقات الخارجية) في مؤتمر الشعب العام (البرلمان الليبي)، هاجم سياسة الولايات المتحدة في كلمته أمام الدورة نصف السنوية للبرلمان حين تعرّض للاعتداءات الإسرائيلية على غزة وتساءل “أين الذين يتحدّثون في العالم الغربي عن حقوق الإنسان”؟
وبدا ردّ الفعل الأمريكي على الموقف الليبي قريبا من “النرفزة” الإسرائيلية، التي عبر عنها بكلمات نابية المندوب الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة دان غيلرمان عندما قال “هذا ما يحدُث مع الأسف، عندما يخترق إرهابيون مجلس الأمن”.
قبل هذا الموقف الذي تلقفه العرب بالتّـرحيب، لم تكن العلاقات الأمريكية – الليبية في أحسن حال، واعترف سفير ليبيا لدى الأمم المتحدة جاد الله عزوز الطلحي (وهو رئيس وزراء سابق)، بأنها “لا تسير بالسرعة التي يرغب فيها الطرفان، وإن كانت تتقدم في الإتجاه الصحيح”، والسبب هو التحفظ الذي أبدته ليبيا على مشروع قرار رمى لفرض مزيد من العقوبات الدولية على إيران.
وعزا الليبيون موقفهم إلى كونهم عانوا فترة طويلة من عقوبات فرضها عليهم مجلس الأمن، لكن الصحيح أيضا أن طرابلس تحرص على المحافظة على العلاقات التي أقامتها مع طهران بعد قطيعة طويلة.
ومن تجليات التقارب الجديد، الزيارة الرسمية التي أدّاها رئيس الوزراء الليبي البغدادي المحمودي إلى طهران العام الماضي، والتي تُوِّجت بالتوقيع على اتفاقات تعاون جديدة.
وعلى هذه الخلفية أيضا، قاطع الليبيون مؤتمر أنابوليس، الذي نظمته الولايات المتحدة في أواخر شهر نوفمبر الماضي، “كي لا تكون شاهد زور”، كما قال أخيرا وزير الخارجية الليبي عبد الرحمن شلقم في كلمة ألقاها أمام البرلمان، معتبِـرا أن ذلك المؤتمر “كان مجرّد تسويق للوجود الإسرائيلي مع العرب”، وهو موقِـف لا شك في أنه أغاظ واشنطن.
أكثر من ذلك، شجّـعت السلطات الليبية نجل وزير الخارجية الأسبق صالح مسعود بويصير، الذي قـُتل في حادثة إسقاط إسرائيل طائرة مدنية ليبية فوق سيناء عام 1973، لإقامة دعوى قضائية على الدولة العِـبرية بواسطة مكتب محاماة في تل أبيب، وكأنما أرادت ليبيا أن تُذكِّـر العالم بالأعمال الإرهابية الإسرائيلية ضد الطائرات المدنية.
صعوبات مع الكونغرس؟
ويعزو مراقِـبون كُثر سبب تأخير التِـحاق السفير الأمريكي جين كريتز بمركز عمله في ليبيا منذ عشرة أشهر إلى وجود تلك النقاط الخلافية التي لا زالت تُـسمِّـم العلاقات الثنائية.
غير أن الأمريكيين يُلطِّـفون الوضع ويُرجعون التأخير إلى أسباب فنِّـية تتعلق بالصعوبات التي يواجهها الرئيس بوش للحصول على موافقة الكونغرس على تعيين السفير الجديد في ليبيا، الذي سمّـاه في 11 مايو الماضي (على رغم معاودة فتح السفارة الأمريكية منذ عام 2006).
وتشير مصادر أخرى إلى أن العقبة الرئيسية تتمثل في ما يعتبره الأمريكيون تراخِـيا لليبيا في صرف التعويضات لـ 270 أسرة من ضحايا حادثة تفجير طائرة “بان أمريكان” فوق لوكربي في سنة 1988.
ولا زال هناك تباعُـد بين الجانبين في تقدير المبلغ النهائي للتعويضات التي ستُدفع لأسر الضحايا، وكذلك تقدير الخسائر الليبية، نتيجة الغارات الأمريكية على بنغازي وطرابلس في عام 1986.
وكشف شلقم في الكلمة التي ألقاها أمام البرلمان الليبي في مطلع الشهر الجاري، أن هناك مشاكل قضائية مع الولايات المتحدة، وأن طرابلس تُـعارض السياسة الأمريكية في ما يخُـص العراق وفلسطين وسوريا.
غير أن السُّـحب التي تنتشر بين الحين والآخر في سماء العلاقات السياسية، لا تعطل المشاريع الإستثمارية السائرة على قَـدَم وساق، وبخاصة في القطاع النفطي.
وفيما أشاح القذافي بوجهه عن بعض المسؤولين الأمريكيين الذين زاروا ليبيا رافضا استقبالهم، مثلما فعل مع جون نغروبونتي، فتح ذراعيه لرؤساء الشركات النفطية الذين زاروها واستقبلهم بالأحضان.
أوراق احتياطية
وفي ظل استمرار البرود مع واشنطن، استخدم الليبيون أوراقا أخرى للتّـدليل على سِـعة هامش المناورة المُـتاح لهم، فوطّـدوا الشراكة مع الإتحاد الأوروبي واتّـجهوا نحو موسكو لتعزيز التعاون الثنائي.
وفي هذا السياق، أجروا ثلاث جولات من المحادثات مع الإتحاد الأوروبي، مهّـدت للتوقيع على اتفاق جديد، وأتى الاتفاق تنفيذا لوعْـد قطعه الأوروبيون للسلطات الليبية في هذا المعنى، لقاء إفراجها عن الممرضات البلغاريات اللائي اتُّـهِـمن بتعمّـد تلقيح أطفال ليبيين بفيروس الأيدز.
وأكد شلقم أمام أعضاء البرلمان الليبي أن بلاده ستستأنف المحادثات مع الإتحاد الأوروبي، “للوصول إلى اتفاق شراكة شامل قبل نهاية العام الجاري”. وتقاطعت تلك الرغبة مع الإقتراح الذي تقدّمت به المفوضية الأوروبية من أجل إقامة علاقات اقتصادية وسياسية أوثق مع ليبيا، في إطار مسعى عام لتعزيز العلاقات مع كِـبار المصدِّرين للطاقة”.
أما مع روسيا، فتوجد مؤشِّـرات تدُل على أن ليبيا عادت شريكا مُـهِـما لموسكو، وخاصة على الصعيد الإقتصادي. ونقلت وكالة “أنترفاكس” الروسية مؤخرا عن الرئيس الروسي المُـنتهية ولايته فلاديمير بوتين قوله خلال لقاء مع نواب من مجلس الدوما في الكرملين أن “روسيا تُـقيم حوارا نشِـطا جدا مع ليبيا”، ولم يستبعد تبادُل الزيارات بين مسؤولين من البلدين في أعلى المستويات”، ولم تتسنّ معرفة ما إذا كان واردا أن يؤدّي بوتين نفسه زيارة لليبيا قبل أن يغادر الكرملين في مايو المقبل.
حركة التِـفافية
كأنما شعر القذافي باحتمال ممارسة الأمريكيين ضغوطا عليه لتكريس الإنفتاح السياسي في الداخل، فاستبق الأمر بحركة التِـفافية من النّـوع الذي عوّد عليه المراقبين، إذ ألقى خطابا في افتتاح أعمال “مؤتمر الشعب العام” (البرلمان) بمناسبة الذكرى الحادية والثلاثين لقيام نظام “اللجان الشعبية” دعا فيه لإلغاء الحكومة، عدا وزارات السيادة أي الخارجية والدفاع والداخلية ووزارة رابعة تتولّـى مسؤولية الخدمات والأشغال العامة.
وذهب إلى أبعد من ذلك لامتصاص غضب الجمهور الملتاع من غلاء الأسعار، فشنّ هجوما غير مسبوق على حكومة رئيس وزرائه البغدادي المحمودي، متّـهما إياها بالعجز والإخفاق في إدارة شؤون البلاد.
وبالأسلوب نفسه، حاول مغازلة المواطنين بأن وعدهم بإعطائهم نصيبهم من النفط الليبي بواقع خمسة آلاف دولار دينار شهريا لكل أسرة، بعد الارتفاع القياسي لأسعار الطاقة في الأسواق العالمية.
وبدا أنه ينحُـو باللاّئمة على اللِّـجان الشعبية التي أنفقت 37 مليار دولار في السنوات الأخيرة، وكأنه ليس هو مَـن اختار تلك الحكومات. والثابت، أن تلك المغازلة كانت موجّـهة لمناكفة الأمريكيين لا أكثر، وإلا فلماذا لم ينتبِـه لمعاناة مواطنيه في الفترة السابقة، على رغم تدهور ظروف عيشهم؟ ولماذا لم يتجشم إعلامهم بما كان مُقبلا عليه على صعيد تسليم أسلحته غير التقليدية للولايات المتحدة والتطبيع مع الغرب، أو حتى إشعارهم بذلك مجرد إشعار؟
وسرعان ما انتهت الحركة الالتفافية في اليوم الأخير من دورة “مؤتمر الشعب العام”، إذ قرّر البرلمان الإبقاء على حكومة المحمودي بجميع وزاراتها، عدا واحدة فقط ألغيت، هي الشباب والرياضة.
المقرحي دفع الثمن
يمكن القول إن ضابط المخابرات الليبي عبد الباسط المقرحي الذي أدانه قضاة اسكتلنديون في كامب زاست في هولاندا عام 2000 في قضية تفجير طائرة “بان أمريكان”، هو الذي دفع ثمن التباعد الأمريكي – الليبي.
وكان متوقعا نقل المقرحي المحكوم بالسجن المؤبد من سجون اسكتلندا إلى سجون بلده (أي الإفراج عنه عمليا) بموجب اتفاقية قضائية أبرمت بين ليبيا وبريطانيا في مايو الماضي لتبادل السجناء وصيغت على مقاسه. لكن المحكمة العليا في اسكتلندا فاجأت الجميع برفضها كشف وثائق أمريكية كانت ستبرئ المقرحي، وخاصة وثيقة تردد أنها تشكك في مدى صلابة الأدلة الممسوكة ضده. واعتبر شلقم أن حجب الوثائق يشكل “إجهاضا للعدالة”.
وهذا يعني أن لعبة شد الحبل وإرخائه بين واشنطن وطرابلس ستستمر في الفترة المقبلة، وربما ظهرت فصول مشوقة في مسلسل تسجيل النقاط على رقعة الشطرنج، بعدما قرر الليبيون في ختام اجتماعات مؤتمر الشعب العام ملاحقة المسؤولين على الغارات الأمريكية على بنغازي وطرابلس سنة 1986 التي أمر بها الرئيس الأسبق رونالد ريغن و”ضمان حق الشعب الليبي في التعويض العادل عما لحق به من خسائر بشرية ومادية ترتبت على العقوبات الظالمة التي فرضت على ليبيا بين 1992 و1999″.
ويجوز الإستنتاج في ضوء هذه الخطوة الليبية الجديدة أن مجيء السفير الأمريكي المعين إلى طرابلس سيستغرق مزيدا من الوقت، وكذلك الزيارة التي أعلن سيف الإسلام القذافي منذ السنة الماضية أن الوزيرة رايس تعتزم أداءها لليبيا.
تونس – رشيد خشانة
سرت (ليبيا) (رويترز) – قال وزير الخارجية الليبي، إن بلاده تسعى للتوقيع على اتفاق تعاون مع الاتحاد الأوروبي هذا العام ولإقامة صِـلات اقتصادية قوية مع واشنطن.
وأضاف الوزير الليبي عبد الرحمن شلقم في تصريحات أمام البرلمان أنه سيسافر إلى بريطانيا الأسبوع المقبل للتوقيع على اتفاق لتبادل السجناء مع رئيس الوزراء غوردون براون.
وأدّت شهور من المحادثات بين بريطانيا وليبيا بشأن اتفاق للتعاون في المجال القضائي، بما في ذلك تبادل السجناء، إلى تصاعد استنتاجات نفَـتها لندن بأن بريطانيا تعتزم تسليم عبد الباسط المقرحي، الذي أدين بتفجير طائرة أمريكية فوق قرية لوكربي.
ويقضي المقرحي، وهو ضابط سابق في المخابرات الليبية، عقوبة السجن المؤبّـد في اسكتلندا بسبب تفجير طائرة في عام 1998، ممّـا أسفر عن مقتل 270 شخصا.
وأشار شلقم إلى أن الزيارة التي أجراها الزعيم الليبي معمر القذافي إلى البرتغال وفرنسا وإسبانيا العام الماضي، أدّت إلى مسعى جديد في تعميق العلاقات مع أوروبا، التي تستورد معظم نفط ليبيا، وأضاف في تصريح للبرلمان، أن ليبيا بدأت اتفاقية شراكة شاملة مع الاتحاد الأوروبي.
وقال، إنه كانت هناك ثلاث جولات من المحادثات وأن الجانب الليبي سيستأنفها بغرض الوصول لاتفاق تفصيلي للتعاون قبل نهاية العام، وهذا مهم للغاية.
واقترحت المفوضية الأوروبية الشهر الماضي بدء محادثات من أجل إقامة علاقات اقتصادية وسياسية أوثق مع ليبيا هذا العام في إطار مسعى أوروبا لتعزيز العلاقات مع كبار الجهات المصدّرة للطاقة.
وتعطّـلت العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وليبيا على مدى سنوات، بسبب اتهامات بأن الحكومة الليبية تدعم الإرهاب، ولكن بروكسل أعلنت في يوليو الماضي بأنها ستُـعزز العلاقات بعدما أطلقت طرابلس سراح ممرّضات بلغاريات اتُّـهمن بتعمّـد، إصابة أطفال ليبيين بفيروس الايدز.
وفي الاتفاق الذي أبرِم لتأمين الإفراج عن الممرضات، قدم الاتحاد الأوروبي اقتراحا خاصا بالسماح لليبيا بالوصول لمزيد من الأسواق في مجال صيد السمك والمنتجات الزراعية والتعاون في قضايا الهجرة ومجال السياحة.
وقال شلقم، إنه كانت هناك مشاكل قضائية مع الولايات المتحدة وأن طرابلس تعارض السياسة الأمريكية فيما يتعلق بالعراق وفلسطين وسوريا.
وأضاف أن ليبيا انتقلت من سياسة المواجهة إلى سياسة الحوار، وأشار إلى أنه من أجل إدراك التطور الذي حدث على مدى عشرين عاما من العقوبات، فإنه تعيّـن أن تكون العلاقات الاقتصادية والثقافية مع الولايات المتحدة قوية.
وفي مايو 2006، قالت الإدارة الأمريكية إنها ستعيد العلاقات الدبلوماسية مع طرابلس، مكافأة لها على التخلي عن برنامج لتطوير أسلحة للدمار الشامل.
وقال شلقم إنه سيسافر إلى بريطانيا من أجل التوقيع على اتفاق لتبادل السجناء مع براون.
ووقّـعت مذكرة للتفاهم في مايو 2007 خلال زيارة لليبيا قام بها رئيس الوزراء البريطاني آنذاك طوني بلير.
(المصدر: وكالة رويترز بتاريخ 4 مارس 2008)
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.