ليبيا: تطبيع شامل وتخلص “طوعي”
لم تتغيّـر أمور كثيرة في شوارع طرابلس وبنغازي وسبها بين بداية عام 2004 ونهايته. الحُـفر مازالت في مكانها، ونصف فوانيس الإنارة العمومية مُـعطب.
خشب الأبواب الباهت لم يُـجدَّد طلاؤه، والزبالة المكدّسة على أرصفة الشوارع الخلفية، محافظة تقريبا على الحجم الذي كانت عليه في العام الماضي.
تجدّدت أشياء كثيرة في خيمة العقيد القذافي التي يقود منها البلد. فالزوار باتوا مختلفين، والأجندة تغيرت تغييرا بحجم المسافة التي قطعتها ليبيا من هامش المجتمع الدولي إلى مسرح الاجتماعات والندوات الوزارية الإقليمية والدولية، التي كانت مغيّـبة منها.
ومن هذه الزاوية، شكّـلت زيارات الرئيس الفرنسي جاك شيراك، ورئيس الوزراء البريطاني طوني بلير، والمستشار الألماني غرهارد شرودر، ورئيس الوزراء الإيطالي برلوسكوني في أوقات مختلفة من السنة الجارية، إضافة إلى مساعد وزير الخارجية الأمريكي وليام بيرنز، علامات على الاستدارة التي انعطفت نحوها علاقات ليبيا مع من كانت تعتبرهم “إمبرياليين” و”أعداء الأمة العربية”.
لم يبق واحد من أعداء الأمس لم يتصالح معه القذافي، ولم يستقبله بحفاوة حارة في خيمته. فحتى الإسرائيليون يمنّون النفس برؤية نائب رئيس برلمانهم (الكنيست)، موشي كهلون قريبا في طرابلس على رأس وفد من اليهود المنحدرين من ليبيا.
صفحة جديدة مع فرنسا
ويمكن القول إن زيارة شيراك إلى ليبيا في شهر نوفمبر الماضي، التي توّجت زيارات نُـظرائه الغربيين الآخرين، كانت حبلى بالدلالات على الصعيدين، الثنائي والإقليمي. فقد أتت ثمرة للاتفاق الذي قبلت ليبيا بموجبه دفع تعويضات قيمتها 170 مليون دولار لضحايا تفجير طائرة “يوتا” فوق صحراء النيجر عام 1989، ورفعت بذلك آخر عقبة أمام فتح صفحة جديدة من العلاقات مع باريس.
وكان لافتا أن الرئيس الفرنسي، الذي امتنع عن مخاطبة القذافي في مثل هذا الوقت من العام الماضي، عندما جمعتهما قمة 5+5 في تونس، أظهر حماسة بالغة لبناء علاقات مستقبلية مع ليبيا في أعقاب اجتماعه مع القذافي في طرابلس، والتي كان أول رئيس فرنسي يزورها منذ 1951.
ويمكن اعتبار التفاهم الفرنسي – الليبي في إفريقيا، أبرز عناوين التوافق في المرحلة المقبلة بعد عقدين من الاحتكاكات، والتي وصلت إلى حدّ الصدام العسكري في تشاد.
وعلى الصعيد الإقليمي أيضا، كرّست الزيارة استكمال حلقات التطبيع مع البلدان الغربية الرئيسية، تمهيدا لأخذ ليبيا مكانها في الأطُـر الإقليمية، بدءا بالشراكة الأورو – متوسطية، وانتهاءً بالتنسيق الأمني في غرب المتوسط، المعروف بحوار 4+3 والذي مازالت طرابلس مُـستبعَـدة منه.
وكانت استضافتها اجتماعا لوزراء خارجية 5+5 في وقت سابق من العام الجاري، إشارة لتلك الرغبة في إدماجها ضمن المسارات الجديدة على اختلاف أنواعها وغاياتها.
ويتفق المراقبون على القول إن زيارتَـيْ كلٌٍ من المستشار الألماني شرودر والرئيس الفرنسي شيراك لعبتا دورا مهمّـا في تسريع خطوات ضمّ ليبيا إلى المسار المتوسطي، تمهيدا للاجتماع الذي تعتزم إسبانيا استضافته في الخريف المقبل في الذكرى العاشرة لمؤتمر برشلونة.
وأكّـد القذافي في تصريحات أدلى بها أثناء زيارة شيراك إلى بلده، أن “فرنسا تلعب دورا رئيسيا في الإتحاد الأوروبي… والتفاهم بيننا يؤدّي إلى ترتيب العلاقات بين بلدينا، وكذلك مع الإتحاد”.
لذا، بدا واضحا أن ليبيا تأمل بأن تُـسفر الاتصالات التي أجرتها مع الإتحاد الأوروبي طيلة عام 2004 عن إدماجها رسميا في مسار برشلونة، خصوصا بعدما حضر وفد ليبي الاجتماع الأخير بين وزراء خارجية الإتحاد الأوروبي والبلدان المتوسطية في لاهاي بصفة مراقب، وأكّـد الليبيون في تلك المناسبة أنهم واثقون من أنهم سيُـمنحون مقعدا كاملا في اللقاءات المقبلة.
وكانت ليبيا أعلنت مقاطعتها مؤتمر برشلونة الأورو – متوسطي في عام 1995، بعدما عارض الأوروبيون مشاركتها في أعمالها، لأنها كانت خاضعة لعقوبات دولية.
وفي هذا السياق، من المتوقّـع أن يتم حل مشكلة الأطباء البلغار المسجونين في ليبيا في عام 2005، بعدما تمّـت تسوية ملف تفجير ملهى “لابيل” في برلين، والذي يشتبه الألمان بضلوع عناصر ليبية فيه. وكانت محكمة ليبية قرّرت في وقت سابق من العام الجاري سجن ستة أطباء بلغار وطبيب فلسطيني، بعدما أدانتهم بالتسبب في إصابة عشرات الأطفال الليبيين بمرض الإيدز في مستشفى بنغازي.
تغيير الطاقم الحاكم
والملاحظ، أن التغييرات الجوهرية التي ظهرت على صفحة السياسة الخارجية الليبية، تزامنت مع تعديلات أدخلها القذافي على المساعدين المحيطين به، إذ غيّـر الماسكين بالملفات الإفريقية في طاقمه الحكومي على خلفية تغيير سياسته الإفريقية، التي انتقلت من دعم الحركات المسلحة إلى التفاهم مع الحكام، ومن المجابهة مع فرنسا والولايات المتحدة إلى التنسيق الواسع معهما.
ومن أهم المؤشرات إلى التغيير في الطاقم الليبي، إبعاد وزير الشؤون الإفريقية السابق، الدكتور علي التريكي الذي تعتبره عواصم غربية عدة مناوئا لها، فيما لوحظ أن العلاقات باتت سالكة مع وزير الخارجية عبد الرحمن شلغم، الذي صارت زياراته للندن وباريس مألوفة، بعدما عاود تنشيط العلاقات معهما.
في المقابل، كان عزل التريكي في مثابة رسالة إلى العواصم الغربية، خصوصا أنه أتى بعد نحو عام من وفاة رئيس جهاز الاستخبارات السابق، إبراهيم بشاري الذي كان من مستشاري القذافي البارزين في الشؤون الإفريقية، ومديرا لمكتبه خلال المرحلة السابقة، والذي كان يؤلّـف مع التريكي مركزا ذا ثقل في القرار.
وشكل استقبال سيف الإسلام معمر القذافي في قصر الإيليزيه، وكذلك زيارة الوزير شلغم الناجحة إلى باريس، دليلا على أن الرسالة الليبية وصلت. والأرجح، أن الرسالة المماثلة التي وجّـهتها ليبيا إلى واشنطن وصلت أيضا، وكان مضمونها من أهم القضايا التي بحثها مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط وليام بيرنز مع القيادة الليبية في زيارته إلى طرابلس.
وعلى هذا الأساس، يُـرجح أن هناك توافقا مع كل من باريس وواشنطن على السماح بدور ليبي نافذ، إلى حد ما في القارة من ضمن الخطوط العامة المتفق عليها في إطار التغيير الشامل الذي أبصرته السياسة الليبية إزاء الغرب بعد الإطاحة بالرئيس العراقي السابق صدام حسين.
أسلحة الدمار الشامل
وما من شك أن أبرز عنوان في هذا الانعطاف الجديد، هو قرار القذافي التخلّـي عن برامج إنتاج أسلحة كيماوية وبيولوجية ونووية، وفتح منشآته أمام مفتشين وخبراء أمريكيين، مما أدى لتسريع التطبيع الأمريكي – الليبي وإلغاء الحظر التجاري، الذي كانت واشنطن تفرضه على طرابلس.
وفي خط مواز، شجع الإتحاد الأوروبي أيضا على تحقيق نُـقلة في العلاقات مع ليبيا. فنتيجة لإقدامها على تلك الخطوات التي شدّد الليبيون على طابعها “الطوعي”، وافق وزراء خارجية الإتحاد في اجتماع عَـقدوه في لوكسمبورغ في شهر أكتوبر الماضي على رفع جميع العقوبات التي كانت مُـقررة في حق طرابلس.
أكثر من ذلك، انتهزت إيطاليا، التي كانت أبرز مُـحام ترافع عن ليبيا أمام أعضاء الإتحاد، الفرصة للإعلان عن قرب تسليم طرابلس مُـعدات عسكرية متطورة، بعنوان تعزيز قُـدراتها على مراقبة محاولات الهجرة غير المشروعة من سواحلها إلى الجزر الإيطالية الجنوبية، وبخاصة لامبيدوزا.
وعزا الأوروبيون هذه الخطوات إلى الاستعداد الذي أبدته ليبيا لتدمير ما لديها من أسلحة دمار شامل تحت رقابة دولية، وربما كان التقارب بين ليبيا والدولة العبرية، هو بيت القصيد في التغييرات اللافتة التي طرأت على تعاطي الدول الغربية مع القذافي خلال العام الجاري.
فمع تقدُّم التطبيع الأمريكي – الليبي، كانت تلوح من وقت إلى آخر مؤشرات تدلّ على أن أمورا كثيرة تغيّـرت في العلاقات بين طرابلس والدولة العبرية، ومن تلك العلامات، ما أعلنه نجل الزعيم الليبي سيف الإسلام القذافي في مارس الماضي، من استعداد لدفع تعويضات لليهود الذين غادروا ليبيا إلى فلسطين أو أي وجهة أخرى. وسارعت إسرائيل، التي تلقّـفت الفكرة إلى تقديم تقديرها الخاص لعدد اليهود الذين هاجروا من ليبيا، إذ قدرتهم بـ 38 ألف يهودي، قالت إنهم غادروا البلد في عام 1948.
لكن سيف الإسلام، المرشح لخلافة والده على رأس هرم الحكم، حرص في تلك المرحلة على التأكيد بأن لا أحد طلب من بلده دفع التعويضات، وأن تلك الخطوة لا تترتّـب عليها بالضرورة اتصالات أو إقامة علاقات مع إسرائيل، “لأن ذلك غير وارد حاليا”.
ويبدو أن ما لم يكُـن واردا في ذلك الوقت، حان زمنه الآن، إذ أعلن أخيرا نائب رئيس “الكنيست” موشي كهلون أنه تلقّـى دعوة من السلطات الليبية لزيارة طرابلس على رأس وفد من اليهود المنحدرين من ليبيا.
والدا كهلون، العضو في حزب “الليكود” الذي يتزعّـمه شارون، مولودان في ليبيا، ومن غير المستبعد أن يكون هذا الخيط هو رأس الجسر الذي سيقود إلى صفحة جديدة من العلاقات الإسرائيلية – الليبية في عام 2005، ليكون أبرز عنوان في التغييرات السريعة التي تشهدها ليبيا منذ الغزو الأمريكي للعراق.
رشيد خشانة – تونس
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.