“لـنـدع الـثـقـافـات تـتـعـانـق”
بهذه الجملة افتتح الدكتور عصام الملاح مساء 20 نوفمبر حفل مشروع مؤسسة بروهيلفيتسيا الموسيقي بين سويسرا ومصر 2006 في أول حفلاته قبل انطلاقه ليطوف بعض المدن السويسرية والألمانية ثم يختتم رسميا في القاهرة والإسكندرية منتصف الشهر المقبل.
وزاد من جمال الأمسية مشاركة إثنين من عباقرة الموسيقى العربية؛ هما المصريان عطية شرارة المؤلف الموسيقي المعروف، وعازف الكمان المبدع عبده داغر.
تحولت قرية بوسفيل الهادثة في شمال شرق سويسرا خلال 6 أشهر كاملة خلت، إلى ورشة ثقافية فريدة من نوعها، وضع فيها 7 مؤلفين موسيقيين و9 عازفين من سويسرا ومصر، جميع أدواتهم وإمكانياتهم على طاولة واحدة، وبدأوا في التعرف عليها عن قرب، لتبادل أفكارهم وخبراتهم حولها، في مقابلة إنسانية فنية ثقافية متكاملة الأطراف، قلما تجتمع تحت سقف واحد.
قد يعتقد البعض أن هذا الخليط متنافر؛ فهو يجمع بين أكاديميين موسيقيين من ثقافتين مختلفتين، وعازفين يتعاملون مع آلاتهم بالفطرة، وأخرين لا يحركون أصابعهم فوقها إلا في حضور نوتة موسيقية وقائد أوركسترا، لكن هذا المشروع أثبت العكس؛ فالأكاديميون وجدوا في لغة العلم وسيلة للحوار والتفاهم، حتى وإن كان في جعبة كل طرف ما هو جديد على الآخر، فهنا مقامات موسيقية شرقية ليست موجودة في الغرب، وهناك قوالب تلحين أوروبية تجريبية لم تصل بعد إلى الشرق، فيتكامل الإثنان ليستفيد كل واحد منهما.
وتقول سابينا شفارتسنباخ، منسقة البرامج لدى مؤسسة بروهلفيتسيا لسويس انفو “لقد اخترنا عنوان الصبر جميل لهذا المشروع، لأن التعاون بين الموسيقيين تطلب حقا صبرا من الطرفين، وكان جميلا أن تتسع الصدور للأفكار الجديدة والملاحظات الموضوعية، فلم نجد انسب من عنوان “الصبر جميل” له، وامعانا في إعجاب الموسيقيين بهذا الشعار، قدم أحد المؤلفين معزوفة بعنوان “جميل الصبر” للدلالة على ان الشرق والغرب يلتقيان عند نقطة التفاهم، سواء قرأتها من اليمين إلى اليسار أو العكس، فستصل إلى النتيجة نفسها”.
أما الدكتور عصام الملاح أستاذ علم موسيقى الشعوب في جامعة ميونيخ الألمانية ومدير المشروع فيقول لسويس انفو، “إن هذه التجربة جديرة بالتأمل لأنها جمعت بين عناصر مختلفة، استفاد منها جميع المشاركين فيها، وحققت أكثر من هدف في آن واحد، فالإحتكاك المباشر بين الموسيقيين سواء في القاهرة أو في سويسرا، تطرق إلى مجالات هامة مثل العادات والتقاليد وفلسفة الحياة والتعامل معها”، ويرى الملاح أن الفنون عامة “هي أفضل الطرق لفهم المجتمعات التي نشأت فيها بعمق”.
ثقافة عربية ثرية غير مستغلة
تظهر هذه فائدة هذا المشروع في الأعمال الموسيقية التي قدمها العازفون في أمسية بوسفيل، إذ يقول المؤلف الموسيقي المصري الشاب محمد سعد باشا لسويس انفو، إن تجربته في تلك القرية الهادئة كانت ثرية، فهو كغيره من الموسيقيين المصريين يعرف عن الموسيقى الغربية أكثر مما يعرفه الأوروبيون عن موسيقانا الشرقية، ولذا فإنه من الضروري أن تعمل مثل تلك المشروعات على توصيل ثقافتنا العربية إليهم عبر الموسيقى.
ويؤكد الموسيقار المصري المشهور عطية شرارة هذا الرأي، ويقول لسويس انفو، “إن الموسيقى لغة عالمية تفهمها كل الشعوب، سواء كانت مكتوبة أو مسموعة، وهي لغة الإحساس والمشاعر والثقافة أيضا، والعالم اليوم بحاجة إلى لغة التفاهم وليس المواجهة، والثقافة لها فعل السحر في التقارب بين الشعوب، وهذا أمر معروف منذ قديم الأزل”.
كما يتفق عازف الكمان والمؤلف الموسيقى عبده داغر مع هذا الرأي، وقال لسويس انفو، “ثقافتنا العربية بشكل عام ثرية أكثر مما يتوقع الكثيرون، وأنا ألقي باللوم على الأجهزة الحكومية الرسمية التي لم تحسن إلى الآن التعامل مع تلك الثروة بالشكل المناسب، وتتركها للصدفة البحتة”، ويستند في ذلك إلى شهرة العديد من الموسيقيين العرب في الغرب في حين أنهم لا يحصلون على الفرصة المناسبة في بلادهم لتأدية دورهم الثقافي في المجتمع.
“الصبر جميل” و”جميل الصبر” عمليا
لمس جميع المشاركين في المشروع هذا العنوان بشكل عملي وتطبيقي، إذ تقول عازفة الكمان السويسرية آنا شبينا “عندما ذهبت إلى القاهرة والتقيت للمرة الأولى بالاستاذ عبده داغر، لم أكن أدري كيف اتحدث إليه ولكنني أمسكت بالكمان، ثم عزفت عليها بعض المقطوعات، ورد على داغر بموسيقاه، لم افهم تركيبتها جيدا، وبدون كلمات شرح لي بالنغمات تفاصيلها، بصبر وتأن، ولم تمض ساعة إلا ونحن متفاهمان، هو يرتجل في العزف، وانا أنصت إليه ثم أحاول تجربة نفس التركيبة الموسيقية بأسلوبي وطريقتي، فكان صبرا جميلا حقا اشتركنا فيه سويا وتقاسمنا ثمرته معا”.
ونفس الشعور أحس به عازف الناي أحمد أرنب عندما قابل عازفة الكلارينيت ريغولا شنايدر للمرة الأولى، ويقول ” أعرف بالطبع تلك الآلة من قبل، ولكنني كنت مشدودا للتعرف على كيفية تعامل تلك السيدة معها، واسلوب عزفها والتنقل بين السلالم الموسيقية وكنت اراقبها وهي تستمع إلى عزفي الإرتجالي في التقاسيم، وعندما تحاول تكرار ما قمت به، كنت أشعر أنها تريد توجيهي إلى بعض الأشياء، استوعبتها دون كلمات، فكان جميلا أن نصبر سويا طيلة هذا الوقت لأننا ندرك أننا نتعلم ونستفيد”.
“هزار في حوار”
ومن فقرات الأمسية الجميلة هذا العزف الثنائي بين عازف الربابة فكري القناوي وعازف التشيللو فالتر غريمر فقد جلسا متقابلين وكأنهما يتحاوران ولكن بالآلات والأنغام، جملة موسيقية من هنا ترد عليها تركيبة نغمات من هناك، وكل طرف يقدم للآخر امكانياته في العزف والأداء لإبراز كيفية التعامل مع النغمات الصادرة من كل آلة، والعازفان يبتسمان تارة، ثم تعلو قسمات وجهيهما فجأة علامات الجد والترقب تارة أخرى، فيغرقان في التفكير في بحر الأنغام ليجدا نفسيهما في النهاية يعزفان جملا لحنية إما متكاملة أو متوافقة.
ويقول العالم الموسيقي الفريد تسيمرلي صاحب فكرة هذا الحوار بين الآلتين، أنه وضع قالبا واحدا للمعزوفة، وترك مساحة حرة لكل عازف للتحرك فيها، وكان الهدف هو مقارنة إمكانيات كل آلة في عمل ثنائي، لم يكن تنافسا أو مواجهة، بل كانت استكمال كل طرف للآخر، لأن المساحة الصوتية لكل منهما مختلفة، ولكنهما نجحا في التوصل إلى خط واحد، والنتيجة النهائية هي قواسم كثيرة مشتركة مع خصوصية لكل آلة على حدى.
أما عازف الربابة فكري القناوي فيقول عن تلك التجربة بعاميته الصعيدية “كانت زي جلسة على الأهوة، سمعته وفهمته عاوز ايه، ورديت عليه، ولما جاوبني حسيت انه فاهمني، ساعات كان بيحاول ما يفهمنيش ومكنتش باسيبه إلا لما يفهم ايه اللي انا عاوزه، والحكاية كلها كانت هزار في حوار”
بينما يصف عازف التشيللو هذه التجربة بأنها سابقة في حياته، ويقول ” لم أكن أعرف هل سيفهم فكري القناوي الهدف من هذا العمل؟، فأنا أدرك أنه تعلم الموسيقى بالفطرة، وزاولها بين العامة والبسطاء في المناسبات الشعبية والدينية، بينما أنا اتعامل معها بالورقة والقلم، ثم نظرت إلى تلك الآلة ذات الوترين الوحيدين وتشككت في أن تتمكن من مجابهة التشيللو، ولكنني قلت لن أخسر شيئا ولنجرب ولأن عنوان المشروع يحث على الصبر فلأطبقه، وكانت تجربة لا أندم عليها أبدا، لأنني تعلمت أن تلك الفطرة قادرة على اكتساب الجديد والتأقلم منه، وأن العلم مهما وصل لابد وأن يكتشف الجديد دائما”.
المشروع كان من الناحية الأكاديمة والموسيقية الفنية ناجحا، حسب رأي النقاد الذين حضروا الحفل، وستقوم بروهيلفيتسيا بطباعة هذا العمل على اسطوانات مدمجة مع كتاب يشرح خطواته وأهدافه، ويؤكد المشتركون فيه أن تلك التجربة الثرية والنجاح الذي حققته هو دافع لتكرارها على صعد مختلفة وربما في مجالات ثقافية أخرى مثل الرسم أو التصوير والأدب أيضا، فمن يبحث عن فهم الآخر عليه أن يبحث عن ثقافته للتعرف عليه عن قرب، وأن يتحلى بالصبر، لأن النتيجة في النهاية جميلة.
سويس انفو – تامر أبوالعينين – بوسفيل
هو مشروع مؤسسة الثقافة السويسرية بروهيلفيتسيا للتعاون الموسيقي مع مصر لعام 2006.
استمر المشروع عام كامل وركز على الجمع بين 7 موسيقيين و9 عازفين من البلدين، حاولوا تبادل الخبرات في التأليف والعزف، بدأ نصفه الأول في القاهرة في نوفمبر 2005، والثاني في قرية بوسفيل شمال شرق سويسرا.
شاركت في المشروع أسماء لامعة في الموسيقى العربية مثل عطية شرارة وعبده داغر من مصر، ومن سويسرا الفريد تسيمرلين وباول غيغر.
أسفر المشروع عن إنتاج 12 عملا موسيقيا 7 منها للموسيقيين المصريين.
تزور حفلات “الصبر جميل” كلا من زيورخ وبازل ولوتسرن، وحفل آخر في روتبورغ الألمانية في الفترة ما بين 20 و 28 نوفمبر الجاري، ثم يختتم جولته في القاهرة والإسكندرية بين 11 و 14 ديسمبر المقبل.
إلى جانب المؤسسة الثقافية السويسرية بروهيلفيتسيا، ساهمت جهات مختلفة في تمويله، من بينها رئاسة مدينة زيورخ وكانتون آرغاو.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.