مأزق قوات الأمـن العراقية
على الرغم من وصول أعداد أفراد تشكيلاتها إلى 170 ألف عنصر، وتجهيز وحداتها بمعدات متطورة، تواجه قوات الأمن العراقية مشكلات حادة تحيط بها من كل اتجاه.
فهي لا تزال غير قادرة لأسباب عديدة، على المساهمة بفعالية في التعامل مع “المهمة الرئيسية” في الدولة، وهي استعادة الاستقرار، التي يتأكد مع الوقت أنها تستعصي أصلا على الحل الأمني.
بداية، فإن “قوات الأمن العراقية” تتألف من عدة هيئات تشكّـل في مجملها مؤسسة أمنية كبيرة، هي الشرطة العراقية، وفرق الدفاع المدني، وشرطة الحدود، وخدمة حماية المنشآت، إضافة إلى كليات الشرطة.
وتعمل تلك العناصر في مهام تتعلق بالأمن (والنظام) العام، لكنها تضم عناصر تعمل في مواجهة “العنف المسلّـح”، ككتائب شرطة المغاوير ووحدة الحالات الطارئة، وفرقة “سوات” للأسلحة والتكتيكات الخاصة، ولواء الشرطة المدرع، والقوات الخاصة التابعة لحرس الحدود.
إن القوات العراقية التي تعمل أساسا في مهام التعامل مع “العنف المسلح”، هي الحرس الوطني وقوات العمليات الخاصة، إضافة إلى كتائب الجيش النظامي، لكن في حالة دولة كالعراق، لا يوجد تمييز واضح بين الأمن العام والأمن السياسي (العسكري في تلك الحالة)، وهناك بالفعل غرفة عمليات مشتركة لوزارتي الدفاع والداخلية، كما أن قوات الشرطة، تُـعتبر هدفا رئيسيا لجماعات العنف، مما يجعلها جزء من العملية الأمنية أيا كانت مهامها، خاصة وأن أعداد عناصرها تتجاوز أعداد الجيش النظامي والحرس الوطني التي لم تتجاوز بكثير 100 ألف جندي حتى منتصف العام الحالي.
تحول 2005
إن التقديرات السائدة تُـشير إلى حدوث تطور سريع للغاية في أعداد قوات الأمن التي لم تتجاوز 85 ألف عنصر في بداية هذا العام، في ظل شكوى عراقية مريرة من بُـطء تلك العملية ومحدودية الموارد المخصصة لها.
ويعزو البعض ذلك، إلى حدوث تحول في توجهات البنتاغون إثر التقرير الذي قدمه الجنرال المتقاعد غاري لك، الذي ذهب إلى العراق لتقييم العمليات العسكرية أوائل العام، والذي أوصى بأن تتحول المهمة العسكرية الأمريكية بعد الانتخابات من مقاتلة العناصر المسلحة إلى تدريب قوات الجيش والأمن العراقية بهدف تمكينها من تولي مسؤولية الأمن، مما يمهّـد لانسحاب القوات الأمريكية في نهاية الأمر تدريجيا.
لقد ظلت المشكلة الأساسية التي تعوق ذلك استراتيجيا، هي “حالة العنف” القائمة. فحسب رأي عدد من مسؤولي تدريب القوات العراقية، “ليس بالإمكان بناء قوات الأمن العراقية بشكل فعال بدون تحييد التمرد المسلح، ولو لفترة زمنية قصيرة، حتى يكون بوسع هذه القوات تحقيق قدر من التماسك”.
فعملية إعادة البناء تتم في سياق حلقة من التوترات التي يجري فيها التطوع فالتدريب، ثم الدفع في اتجاه مسرح عمليات قتال مباشرة، دون التقاط الأنفاس، وكأن الأمر يتعلق بعمليات استدعاء احتياط أو تجنيد إلزامي في حالة حرب.
مشكلة اسمها “الـعـدد”
لكن العدد ظل أيضا مشكلة كبيرة، فقد كانت النسبة التي تمكّـن من خلالها نظام صدام حسين من السيطرة على العراق مثيرة، وهى 43 عنصر مسلح لكل ألف مواطن، وهي النسبة التي انخفضت فجأة بعد سقوط بغداد إلى 3 جنود لكل ألف مواطن، زادت بعد ذلك إلى 10 جنود لكل ألف مواطن.
وتنوي الحكومة العراقية زيادة قوات الأمن إلى 200 ألف عنصر بنهاية عام 2005 لتحل المشكلة نسبيا، لكن طالما ظل العرب السُـنة خارج المعادلة، وطالما ظل الاعتماد قائما على الشيعة والأكراد في بناء قوات الأمن والحرس الوطني تحديدا، لن يكتسب العدد أهمية حاسمة في معادلة إعادة الاستقرار.
ولقد كانت “هيئة علماء المسلمين في العراق” قد أصدرت فتوى، حرّمت فيها الانتماء إلى صفوف الحرس الوطني. فحسب رأيها، فإن كل القوات العراقية التي تخرج في مهام مع قوات التحالف، قوات شريكة للاحتلال، وعلى الرغم من أن ذلك لا ينطبق على الشرطة، كما تشير فتوى أخرى صدرت عن علماء الرمادي الذين شجّعوا الانتماء للشرطة العراقية في المحافظة لأنهم من أبنائها، وعلى الرغم من أن “الهيئة” ذاتها اضطرت تحت الضغط الشعبي لإصدار فتوى، بدا منها أنها تحرم قتل أفراد قوات الأمن، إلا أنها كانت نصا “تحرم قتل قوى الأمن العراقية الذين لا يخدمون أغراض المحتل”.
لذلك فإن المناخ العام في المناطق السُـنية منع بشكل واسع النطاق امتداد التطوّع إليها، بل أدى – كما سيشار إليه لاحقا – إلى استهداف واسع لقوات الأمن عموما، والحرس الوطني تحديدا، ولم تغيّـر انتخابات 30 يناير أو ما جرى بعدها كثيرا من هذا الوضع.
ولم يكن العدد هو المشكلة الوحيدة في تلك العملية. فعلى الرغم من تلك التصريحات التي تؤكّـد أن القوات العراقية مدرّبة جيدا، إلا أن ثمة شكوكا بهذا الشأن، ثار بشأنها جدل كبير في البنتاغون وداخل العراق.
فعلى الرغم من مشاركة دول عديدة (كألمانيا واستراليا) إضافة إلى الناتو، وجيش المدربين والمستشارين الأمريكيين (25 ألف) في تلك العملية، إلا أن فترة الـ 8 أسابيع التي تم اعتمادها لتدريب الضباط بشكل مكثف لم تكن كافية، وتم تعديلها مِـرارا، كما أن تجهيزات ومعدات ومقار عمل تلك القوات لم تكتمل لفترة طويلة. وتشير خبرة مشاركة تلك القوات في العمليات إلى تقدم ما، لكن لا تزال ثمة مشكلة.
مشاكل معقدة بل هائلة
وقد واجهت تلك القوات مجموعة من المشكلات المعقدة التي لا يزال بعضها قائما بدرجات مختلفة:
الأولى، تفاقم مشكلات الأمن العام بصورة وبائية. فالعراق لا يشهد فقط عنفا مسلحا، وإنما حالة إجرام عنيفة، ولا تزال قوة الشرطة غير كافية للتعامل معها، خاصة مع انتشار الإجرام المنظم، وإن كانت معدلات الجريمة تنخفض – حسب بعض المصادر – مع كل زيادة في عدد القوات.
الثانية، الفرار من الخدمة. فقد بلغت نسبة الغياب في بعض الوحدات إلى 80%، وهناك وحدات قائمة في حقيقة الأمر على الورق، كما بلغت نسبة التخلي عن المواقع في بعض الاشتباكات في بغداد والرمادي نحو 40%، باستثناء القوات الخاصة.
الثالثة، التطهير. فبعض عناصر الحكومة الحالية لا تزال تُـهدد بإجراء تطهير داخل قوات الأمن، يشمل الضباط البعثيين الذين أعيدوا للخدمة (حوالي 40 ألف) كلما حدث ما يبدو أنه اختراق أمني، أو في ظل استمرار تعقب أو اتهامات بعض فئات الشيعة لهم.
لكن تظل المشكلة الأساسية التي تواجه قوات الأمن العراقية هي استهداف العناصر المسلحة لهم في كل مراحل دخولهم إلى الخدمة، سواء أمام مراكز التطوع، أو في فترات التدريب، أو خلال تواجدهم في مقراتهم، أو عبر الدوريات التي يقومون بها، بحيث بلغ حجم الخسائر في صفوفهم أضعاف ما وقع في صفوف القوات الأمريكية، خاصة خلال حملة العنف الحالية التي بدأت في أعقاب تشكيل حكومة الجعفري مباشرة.
ومع أنه لا توجد مؤشرات محدّدة حول تأثير ذلك على حركة التطوع في ظل الأوضاع الاقتصادية المتدهورة في العراق، إلا أنه من المؤكّـد أن استهداف قوات الأمن يمثل مشكلة هائلة.
العامل الحاسم
لقد تمكنت قوات الأمن العراقية رغم كل ذلك من تأمين عملية الانتخابات والمشاركة في عمليات اعتبرت فعالة، بل والانتقال إلى المبادرة بالهجوم، وتكبيد العناصر المناوئة لها خسائر كبيرة أحيانا، وإحباط بعض عملياتها، وتفكيك بعض تشكيلاتها، لكن ما حدث مؤخرا أوجد مشكلة حقيقية تتّـصل بحماية تلك القوات ذاتها.
وتتداول حاليا أفكار أمريكية بأن ينقل جنود الأمن العراقيون وأسرهم لكي يعيشوا داخل ثكنات عسكرية أو إلى مدن ومناطق أخرى بعيدة عن مدنهم الأصلية، بهدف حماية تلك القوات من حملة التهديد والقتل التي تشنّـها عناصر المقاومة المسلحة ضدها، لكنها توصية من نوعية الحلول طويلة المدى.
إن السؤال الذي سيظل جوهريا وعالقا خلال الفترة القادمة، يدور حول ما يمكن لتلك القوات أن تحققه بمفردها، أما الإجابة على ذلك السؤال فتواجه تحديا في ظل ما يبدو أنه استمرار لقُـدرة المقاومة المسلحة على شن الهجمات في الأماكن والأوقات، وضد الأشخاص الذين يختارونهم.
ومع أن الحل المعتمد يتمثل في إنشاء قوات أمن كثيفة وفعالة، إلا أن الجميع تقريبا يُـدرك أن العامل الحاسم سيظل هو إدماج السُـنة في العملية السياسية، أو حسبما ورد في أحد التقديرات الأمريكية، “كسب التأييد الشعبي، بدلاً من التركيز على القضاء على المتمردين”.
د. محمد عبد السلام – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.