مأزق السُـنة العرب في العراق الجديد
بدأت نقاط كثيرة تُـوضع على الحروف في العراق، ليتضح شيئا فشيئا أن هناك مشكلة حادة لا يتردد البعض في إطلاق تسمية "السنة العرب" عليها.
ويرى آخرون أن تلك المشكلة تفسر الكثير مما حدث ويحدث في مرحلة ما بعد الحرب، خاصة فيما يتعلق بالعنف المسلح، ويقولون إنه إذا لم يتم التعامل معها بشكل واقعي، لن يشهد العراق استقرارا حقيقيا.
لقد انقلبت المعادلة التي كانت قائمة في السابق، وبعد أن كان الشيعة في الجنوب والأكراد في الشمال يمثلون مشكلة نظام صدام حسين، أصبح السُـنة في وسط وغرب العراق هم المشكلة في مرحلة ما بعد سقوطه.
فعندما تفجّـر العنف بعد احتلال القوات الأمريكية بغداد في 9 أبريل 2003، كان العنوان العريض لما يجري هو المقاومة التي تستهدف إخراج الاحتلال من البلد. لكن بعد مرور عام ونصف، لم يعد تعبير المقاومة يفسّـر كل ما يحدث على الأرض، إلا في إطار المناقشات الخاصة بشرعية أو عدم شرعية ما يدور.
فالقضية الحقيقية هي أن هناك “معارضة مسلحة” ذات أهداف سياسية لا يتردد عدد من التابعين في نعتها بـ “الإستئصالية”، تنطلق في أغلب الأحيان مما يُوصف في أدبيات أمريكية وغربية بـ “المثلث السُـني” ضد النظام الجديد بكل أطرافه الخارجية والداخلية، لذلك زال معظم الغموض الذي كان يكتنف “ما وراء الأحداث” في العراق.
حقائق وأوهام
إن الذاكرة التاريخية للسُـنة العرب في العراق لم تنس فيما يبدو، حسب تعبيرات بعض ساسة العراق، أن بغداد وما حولها كانت تمثل مركز الحكم في الدولة، وأنه لم تكن لها وظيفة تقريبا سوى أن تحكُـم وتُـرسِـل بالحملات العسكرية جنوبا وشمالا لفرض الاستقرار.
فقد ارتبطت هوية العراق بالسُـنة العرب مثلما ارتبطت هوية لبنان، في فترات سابقة، بالمارونيين. ويبدو أن السُـنة العرب غير قادرين على تصور وضع مختلف أو التكيّـف مع الحالة الجديدة، التي وجدوا أنفسهم فيها وقد تحولوا إلى أقلية لا تتجاوز نسبتهم فيها(حسب بعض المصادر) 20% من إجمالي سكان العراق حاليا.
كما أن الفكرة السائدة تقول إن “حكم السُـنة العرب” قد استمر خلال نظام البعث، وأن الرئيس السابق صدام حسين قد اعتمد على دعمهم وولائهم له في الأساس. فخلال السنوات العشر الأخيرة من حكم النظام، لم يكن يسيطر عمليا إلا على المنطقة الممتدة بين خطي عرض 32 جنوبا و36 شمالا، ذات الأغلبية السُـنية، إلا أن ساسة السُـنة ينفون ذلك ويقولون إنها واحدة من الأفكار غير الدقيقة التي تُـروّج لها قوى عراقية وخارجية مناهضة للسُـنة العرب.
وبالفعل، تبدو المسألة معقدة. فهناك وقائع وتواريخ وأسماء تُـشير إلى أن نظام صدام حسين قد استهدف السُـنة بالإيذاء كما استهدف غيرهم من العراقيين، سواء بالتصفيات الجسدية أو العزل من الخدمة، أو إعدام المئات من الضباط، واعتقال شيوخ العشائر، واستهداف أفرادها، كما حدث ضد عشيرة الجبور، وتم أحيانا فرض إجراءات قاسية ضد بعض المدن السُـنية كالرمادي والفلوجة ذاتها، لكن كل ذلك كان يتم على خلفية اتهام أو تورط هؤلاء أو أبنائهم في محاولات انقلابية ضد صدام حسين. فقد كان نظام صدام عشائريا “تكريتيا” أكثر منه سُـنيا.
لكن الواقع يشير أيضا إلى أن النظام السابق قد اعتمد على أبناء السُـنة في المواقع السياسية المؤثرة والإدارة العليا، ومعظم الدوائر الأمنية (الأمن العام والمخابرات) إضافة إلى الجيش. فقد كانت غالبية قيادات الجيش سُـنية، وكانت الوحدات الرئيسية ذات العلاقة بأمن النظام تتشكّـل كلها تقريبا من السُـنة العرب.
من جهة أخرى، كان صدام يُـدرك قوة العشائر السُـنية، ويحتفظ بعلاقات متينة معها، ولم يكن ذلك، حسب تحليلات بعض قادة الأمن السابقين، تمييزا للسُـنة عن غيرهم، بل لأنه ليست لديهم ولاءات مذهبية أو روحية أو امتدادات عرقية خارج العراق.
تــائــهــون
لقد انقلبت الصورة تماما بعد الغزو الأمريكي – البريطاني للعراق في ربيع عام 2003. فقد بدت الحرب التي أدّت نتائجها إلى سقوط نظام الرئيس العراقي صدام حسين، وكأنها انقلاب سياسي ضخم ضد السُـنة العرب أدّى إلى خروجهم من الحُـكم، تلا ذلك تطورين مهمّـين أديا إلى بلورة مأزق السُـنة العرب بكل أبعاده الحالية:
الأول، هو القرار الرهيب الذي اتخذه حاكم العراق الأمريكي الأول بتسريح الجيش، وحل حزب البعث الحاكم وأجهزة الأمن دون أية تعويضات أو بدائل أو حسابات، ليجد أبناء السُـنة أنفسهم في الشوارع خارج الدولة الجديدة، رغم أن الخُـطط الأولى للأمريكيين كانت تعي هذه المشكلة، وتؤكّـد – على الورق – أن “الاستغناء” سيقتصر على كبار الضباط والموظفين وقادة الحزب ذوي العلاقة فقط بالنظام البعثي، مع الإبقاء على الكتل الرئيسية لمؤسسات الدولة.
الثانى، هو ما بدا من أن السُـنة العرب تائهون في ظل النظام الجديد. فلم تكن لهم تنظيمات سياسية (معارضة) قوية تعبّـر عنهم في ظل النظام الجديد، ولم تكن لدى قياداتهم خبرة سياسية، ولم يكن هناك تعاطف خارجي معهم، كما بدا أن هناك توجّـهات انتقامية ضدهم من فصائل عراقية أخرى، وميل لتجاهلهم من سلطات الاحتلال، وتم تحديد نسبة مشاركة سياسية لهم (في مجلس الحكم مثلا)، بدت وكأنها إهانة لأناس طالما اعتبروا أنفسهم أصحاب العراق الحقيقيين.
إن المثير في الأمر هو أن معظم عشائر السُـنة العرب لم تكن قد وقفت ضد قوات غزو العراق، فلم تجري من الأساس معارك في مناطقهم، إذ تحرك الهجوم الرئيسي من اتجاه الجنوب، بل أن بعض عشائر السُـنة قد رحّـبت بسقوط صدام حسين على طريق “نحر الذبائح”، إلا أن قوات الاحتلال فضّـلت عدم التعامل معهم سياسيا، ربما تحت تأثير تقديرات ومعلومات من تلك النوعية التي سيطرت في تلك الفترة، ولم يمض وقت طويل حتى بدأ الاتجاه نحو الصدام.
حـرب الـمـدن
لقد بدأت المقاومة السُـنية لقوات الاحتلال كما تبدأ أية مقاومة مسلحة. فقد هناك قطاع هائل العدد شديد التذمر والغضب من أبناء العشائر السُـنية الذين فقدوا وظائفهم وكوارد رزقهم، وقد وُوجِـهت احتجاجاتهم الأولى بإطلاق الرصاص في مقتل، في ظل ما بدا أنه اتجاه استئصالي لدى الطرف الآخر تُـجاههم، وأدى التعرض لاستفزازات يومية من جانب قوات الاحتلال، مع تزايد عمليات استهداف المنازل والمساجد ورجال الدين السُـنة إلى تفاقم الموقف.
فبدأت عمليات الانتقام المسلحة في الظهور، واستيقظت مع الوقت عناصر التشكيلات العسكرية وشبه العسكرية لجيش صدام الذي لم يكن قد تكبّـد خسائر بشرية تُـذكر وقت الحرب. وبدا واضحا أن ما يُسمى بالمثلث السُـني بدأ يجتذب كل العناصر العنيفة من “جماعات دينية” عراقية إلى متطوعين عرب، إضافة إلى عناصر تنتمي إلى القاعدة أو قريبة منها، وربما عصابات إجرامية.
بعد ذلك، تحولت المقاومة العنيفة إلى عمل يومي يكاد يكون نمط حياة في المدن السُـنية الرئيسية التي خرجت شيئا فشيئا عن سيطرة قوات الاحتلال والحكومة المؤقتة، لتنشب الحرب التي لم تقع خلال الغزو، وهي “حرب المدن” التي بدأت عناصرها تتحول إلى تشكيلات في الخروج إلى الطرق والأحياء البعيدة في بغداد، لاستهداف القوات الأجنبية والمضادة في كل مكان.
كانت تلك العمليات تبدو في المراحل الأولى كأعمال عنف انتقامية جامحة تقوم بها عناصر مسلحة بلا هدف سياسي محدد يتجاوز عنوانا عاما، هو خروج الاحتلال. لكن في الواقع، كان لديها هدف سهل لا يتطلب تنظيما سياسيا، وهو إفشال عملية بناء النظام الجديد بكل أسسه، كالطائفية والفدرالية، كما أصبحوا ينظرون إلى الآخرين (وهم في الواقع ثلاثة أرباع العراقيين)، وكأنهم مجرد متعاونين مع الاحتلال.
وقد تحوّل هذا الوضع مع مرور الوقت. فقد بدأ رجال الدين في ملء الفراغ السياسي في المناطق ذات الأغلبية السُـنية، فلم تكن الشخصيات السُـنية الخمسة، الممثلين في مجلس الحكم رسميا، تعبّـر عن التجمع السُـني عمليا، كما أن الحزب الإسلامي العراقي (الواجهة السياسية لجماعة الإخوان المسلمين) السُـني لم يكن يشكّـل قوة حقيقية.
حافة الهاوية
كانت “هيئة علماء المسلمين” السنة التي تشكلت بعد مرور وقت قليل على سقوط بغداد هي الأقرب للتوجهات السائدة في المثلث، وكذلك الأقرب إلى توجّـهات رجل الشارع، والأوسع تأثيراً لاعتمادها على شبكة ضخمة من أئمة المساجد والشخصيات الدينية. وقد نجحت الهيئة في تشكيل هيئة مكتب يترأسها الشيخ الدكتور حارث الضاري، وبدأت في التعبير سياسيا عن التوجهات السُـنية، التي لم تتجاوز كثيرا خروج الاحتلال.
وتبعا للشيخ الضاري فإن “المشكلة ليست في مشاركة السُـنة أو عدم مشاركتهم في الحكم، بل المشكلة في الاحتلال. فالاحتلال، إذا بقي موجوداُ، فإنه قد يَـقصى أهل السُـنة اليوم، وغدا يَـقصى غيرهم”، وبدا الأمر وكأنه قتال حتى الموت.
لكن مشكلات حقيقية للسُـنة العرب بدأت في الظهور، ترتبط في الواقع بخيار “العنف بلا هوادة” الذي تم اعتماده من طرف معظم المجموعات المسلحة. فقد بدأت بعض الفصائل المسلحة تستهدف العراقيين (المتعاونين)، بأكثر مما تستهدف قوات الاحتلال، مما سبّـب كثيرا من التذمّـر، حتى بين بعض عشائر الطائفة نفسها.
كما بدأت الطوائف العراقية الأخرى تتقدّم في اتجاه المسار السياسي الذي يُـهدد بتهميش حقيقي للسُـنة، مما أدّى إلى استهداف عناصر سُـنية مُـتطرّفة لبعض عناصر الشيعة والأكراد (والعكس بالعكس)، وهذا ما هدد أحيانا بتفجر مُـشكلة مذهبية، كما أدت الممارسات القاسية لبعض عناصر العنف، كالاختطاف والذبح والفدية إلى تشويه واسع النطاق، يُـضاف إلى ذلك توحّـش قوات الاحتلال والحكومة في مواجهتهم بأسلوب العقاب الجماعي، كما جرى مؤخرا في الفلوجة وغيرها من المناطق.
لكن الأهم هو ما بدا من انفلات التنظيمات العنيفة بدرجة لا تسمح باتخاذ رجال الدين أو ما يمكن تسميته بـ”الجناح السياسي” لأية مواقف مرنة. فقد تم التحالف مع جماعات دينية عنيفة لديها أهداف اكتساحية فرضت سُـطوتها في بعض المناطق، حتى أن الوفد الذي قاد المفاوضات التي سبقت اقتحام مدينة الفلوجة بدا للمراقبين “مقيّـدا بشدة”.
وفي الوقت الذي بدأ رجال الدين السُـنة في الخوض في السياسة عبر تقديم مطالب بشأن جدول انسحاب قوات الاحتلال والعملية الانتخابية ومشاركتهم بنسبة أكبر في الحكم، وبدأت قبائل سُـنية من الاقتراب أكثر من موقف الكتلة الشيعية، بدا أن عددا من الجماعات العنيفة لن تقبل المهادنة، وستستمر في طريقها غير مبالية بشيء ليتّـخذ المأزق السُـني بُـعدا جديدا داخل الطائفة هذه المرة.
وهكذا، تظل القضية الأساسية قائمة، وهي أن السُـنة العرب لا يجدون لهم مكانا بعدُ في عراق ما بعد صدام حسين، ويمثلون مشكلة حادة تتفاقم مع الوقت.
د. محمد عبد السلام – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.