ماذا وراء “الحيوية السورية” المفاجئة؟
ماذا تفعل سوريا في لبنان؟ ليس الكثير، يرد أنصارها. فهي تفرض حصاراً إقتصادياً محدوداً على لبنان لمجرد تحقيق مكاسب سياسية محدودة.
الكثير، يرد خصومها. فهي أثبتت من خلال خنق الصادرات الصناعية والزراعية اللبنانية بأنها لم تقبل بعدُ الأمر الواقع الاستقلالي اللبناني الجديد.
ماذا تفعل سوريا في لبنان؟
ليس الكثير، يرد أنصارها. فهي تفرض حصاراً إقتصادياً محدوداً على لبنان لمجرد تحقيق مكاسب سياسية محدودة، أهمها منع قيام حكومة لبنانية جديدة معادية لها، والحفاظ على حد أدنى من التوازن بين النفوذ السوري وبين النفوذين الأمريكي والفرنسي في لبنان. وحالما تتحقق هذه الأهداف المحدودة، يزول الحصار المحدود.
الكثير، يرد خصومها. فهي أثبتت من خلال خنق الصادرات الصناعية والزراعية اللبنانية، ومنعها من الوصول إلى أسواقها الخليجية وفرض حظر على عمل صيادي الأسماك اللبنانيين، بأنها لم تقبل بعدُ الأمر الواقع الاستقلالي اللبناني الجديد، وهذا سيُـرتب على كلا البلدين مضاعفات غير محسوبة قد تكون في غاية الخطورة.
أي الفريقين على حق؟ كلاهما! فالخطوة السورية المفاجئة بإغلاق الحدود لا يمكن بالفعل أن تدوم طويلاً، ليس لأن القادة السوريين لا يكنّـون مشاعر الانتقام من اللبنانيين (فهناك الكثير منها بالفعل)، وليس لأنهم لا يريدون إستخدام عضلاتهم الاقتصادية لتحقيق مكاسب سياسية (فهذا أمر مؤكّـد)، بل أولاً وأساساً، لانهم يخشَـون بالدرجة الأولى ردود الفعل الغربية ضدهم، خاصة الغرب الأوروبي الذي يهدد الآن بإغلاق النافذة الوحيدة التي يُـمكن أن تنقذ الاقتصاد السوري العليل: إتفاقيات الشراكة السورية – الأوروبية، وهذا ما يجعل أنصار سوريا على حق.
لكن في المقابل، يبدو أن الخصوم يملكون أيضاً منطقاً قوياً. فهم يرون في الخطوة السورية دليلاً فاقعاً على أن القيادة السورية ما زالت ماضية قُـدماً في رهاناتها الخطرة، وهذا يشمل:
• الرغبة الشديدة في العودة إلى لبنان من النافذة، بعد أن أخرجها الغربيون من الباب، وهذا برأي القيادة، يمكن أن يتم عبر المزاوجة بين الضغط الاقتصادي السوري، وبين التصعيد السياسي من جانب حلفائها اللبنانيين، وعلى رأسهم حزب الله وحركة أمل وبعض القوى المسيحية.
• الرهان على أن الانتخابات الإيرانية الأخيرة، التي أوصلت إلى السلطة رئيساً أصولياً متشدداً، هو محمود أحمدي أنجاد، قد تؤدي إلى حصيلتين إيجابيتين بالنسبة لها: الاولى، تحويل الغضب الأمريكي عن سوريا نحو إيران. والثانية، الإفادة من التصلب الإيراني كعنصُـر قوة وورقة ضغط في جيبها ضد أمريكا وأوروبا.
• رهان ثالث بنشوب إنتفاضة فلسطينية ثالثة، خاصة إذا ما أدّى الإنسحاب الإسرائيلي الإنفرادي من غزة إلى إنفجار أمني يفرض على إسرائيل إعادة إحتلال القطاع، أو إلى نجاح حركة “حماس” في السيطرة العسكرية عليه، مما يمنحها قاعدة إنطلاق ثمينة لا قيود عليها لعملياتها العسكرية ضد الإسرائيليين. وفي كلا الحالتين، ستكون سوريا في موقع الإفادة من هذه التطورات على أكثر من صعيد سياسي وإستراتيجي وتكتيتي، لأن الولايات المتحدة وإسرائيل ستنغمسان حينها في وحول غائرة تلهيهم عن “الثمرة اليانعة” (وهذه هي التسمية التي يطلقها الأمريكيون على سوريا).
• ثم هناك أخيراً، الرهان الكبير على تطورات العراق، خاصة بعد أن إنطلقت عجلة الأحاديث الأمريكية عن إنسحابات غربية عسكرية كبيرة، ربما في منتصف العام المقبل من البلاد. وفي حال تحقق ذلك، ستصطاد سوريا ثلاثة عصافير برصاصة صغيرة واحدة: إسدال الستار نهائياً عن إحتمال الغزو العسكري الأمريكي لإسقاط النظام السوري، توقف الضغوط الأمريكية عليها بسبب العراق، والتدخل الكثيف في الشؤون الداخلية العراقية لتكبير الحصة السورية في النظام الجديد الذي يمكن أن يولد من أتون الانفجار المقبل في بلاد ما بين الرافدين.
نشاط وحيوية
كل هذه العوامل تشجّـع، على ما يبدو، سوريا على إبداء نشاط وحيوية سياسية إفتقدتها بشدة منذ خروجها من لبنان. فهي عاودت نشاطها في لبنان، وأدارت وجهاً باسماً لإيران، وجلست بإسترخاء فوق سور العراق وفلسطين تنتظر بثقة أخباراً طيبة بالنسبة لها.
لكن، هل هذا الاطمئنان والثفة السوريين في محلهما؟ لا يبدو أن الأمر كذلك. ليس تماماً على الأقل، إذ في مقابل هذا الفعل السوري، يجب إنتظار ردود الفعل الامريكية والأوروبية. ويبدو أن هذه الأخيرة لن تتأخر كثيراً. فقد دشّـنتها وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس، حين تقصّـدت القيام بزيارة مفاجئة لبيروت، لترسل من هناك رسالة مفادها أن واشنطن مستعدة للرد على “نشاطية” دمشق بكل الوسائل، وأن الوضع اللبناني الجديد الذي نشأ غَـداة الانسحاب السوري، والانتخابات اللبنانية يحظى برعاية أمريكية قوية وكاملة.
وفي الوقت ذاته، كان يحدث في العاصمة الأمريكية ما هو أخطر بكثير: إعلان إدارة الرئيس بوش أنها تدرس عدداً من الإجراءات الهادفة إلى تشديد الضغوط الاقتصادية والسياسية على سوريا بما في ذلك إحتمال تجميد ودائع لمسؤولين سوريين بارزين في المصارف والمؤسسات المالية الأمريكية، وأيضاً تجديد بعض أعضاء الكونغرس الأمريكي دعواتهم إلى إقرار مشروع قانون يُـعرف بإسم “قانون تحرير لبنان وسوريا” كان طرح للمرة الأولى في مارس الماضي في مجلس النواب الأمريكي، وهو يهدف إلى تكثيف العقوبات على سوريا وتوفير الدعم لقوى المعارضة لتحقيق التحوّل الديمقراطي فيها، تماماً كما حدث قبل ذلك مع “قانون تحرير العراق”.
هذا على الصعيد الأمريكي. أما أوروبياً، فإن ردّة الفعل على النشاطية السورية (أساساً في لبنان) لم تكن أقل عنفاً، إذ إتهم دبلوماسيون أوروبيون سوريا بـ”شن حرب حقيقية” على لبنان، واعتبروا أن الحصار السوري “يمثل بدايات تحدٍّ لإرادة المجتمع الدولي، تخالف كل ما سبق أن تعهدت به القيادة السورية في السابق، إما على لسان الرئيس بشار الأسد شخصياً (لموفد الأمم المتحدة تيري رود لارسون) أو عبر قنوات دبلوماسية بعدم التدخل في الشؤون الداخلية السورية.
والحصيلة؟ إنها واضحة: إستعدادات أوروبية لمماشاة الأمريكيين في أية إجراءات عقابية جديدة لردع دمشق أو حتى قلب سحر الحصار على لبنان على الساحر السوري نفسه.
موجات مختلفة
يبدو السؤال للوهلة الأولى معقداً للغاية، أساساً بسبب التعقيدات الشديدة لتطورات الشرق الأوسط المتسارعة، من جبال فارس إلى ضفاف الفرات في العراق، مروراً بهضاب فلسطين.
لكن الأمر لا يكون كذلك حين نلتقط رأس الخيط الحقيقي في كل ما يجري، وهذا الرأس يبدأ في واشنطن وله إسم محدد “نظرية اللاإستقرار البناء” التي تبنّـتها إدارة بوش، والتي تبني عليها كل توجّـهاتها الشرق أوسطية الجديدة.
هذه السياسة لم تعد تقلق من أية فوضى قد تنشأ في المنطقة، لأنها باتت الأمر الواقع الراهن مرفوضاً، وأيضاً لثقتها بأن الأمور ستؤول في النهاية لصالحها بسبب عدم وجود منافسين دوليين أو إقليميين لها يمكن أن يفيدوا من هذه الفوضى.
بالنسبة لسوريا، تعني هذه النظرية بوضوح أن واشنطن لا تفكر على الموجة نفسها التي تفكر بها دمشق. فالفوضى في العراق مثلاً، لن تدفعها إلى مغازلة دمشق وخطب ودها، بل ربما إلى إشهار طلاقها معها. وكذا الأمر حيال إيران وفلسطين ولبنان، حيث ستسعى الإدارة الأمريكية في كل آن تخسر فيه نقطة ما إلى تعويض خسائرها في نقاط شرق أوسطية أخرى، وعلى رأسها سوريا، وهذا يعني بكلمات أوضح، أن الرهانات الإقليمية السورية على منطقيتها، قد لا تكون صحيحة أو على الأقل لا تنطبق على المتغيرات الأمريكية التي حدثت بعد 11 سبتمبر، الأمر الذي يجعلها رهانات خطرة للغاية ومكلفة للغاية.
والحل؟ إنه نفسه الذي كان موجوداً أمام سوريا منذ ثلاث سنوات: الرهان على الإصلاحات الداخلية (المدعومة أوروبياً) بدل التطورات الخارجية (المحروسة أمريكياً).
لكن يبدو، من أسف، أن القيادة السورية لم تقتنع بذلك بعد أو ربما لا تريد أن تقتنع، وهذا ما سيجعل الوضع في سوريا من الآن وحتى إشعار آخر، مفتوحاً بشكل كبير على المخاطر الدولية – الإقليمية نفسها التي تراهن دمشق عليها لإنقاذها من ورطتها الراهنة، وهذه مفارقة غريبة حقاً، وغريبة للغاية.
سعد محيو – بيروت
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.