ماذا لو جاء الرئيس بوش إلى لوكارنو؟
آنقدح هذا السؤال الغريب في ذهني في ختام متابعتي لفعاليات الدورة الخامسة والخمسين لمهرجان لوكارنو الدولي للسينما.
لو جاء الرئيس بوش إلى هذه البلدة السويسرية في هذا الصيف لاطمئن إلى أن الهيمنة الأمريكية على السينما العالمية لا زالت في أوجها ولتمكن من مشاهدة عديد الأشرطة التي أنتجها أو أخرجها مواطنوه قبل بقية سكان الولايات المتحدة..
ولو حضر الرئيس بوش إلى لوكارنو لتأكد بنفسه من أن الأغلبية الساحقة من الإبداع الفكري والسينمائي في الغرب بشقيه الأمريكي الشمالي والأوروبي لا زال يراوح مكانه في دوائر الذاتية والفردية والمشاكل الوجودية. فالفرد يظل – وحيدا ومعزولا وقلقا – المحور والهدف والوسيلة في السينما الفرنسية والإيطالية والأمريكية التي سيطر إنتاجها على مختلف أركان المهرجان..
لكن لو عـنّّ لرئيس القوة العظمى في عالم اليوم أن يقضي جزءا من عطلته الصيفية على ضفاف “لاغو غراندي” السويسري الإيطالي لوجد بعض المفاجآت المثيرة في انتظاره.
غزة .. قلندية .. رام الله
فالمخرج الإيراني محسن مخبلماف كان سيأخذ بيد السيد بوش إلى قرية مغبرّة قفراء تقع على حدود بلده الغربية مع أفغانستان ليشاهد بأم عينيه في شريط “ألفباء افغاني” كيف يتحايل أطفال اللاجئين الأفغان يوميا على قوانين سخيفة تحرمهم من الإلتحاق بالصفوف الدراسية الرسمية لأن آباءهم الذين فروا من الحرب والمجاعة دخلوا الأراضي الإيرانية بشكل “غير شرعي”..
أما مواطنه المخرج الأمريكي جيمس لونغلاي فكان سيحمل رئيسه جورج دبليو بوش عبر صور شريط “قطاع غزة” الخالية من أي فبركة إلى مشاهد وأصوات وأجواء لم تخطر على باله .. فمشاهد الحياة اليومية الخام وآراء الفلسطينيين التي نقلها لونغلاي بدون تعليق أو تزويق من وسط لعلعة الرصاص وفي ظل تساقط القذائف الإسرائيلية قد تساعده على فهم شيء من خفايا “المعضلة”..
في المقابل سيقيم المخرج الفلسطيني صبحي الزبيدي من خلال شريط “عبور قلندية” الوثائقي لسيد البيت الأبيض الدليل القاطع على أن إذلال الجنود الإسرائيليين اليومي والمتعمّد للمدنيين الفلسطينيين وتدمير جيش الإحتلال المنهجي لعيادات الأطباء ومكاتب المهندسين وفصول الدراسة والبيوت والمحلات التجارية والمرافق الحيوية سيؤدي حتما إلى تعرض الدولة العبرية إلى مزيد من العمليات الإنتقامية حتى من طرف أشد المعارضين للأساليب التي تنتهجها حماس والجهاد الإسلامي …
بل قد تتاح للرئيس بوش الفرصة للاستماع إلى الصحافية الإسرائيلية عميرة هاس المقيمة منذ عام ثلاثة وتسعين وسط الفلسطينيين في غزة ورام الله كمراسلة لصحيفة هاريتز وهي تؤكد أمام كاميرا صبحي الزبيدي وسط الخراب الذي عمّ رام الله في شهر أبريل الماضي أنه “لا يوجد آحتلال ذكي وأن ما يحدث دليل على انسداد الأفق السياسي” لشارون وشركائه في حكومة تل أبيب..
من إيران شرقا إلى .. الجزائر غربا
ومن المحتمل أيضا أن يندهش رئيس الولايات المتحدة الأمريكية عند مشاهدة أحدث الأشرطة القادمة من إحدى دول “محور الشرّ” – مثلما يحلو له أن يصنف إيران- ويكتشف في شريط “أزمنتنا” للمخرجة رخشان بني آعتماد أن جزءا لا بأس به من الشباب الذي يشكل ثلثي السكان لا زال، رغم كل شيء، يثق في الرئيس محمد خاتمي .. وأن إحدى المترشحات الأربعين لمنصب رئيس الجمهورية في انتخابات العام الماضي لم تنجح في العثور على بيت تؤجره لضعف دخلها ولأنها مطلقة ومعها بنت..
أو يرى في شريط “أنا .. تارانيه .. بنت الخمسة عشرة ربيعا” الذي حصل على جائزتين في هذه الدورة والذي شاهده ملايين الناس وحقق أعلى الإيرادات في تاريخ السينما الإيرانية، أن حجم المشاكل التي تواجه الفتيات اللواتي تقررن الإحتفاظ بحمل غير متوقع لا يختلف جوهريا عما يحدث في بلدان محور “الخير” .. وأنه يوجد في إيران فنانون ومثقفون ومبدعون من طراز المخرج السينمائي رسول صدر عاملي لديهم قدرة فائقة على مخاطبة البشر أينما كانوا بلغة كونية مفهومة على الرغم من تمسكهم بثوابت هويتهم الحضارية .. المغايرة ..
وقد يجد الرئيس جورج بوش بعض الوقت للغوص مع المخرج السويسري- الجزائري محمد السوداني في مستنقع الحرب الأهلية في هذا البلد النفطي المهم. فهذه “حرب بلا صور” مثلما يقول عنوان الشريط الذي عاد من خلاله المخرج إلى بلاده بعد ثلاثين عاما من الغياب ليبحث مجددا عن شخصيات عديدة نقلت صورها عدسة المصور السويسري ميكائيل فون غرافنريد التي كانت حاضرة منذ اللحظات الأولى لتشكل المأساة الجزائرية الدامية في موفى الثمانينات..
هل هو مجرد ترف؟
أخيرا، قد ينجح سمير جمال الدين وهو مخرج سويسري شاب ولد في بغداد عام خمسة وخمسين لأم سويسرية وأب عراقي في إثارة فضول الرجل الذي يخطط هذه الأيام لمهاجمة العراق من خلال شهادات أربعة من اليهود العراقيين القاطنين اليوم في إسرائيل في شريط “إنسى بغداد”.. كشفت عن بعض المستور وحيرت الكثير من الجمهور.
ما جاء في هذه الشهادات – على الرغم من اقتصارها على حالة معينة في بلد محدد وفي حيز زمني قصير – يقيم الدليل للمرة الألف على أن ما يظهر على سطح هذه المنطقة التي شهدت ميلاد الحضارات والديانات الكبرى في التاريخ، يختلف جذريا في بعض الأحيان عما يعتمل في دواخلها، وأن التعايش السلمي ليس بدعة مستحدثة على الشعوب والطوائف التي عمّـرتها منذ عشرات القرون…
ولكن، يتساءل البعض، هل لدى رئيس القوة العظمى في عالم اليوم وقت لمثل هذا “الترف” الثقافي؟ قد لا يكون لدى السيد بوش أي مجال للتلهي بمشاهدة أشرطة سينمائية أو وثائقية عن تفاصيل المعاناة اليومية لسكان المنطقة الموصوفة منذ فترة بـ “هلال الأزمات”، لكن لا شك أنه يعلم علم اليقين أن أي قرار سيتخذه في واشنطن سيؤثر حتما في مصير مئات الملايين من البشر البسطاء، الذين لا ناقة لهم فيما يحدث ولا .. جمل!
كمال الضيف – لوكارنو
انطلقت الدورة الخامسة والخمسون لمهرجان لوكارنو في غرة أغسطس واختتمت يوم 11 أغسطس
تجاوز عدد الأشرطة المعروضة في دورة هذا العام الأربع مائة
فاق العدد الإجمالي للمتفرجين المائتي ألف شخص
بلغت ميزانية المهرجان تسعة ملايين ونصف مليون فرنك سويسري
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.