ماذا وراء الضغوط الأمريكية على مصر؟
بالرغم من أن علاقات القاهرة وواشنطن عرفت دورات متتالية من الانفراج، فالتوتر ثم الانفراج، فإن المرحلة الحالية تبدو فيها دورة العلاقات متجهة إلى حالة جديدة لم تكن مألوفة من قبل.
فالمؤشرات التي تتواتر تباعا، تعبّـر عن نقلة موضوعية كبرى.
بالرغم من أن علاقات القاهرة وواشنطن عرفت دورات متتالية من الانفراج، فالتوتر ثم الانفراج، وذلك على خلفية التباين أو الاتفاق تجاه قضايا إقليمية ودولية شتى، فإن المرحلة الحالية تبدو فيها دورة العلاقات متجهة إلى حالة جديدة لم تكن مألوفة من قبل.
فالمؤشرات التي تتواتر تباعا، تعبّـر عن نقلة موضوعية كبرى. فللمرة الأولى، ومنذ ثلاثة عقود، يبدو الأمريكيون راغبون بقوة في تغيير نظام الحكم وِفقا لخططهم المُـعلنة عن التغيير الديمقراطي في المنطقة العربية، ويتعمّـدون إحراجه والتأثير على صورته الدولية والإقليمية، فيما يطرح على المصريين تحدّي البحث عن آليات جديدة تحكم علاقتهم المستقبلية مع واشنطن.
فتح ملفات قديمة
ففي أقل من ثلاثة أشهر، سرّبت مصادر أمريكية بيانات مزعومة تتهم مصر بانتهاك الالتزامات الدولية بشأن أسلحة الدمار الشامل.
فمن قبل، اتّـهمت القاهرة بأنها خرقت الالتزامات الواردة في مُـعاهدة منع الانتشار النووي، وقامت بتجارب خاصة بدورة الوقود النووي دون إعلان الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهو ما أعلنت الوكالة لاحقا عدم صحّـته، وأعطت لمصر صكّ براءة رسميا.
والآن، تعلن وكالة الاستخبارات الأمريكية تقريرا جديدا يتّـهم مصر بمساعدة نظام صدام حسين في الثمانينات على صُـنع أسلحة كيماوية، ولا يَـرِد في التقرير أي دليل على هذه المزاعم. فيما يرفضه المصريون ويعتبرونه جُـزءا من حملة ابتزاز ضد بلدهم وإحراجها دوليا.
ويمكن أن نضيف هدفا آخر، وهو التأثير على علاقة مصر بالعراق في ظل حكمه الجديد، عبر زعم دور مصري ـ قديم بالطبع ـ ولو غير مباشر فيما تعرّض له الأكراد على يد النظام “الصدامي” المخلوع في الثمانينات. ولسنا هنا بصدد الإشارة إلى مدى حساسية الأكراد العراقيين إزاء هذا الأمر تحديدا.
الشيء البارز في هذه التقارير أنها تتحدث عن أشياء قديمة يزيد عمرها عن ثلاثة عقود أو عقدين ونصف تقريبا، وحتى بافتراض أن بعضها فيه ظل من الحقيقة، فيظل التساؤل قائما، لماذا لم تُـنشر مثل هذه البيانات في وقتها، أو بمعنى آخر لماذا الآن؟ وهنا بيت القصيد، إنها نوع من المحاسبة بأثر رجعي، وفتح لملفات قديمة لأهداف تتعلق بالحاضر والمستقبل.
والملفت للنظر أن التسريبات الخاصة بمزاعم انتهاك معاهدة الانتشار النووي جاءت في صورة معلومات صحفية، وطُـلِـب من الوكالة الدولية للطاقة الذرية التأكّـد منها. أما الاتهام بمساعدة العراق “الصدامي” على صُـنع أسلحة كيماوية، فقد جاءت في تقرير رسمي أمريكي، فيما يؤكّـد أن الأمر من وجهة النظر الأمريكية أكبر من مجرد ضغط عابر على بلد يَـعتبِـر نفسه صديقا من الطّـراز الأول للولايات المتحدة في منطقة مضطربة جدا.
إن الدلالات الأساسية لمثل هذه التقارير التي يبدو أن نشرها يجيء وفق مخطط مدروس، لا تظهر جلية إلا من خلال ربطها بالاستراتيجية الأمريكية الجديدة تُـجاه المنطقة ككل، ومن بينها مصر، وهي استراتيجية التغيير القصدي لنظم الحكم القائمة، باعتبار أن صلاحيتها للأهداف الأمريكية الجديدة قد انتهت منذ فترة طويلة.
ولما كانت عمليات التغيير متنوعة ما بين عسكري واقتصادي وسياسي، فإن مصر مرشّـحة لأن تكون النموذج الأبرز في التغيير عبر الآليات السياسية والإعلامية، تماما كما هو الحال في العراق الذي يُـعَـدُّ النموذج الأول في التطبيق العسكري للتغيير.
آليات سياسية للتغيير
التغيير بآليات سياسية يعني ببساطة تدخّـلا منظّـما لهدف محدّد، وهو إعادة بناء النظام السياسي بما يتلاءم مع الأهداف الأمريكية. والمصريون بطبيعتهم حساسون جدا لأي تدخل مباشر في شؤونهم الداخلية، حتى ولو كان سيجلب لهم “ديمقراطية ورفاهية 100%”، ليس كراهية للديمقراطية، وإنما لمبدأ أن تكون مصر بكل تاريخها الثري تابعة لقوة خارجية.
الآليات السياسية ليست اختراعا في حدّ ذاتها، لاسيما ما يتعلّـق بخلق منظمات أهلية وأحزاب ذات صلة مباشرة بالمركز الخارجي تعمل لصالحه في بلد ما. والنجاح الذي حققته مثل هذه الآليات في تجارب أخرى كأوكرانيا وجورجيا، ومن قبل ما جرى في بلدان أوروبا الشرقية عام 1989، يعطي حافزا للولايات المتحدة لأن تخضع مصر مجال التجريب الديمقراطي المخطط.
ومن هنا، تتحدث مصادر مصرية غير رسمية على أن المرحلة المقبلة ليست كسابقتها، وما يرصده المصريون متنوع جدا، بداية من تسريب معلومات عن خطط وضعتها مراكز بحث بتكليف من إدارة بوش لغرض إحداث تغيير سياسي كبير في مصر، ومرورا برصد المقالات والتحليلات التي باتت تزخر بها كُـبريات الصحف الأمريكية وثيقة الصّـلة بإدارة بوش، وتنتقد مصر والرئيس مبارك بصورة غير معتادة، من حيث طبيعة النقد والاتهامات، وحتى التجريح الشخصي أحيانا، وكذلك مُـجمل الرسائل الضمنية الموجهة للمؤسسات الأمريكية نفسها، والتي تصُـب إجمالا في ضرورة البحث عن بديل ديمقراطي لنظام الحكم القائم في مصر.
اختراق المجتمع المدني
على الصعيد العملي، فإن خُـطط اختراق المجتمع المدني المصري موجودة ومطبّـقة منذ فترة طويلة، ولكنها كانت بصورة أو بأخرى تتم باتفاق مع الحكومة المصرية ذاتها، من حيث جعل وزارة الشؤون الاجتماعية تُـشرف على المِـنح التي تحصل عليها المنظمات الأهلية المختلفة.
وجديد المرحلة الراهنة، أن الاختراق صار مباشرا من خلال تمويل هذه المنظمات مباشرة، ودون استئذان من الحكومة على أي نحو كان، وهو ما فعله السفير الأمريكي وسط حفل حضره بعض الصحفيين، حين قدّم مجموعة شيكات بعدة آلاف من الدولارات الأمريكية لعدد من المنظمات الأهلية العاملة في مجال الدراسات الاجتماعية، وتمكين المرأة وحقوق الإنسان والرقابة على الانتخابات. الأمر الذي يُـعد خرقا مباشرا للقوانين المعمول بها، وتحديا للنظام من جانب آخر.
ووفقا للأفكار الأمريكية التي وصلت إلى مسامع القاهرة أن كودوليسا رايس طلبت من بعض أعضاء في الكونغرس التفكير في كيفية تحويل المعُـونة السنوية التي تُـمنح لمصر من الحكومة إلى الأحزاب والمجتمع المدني والقطاع الخاص مباشرة.
ولنتخيل أن 1.2 مليار دولار توجّـه مباشرة إلى أحزاب ومنظمات أهلية وقطاع خاص دون رقابة أو إشراف حكومي من أي نوع. فإلى جانب أن الأمر سيشكّـل رسالة للمجتمع الدولي كله بأن الحكومة المصرية غير جديرة بالحكم، فإن شريحة كبيرة جدا من المجتمع المدني والسياسي المصري سيكون صنيعة أمريكية، ومن بين هؤلاء من تفكّـر واشنطن في أن يكونوا رؤساء ونُـخبة الحكم الجديدة في مصر، والموالين تماما لواشنطن واستراتيجيتها.
تغيير بعيد المدى
المهم هنا، أن الخطط الأمريكية لا تتحدّث عن تغيير يتم في شهر أو بضعة أشهر مقبلة أو محاولات لتجميل الحكم القائم وكفى، بل تغيير يتم على مدى زمني طويل، ومن هنا، الحديث عن تغيير نخبة حالية واستبدالها بأخرى تكون مُـدينة 100% للدعم الأمريكي، سياسيا وماليا.
ولذلك، فإن الدفاع التلقائي عن أي سياسي أو باحث أو زعيم حزبي مصري، سيكون مضمونا طالما أن هذا الشخص يقول بما تقول به إدارة بوش، ويمكنه أن يمثل إزعاجا من أي نوع للحكم المصري وللرئيس مبارك شخصيا، وما حدث مع زعيم حزب الغد، أيمن نور، لا يخرج عن هذا الإطار.
هذه الأمور الظاهرة تشكّـل في ذاتها إشكاليات مركّـبة للحكم في مصر، فما بالُـنا وهناك أمور أخرى لم تظهر تفاصيلها بعد، ولذلك، يظل التساؤل، كيف سترد مصر؟ الظاهر هنا، أن تجارب مصر السابقة والناجحة في احتواء الغضب الأمريكي، لم تعد مناسبة في مواجهة الخطط الأمريكية الجديدة، وكذلك، فإن التهويل من خطر تشكيل نظام إسلامي متطرف وضد المصالح الأمريكية، إذا ما سقط النظام القائم، لم يعد يُـجدي مع صقور إدارة بوش.
وإذا كان الدخول فى عملية إصلاح سياسي شاملة وفقا للمقاييس المصرية وتطلّـعات حركتها الوطنية الأصيلة يمثل ثمنا باهظا للحكم القائم، لكنه سيظل الثمن الأنسب، مقارنة بما يُـمكن تخيّـله إذا اندفع الأمريكيون في خطط التغيير القسري، لمجتمع معروف أنه لا يتغيّـر إلا ببطء شديد جدا.
د. حسن أبوطالب – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.