لماذا تفاوض أمريكا من يقاتلونها في العراق؟
ربما كان مثل هذا السؤال افتراضيا قبل عام، وهو بالتأكيد كان خياليا في فورة الغزو الأمريكي للعراق قبل عامين من الآن.
فما الذي يجعله الآن حاضرا هذه الأيام وبمثل هذه القوة؟
أثارت تصريحات وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد يوم 14 يونيو في برنامج “أخبار المساء” Newsnight بهيئة الإذاعة البريطانية (التي اعترف فيها للمرة الأولى بوجود اتصالات مع المسلحين في العراق) موجة من التساؤلات والتكهنات في هذا الصدد.
كما كشفت تلك التصريحات – ومن قبلها تصريحات وزيرة الخارجية غوندوليزا رايس في زيارتها للعراق بشأن الحل السياسي – وليس العسكري حسب – للقضية العراقية وتصريحات وزير الكهرباء العراقي السابق أيهم السامرائي عن إجرائه مفاوضات – بعلم الإدارة الأمريكية بالطبع – مع قادة اثنين من أبرز التيارات المسلحة في العراق – كشفت كلها حقائق يمكن إجمالها في السطور التالية.
في مقدمة ما كشفت عنه تلك التصريحات والاتصالات، حجم المأزق الذي تواجهه الولايات المتحدة ومشروعها في العراق. فهي ببحثها عن وسائل للحل، تخفي عمق مأزقها وازدياد تورطها في الوحل العراقي بعد أن كانت ترفض الحديث عن مثل هذه الاتصالات، بل وترفض إجراءها ابتداء.
كما كشفت تلك الاتصالات – التي تتحدث بعض المصادر عن بلوغها مراحل متقدمة – عن أن الجهات التي تقاتل أمريكا ومشروعها في العراق، ليست فلولا متناثرة من البعثيين وما يُـصر المسؤولون الجدد في العراق على تسميتهم بأزلام صدام، ولا هم مجرد إرهابيون أجانب جاؤوا إلى العراق لمقاتلة الولايات المتحدة بدعوى كونها صليبية وحاقدة على العرب والمسلمين.
لقد تبين بعد كل المغالطات من جانب المسؤولين الأمريكيين وحلفائهم العراقيين أن جزءا مهما مما يواجهونه في العراق مقاومة مسلحة حقيقية لشعب يرفض الاحتلال والمشاريع الطائفية والفوضوية والعرقية التي جاءت تحت جناحه، مما يعني أن أي حديث عن قُـرب نهاية لتلك العمليات لم يعد واردا أمريكيا، برغم كل تلك العمليات التي تشنّـها القوات الأمريكية وحليفتها العراقية وميليشيات الأحزاب الحاكمة حاليا هنا وهناك في أنحاء العراق.
كما تتضمن تلك المواقف المُـعلن عنها حديثا – وبعضها يمتَـد لعدة أشهر – أنه لا مناص من التحاور مع القيادات البعثية باعتبارها الرقم الذي لا يمكن شطبه أو تجاهله في معادلة الحل بالعراق إذا أراد المعنيون – أو المتورطون – الوصول إلى حل فعلا.
غير أن القضية الأكثر أهمية في تقدير كثير من المراقبين تكشف عن اليقين الأمريكي بالحجم المحدود وعدم قدرة أولئك الذين يتصدّرون المشهد في العراق اليوم.
فالإدارة الأمريكية، على ما يبدو، لم تعد تثق بقُـدرة هؤلاء – وهم إسلاميون سنّـة وشيعة وعلمانيون وشوفينيون انفصاليون، أكراد وليبراليون – على ضبط مسارات الأمور في العراق الذي تتحدث كثير من التقارير الاستخبارية عن احتمالات قيام حرب أهلية فيه وتعرضه إلى مخاطر جدية تُـهدد وِحدته الوطنية من جهة، وعن تغلغل إيران فيه إلى الحد الذي يُـمكن أن يجعل من غزو العراق واحتلاله أمريكيا الهدية الأكبر للنظام الإيراني الذي يبقى – أمريكيا – في موضع الريبة والشك، حتى لو خرج من محور الشر الأمريكي الثلاثي المعروف.
ويمكن قراءة هذا بالضبط في الصورة التي بدا عليها رئيس الوزراء الانتقالي إبراهيم الجعفري وهو يتحدث عن هذه الاتصالات. فقد بدا مُـصابا بخيبة أمل ومُـحبطا إلى حد كبير، شأن آخرين من الساسة الباقين في المشهد العراقي اليوم، مما يفصح عن الوضع المتردي لأعضاء الحكومة العراقية الانتقالية وهم يسمعون أنباء الاتصالات التي يبدو أنهم بوغتوا بها على نحو أو آخر.
أين وصلت الاتصالات؟
إن بعض تلكم الاتصالات بين المسؤولين الأمريكيين والجهات العراقية يمتد لعدة أشهر، وهو ما يعني أن مراحل عديدة قطعت على هذا الطريق، فيما البعض الآخر من المفاوضات ما يزال حديث عهد.
وطبقا لما هو متيسّـر من معلومات، فإن هناك الآن اتصالات جدية تتّـسم بقدر من النُّـضج، وتحظى بقدر من التقدم، وهي الاتصالات بين قوى إسلامية ووطنية بقيادة مفاوضين من حزب البعث، وأخرى بين جهات قومية وإسلامية خارج إطار حزب البعث.
وتكشف المعلومات المتيّـسرة عن لقاء جرى في العاصمة الأردنية عمان بين 21 شخصية يمثلون أطياف المقاومة الوطنية العراقية وواجهات سياسية من جهة، وممثل الأمين العام للأمم المتحدة الأخضر الإبراهيمي من جهة ثانية، للفترة من 13 إلى 18 يناير الماضي، حيث وضع الإبراهيمي في تلك اللقاءات السرية كل خبرته السياسية وتجربته الطويلة في الأمم المتحدة للخروج بالعراق من أزمته الراهنة، التي تنذر بانحدار البلاد إلى منزلقات بالغة الخطورة، ليس على العراق ومحيطه العربي فحسب، بل وعلى الأمن في المنطقة كلها أيضا.
وتشير المعلومات إلى أن السيد الإبراهيمي الذي واصل اتصالاته بمن إلتقاهم في عمان طيلة الأشهر الفائتة سيصل قريبا إلى بغداد على أن يسبقه السفير الأمريكي الجديد زلماي خليل زادة لمتابعة تنفيذ بنود الاتفاق الذي يبدوو أنهم توصلوا إليه مع الإطراف العراقية.
تفاصيل الاتفاقات
تقول مصادر قريبة من أجواء المفاوضات إن من بين أهم البنود التي تم الاتفاق عليها في تلك اللقاءات، إجراء انتخابات حقيقية في العراق على أساس اعتبار البلاد 18 دائرة انتخابية، لكل محافظة دائرة واحدة مستقلة، وليس دائرة واحدة كما حصل في الانتخابات الماضية، وجدولة انسحاب القوات الأمريكية ابتداء بانسحابها من المدن إلى قواعد محددة العدد والمكان، وإعادة الجيش العراقي السابق ومنتسبي القوى الأمنية ممن لم يثبت تورطهم في جرائم ضد العراقيين، وإحالة الفائضين منهم على التقاعد وفق رواتب مجزية، وإلغاء قانون اجتثاث البعث وإعادة البعثيين إلى وظائفهم، وإجازة حزب البعث العربي الاشتراكي للعمل السياسي، وإلغاء الميليشيات المسلحة وتسليم أسلحتها تزامنا مع تسليم الفصائل المقاومة أسلحتها والالتزام بالقوانين الجديدة التي سيقرها الدستور العراقي الجديد، بعد أن ينال موافقة الشعب العراقي.
فرص النجاح والفشل
في كل عمل سياسي بهذه الضخامة، لابد من الإشارة إلى احتمالات النجاح والفشل. فالقضية العراقية ليست قضية محدودة الأبعاد والتفاصيل، بل هي متشعبة ومتداخلة إلى الحد الذي يمكن لكثير من العوامل – داخليا وخارجيا – التأثير عليها وحرف مساراتها إلى اتجاهات أخرى.
ومن بين أهم عوامل الفشل المتوقعة هو مساعي الساسة العراقيين الحاليين لإحباط التوصل إلى اتفاق، وخاصة مع العناصر البعثية التي ما تزال على ولائها لقيادة الرئيس صدام حسين، إذ يتوقع أن تحبط هذه الجهات أي مسعى في هذا الصدد، لأنها تعرف جيدا أن نجاح مثل هذه المساعي سيُـطيح بها وبما حاولت تأسيسه في العامين المنصرمين.
كما يتوقع أن تعصف رياح أبي مصعب الزرقاوي بأي اتفاق، ذلك أن برنامج الزرقاوي يختلف كثيرا عن برنامج القوى العراقية المقاومة.
كما تقف من بين عوامل الفشل، إصرار بعض الجهات في الإدارة الأمريكية، وخاصة تلك التي قادت العدوان على العراق واحتلاله على المُـضي حتى نهاية الشوط في العراق برغم كل الأصوات المنادية بضرورة الشروع بانسحاب منه، وبرغم كل مظاهر الفشل والإخفاق الأمريكي وآلاف القتلى والجرحى.
ومن بين عوامل النجاح، ضمان خروج (مشرِّف) للقوات الأمريكية، بمعنى خروجها بأقل الخسائر، لأن خروجها بطريقة أخرى غير ممكن، وهذا يعني السماح بجدولة زمنية، وليس خروجا مباشرا وفوريا، كما تصر بعض الجهات.
غير أن العامل الحاسم في نجاح أي اتفاق أو فشله، هو ضمان أن يجد كل العراقيين حقوقهم بعيدا عن سياسات التهميش والاجتثاث والإقصاء، وضمان أن تكفل المرحلة القادمة حقوق الجميع دون محاصصة أو تشرذم، ودون حديث عن برامج فئوية وطائفية وعرقية لا تخدم العراق أو العراقيين.
فهل سيسمح كل من له تأثير في الشؤون العراقية اليوم بذلك؟ هذا هو السؤال الذي يمكن أن تُـبنى عليه أشياء كثيرة في المقدمة منها سمات المرحلة العراقية القادمة.
مصطفى كامل – بغداد
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.