مأزق شعارات الديمقراطية والحريات
بعد مرور عامين على هجمات 16 مايو التي استهدفت الدار البيضاء، كشفت تداعياتها عن مأزق شعارات الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان التي رفعها مغرب محمد السادس.
فقد بدأت تتكشف العديد من حيثيات تلك الحملة وما رافق عمليات التحقيق من تعذيب وانتهاكات لحقوق الإنسان، وهو ما يضع الجميع سلطة ومعارضة وحقوقيين في مأزق..
كشفت تداعيات هجمات 16 مايو التي استهدفت الدار البيضاء عام 2003 عن مأزق شعارات الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان التي وضع مغرب محمد السادس نفسه فيه، ومعه الأحزاب والتيارات اليسارية الديمقراطية التي كان نشطاؤها ضحايا “مغرب الرصاص”، والذين شكلوا الغطاء التنظيري للمغرب الجديد.
فبعد عامين من تلك الهجمات، التي حمّـلت السلطات مسؤوليتها تيار السلفية الجهادية الأصولي المتشدد، وشنّـت ضد أنصاره والناشطين فيه حملة اعتقالات واسعة، وأدانت المحاكمات أكثر من ألف منهم، بدأ الكثير من حيثيات تلك الحملة وما رافق عمليات التحقيق من تعذيب وانتهاكات لحقوق الإنسان، يتكشف ليضع السلطات في مأزق الصورة التي أرادت للآخرين أن يروها بها، واستفحل المأزق بعد أن تعمد نشطاء السلفية الجهادية شن إضراب لا محدود عن الطعام قبيل أيام من حلول الذكرى الثانية للهجمات الأليمة.
ولا زال المضربون عن الطعام مصرين على براءتهم من هجمات 16 مايو 2003 ويذهبون إلى تبرئه كل التيارات الأصولية من هذه المسؤولية التي يلقون بها على عاتق أجهزة أمنية مغربية تريد – حسب زعمهم – أن تحكم قبضتها على المغرب الجديد، وتعزيز علاقات الرباط مع الولايات المتحدة من خلال تقديم المغرب كبلد حليف لواشنطن في حربها على الإرهاب والأصولية الإسلامية، مقابل خدمات أمريكية للمغرب، خاصة في ملف نزاع الصحراء الغربية.
ويستند منظّـرو السلفية الجهادية في اتهامهم للسلطات إلى أن مُـضي عامين على الهجمات، لم يكن كافيا للسلطات للكشف رسميا وقانونيا عن الجهات المخططة للهجمات، أفرادا كانوا أو منظمات، وأن المصادر الرسمية ألقت الاتهامات شمالا ويمينا، شرقا وغربا، وعملت على أن تُـمحورها حول الشخص الأكثر إثارة للولايات المتحدة.
ارتباك الأوساط الأمنية
فبعد أن اتهموا تنظيم القاعدة وزعيمه أسامة بن لادن، ذهبوا بالاتهام نحو أبو مصعب الزرقاوي الذي برز، وقبل أن يعلن مبايعته لبن لادن كرمز لمحاربة القوات الأمريكية بالعراق، بل لم تتردد بعض الأوساط الرسمية إلى اتهام الملا عمر، زعيم حركة طالبان الأفغانية.
كان توجيه السلطات المغربية للاتهامات، إشارة على إرباك حقيقي تعرفه أوساطها الأمنية، انعكس على أرض الواقع ضربا لكل الشعارات المرفوعة حول حقوق الإنسان ودولة الحق والقانون بعرض الحائط.
فقد أكدت كافة التقارير التي أصدرتها المنظمات الحقوقية المغربية والدولية على انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، تعرّض إليها النشطون الأصوليون، المعتقلون على خلفية هجمات الدار البيضاء، وشددت على أن المحاكمات التي قُـدّموا إليها، نظمت على عجل، وأن الأحكام لم تكن عادلة، والانتهاكات تحدّث عنها الملك محمد السادس في حديث أدلى به لصحيفة إسبانية بداية العام الجاري.
كانت سلطات مغرب محمد السادس، تجهد نفسها في تقديم صورة لمغرب مختلف. فمنح المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان صلاحيات أوسع، وأقرت تعويضات مادية لضحايا انتهاكات جسيمة عرفتها البلاد أثناء المواجهات الدموية بين السلطة والمعارضة في عقود ما بعد الاستقلال، والتي عُـرفت بـ “سنوات الرصاص”.
وأمام إلحاح الحركة الحقوقية المغربية، شكلت هيئة الإنصاف والمصالحة، ونُـظر بتقدير وإيجابية لجلسات استماع علنية نقلتها وسائل الإعلام العمومية مباشرة أو مسجلة، نظمتها الهيئة للضحايا كخطوة أخرى من أجل المصالحة وطي صفحة الماضي، والتصالح بين مكوّنات المشهد السياسي المغربي، ومقدمة لمغرب الحق والقانون.
كل تلك الصورة اهتزت. فحقوق الإنسان والحريات منظومة متكاملة، وقراءة صفحة الماضي بهدف طيها وعدم تكرارها، يصبح بلا معنى إذا ما كانت نسخة من نفس الصفحة تستنسخ أثناء القراءة، حتى لو كانت القراءة سليمة وعميقة.
وكما أنه معلوم أن الأزمات محك لترسخ الشعار وفاعليته والإيمان بمضمونه، فقد تبيّـن من تداعيات هجمات 16 مايو أن الطريق لا زال طويلا أمام المغرب ليقنع الآخر بالصورة التي يُـريد أن يرى (بضم الياء) بها.
وتداعيات هجمات الدار البيضاء لم تهز فقط صورة المغرب الجديد، بل أيضا مصداقية ومكانة الأحزاب السياسية والقوى الديمقراطية، والمنظمات الحقوقية المغربية التي كانت هي ونشطاؤها الضحايا الأبرز للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في مواجهات سنوات الرصاص، وكانوا الحاضرين في جلسات الاستماع، وقبل ذلك في المشهد الإعلامي من خلال المذكرات والذكريات والتنظير لحقوق الإنسان ودولة الحق والقانون.
مشاركة ومباركة وصمت…
مغربيا، جل الأحزاب والقوى والمنظمات وجدت نفسها مشاركة أو مباركة أو صامتة تجاه ما تعرّض له نشطاء وأنصار التيارات الأصولية من انتهاكات جسيمة مشابهة لتلك الانتهاكات التي كان يتعرّض إليها أعضاؤها ومؤيدوها في العقود الماضية.
فإضافة لأحزاب اليسار، التي تجد في التيارات الأصولية خصما ومنافسا لها، فإن التيارات الأصولية المعتدلة أو شبه المعلنة، دخلت في خانة الصامتين تجاه الانتهاكات كخيار، بعد أن اشتدت الحملة الإعلامية ضدها.
ويمكن القول أنه لولا الصحافة المستقلة (التي تتولّى دور المعارضة المغربية منذ نهاية التسعينات)، والجمعية المغربية لحقوق الإنسان التي تابعت الملف، لبقيت الانتهاكات التي شهدها مغرب 2003 – 2004 طي الكتمان على غرار الكتمان الذي أحاط بالانتهاكات التي شهدها مغرب 1961 – 1999، مع اختلاف الضحايا من نشطين يساريين إلى نشطين أصوليين، وهو الأمر الذي قد يضطر المغرب الجديد إلى تشكيل هيئات إنصاف ومصالحة لطي الصفحة البائسة الجديدة.
ودوليا، قوبلت الانتهاكات التي تعرّض إليها النشطون الأصوليون المغاربة، بصمت الأطراف (دولا وهيئات)، التي ترفع شعارات حقوق الإنسان والحريات، لأن هذه الأطراف وجدت فيما يتعرض له نشطو المغرب، درسا لنشطين في دول أخرى، خاصة في الدول غير العربية والإسلامية، حتى لو كان ذلك على حساب مبادئ حقوق الإنسان وميثاقه الدولي، وأيضا لأنه يحلو لهذه الأطراف أن تزيد من أوراق الملف الذي تهدد فيه حلفاءها، حين ترى أنهم ينزعون نحو ما يُـزعجها، حتى لو كان الأمر يتعلق بمواقف لا تُـؤذيها.
ما تعرض له الأصوليون المغاربة، في الوقت الذي كانت فيه بلادهم تحقّـق مكاسب حقيقية في ميدان الحريات وحقوق الإنسان، يبقي سؤال هذا الميدان وهذه الحقوق مطروحا لضمان فصل حقيقي ونهائي للحقوقي عن السياسي.
محمود معروف – الرباط
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.