الإقتصاد السويسري 2008…تفاؤل حذر يخيم عليه شبح الركود
بينما يُحكم فصل الشتاء قبضته على سويسرا، قد تشعر ببرده القارس أيضا الشركات والمؤسسات المالية والقطاع الاقتصادي ككل على إثر سنة عاصفة.
فبعد سنوات من النمو، يتوقع الاقتصاديون حصول حالة من الركود بسبب تسجيل المصارف لخسائر طائلة وارتفاع قياسي لقيمة الفرنك، مما يؤثر سلبا على قطاع الأعمال وبالصادرات ومواطن الشغل، ونفقات الاستهلاك. والسؤال الوحيد الذي يتردد حاليا هو العمق الذي ستتخذه هذه الأزمة ومداها الزمني.
ولقد أمكن إستشعار الضيق منذ نهاية 2007، عندما تخلى أكبر مصرفيْن سويسريين، اتحاد المصارف السويسرية “يو بي إس” و”كريدي سويس”، عن تحفّظهما المعهود، وأعلنا أنهما، كبقية المؤسسات المالية، شاركا في استثمارات الرهن العقاري غير المضمونة.
ومع نهاية شهر ديسمبر هذه السنة، أجبـِر “يو بي إس” على شطب أصول بقيمة 44 مليار دولار، بينما شطب كريدي سويس أصولا بقيمة 10 مليار دولار. كما تخلى الإثنان على الآلاف من الموظّفين، على رأسهم مارسيل أوسبيل، رئيس إتحاد المصارف السويسرية.
وتعرض كبار الموظفين التنفيذيين السابقين إلى ضغوط شديدة على المستويين الوطني والدولي لإعادة الملايين من الدولارات التي حصلوا عليها كعلاوات ومكافآت.
وفي خطاب ألقاه في شهر سبتمبر، وصف بيير ميرابو، رئيس جمعية المصارف السويسرية، عام 2008 بـ “السنة المريعة”. لكن الأسوء حصل لاحقا، عندما اضطر البنك الوطني السويسري لاعتماد خطة بمقدار 60 مليار فرنك لإنقاذ “يو بي إس” من الإفلاس، وعندما أجبر كريدي سويس للقبول بتمويل قَطَري بقيمة 10 مليار دولار.
إجراءات طارئة
وانضم البنك الوطني سويسري إلى بقية البنوك المركزية في البلدان الصناعية، فضخّ المليارات من الفرنكات في السوق المالية السويسرية لتجاوز النقص في السيولة، ولتحفيز عمليات الاقتراض البينية في ما بين المصارف من جهة، وبين المصارف وقطاع الاعمال من جهة أخرى.
كما دفعت الأزمة البنك الوطني إلى اتخاذ سلسلة من القرارات المتلاحقة للحد من معدلات الفائدة لخفض أسعار الفائدة على القروض عند حدود 225 نقطة خلال ثلاثة أشهر فقط. وفي شهر ديسمبر، استقر مؤشر “ليبور” (وهو سعر الفائدة السائد بين المصارف في لندن، ومتوسط السعر بين المصارف الخاص بجمعية المصرفيين البريطانيين وأهم المصارف النشيطة على المستوى الدولي) خلال الأشهر الثلاثة عند 0.1%، أي أدنى معدل له منذ سنة 2000.
وزاد من صعوبة مهمة البنك الوطني تعاظم المخاوف من تصاعد نسبة التضخم مع منتصف السنة، وتزامن ذلك مع ارتفاع أسعار المواد الأولية ومصادر الطاقة. وبلغت نسبة التضخم أعلى معدل لها خلال 18 سنة، لتصل إلى 3.1% في شهر يونيو، قبل أن تتراجع خلال النصف الثاني من هذه السنة (2008).
ولم يكن الغرض من إعتماد هذه الإجراءات دعم النظام المصرفي فقط، بل أيضا إنعاش النشاط الاقتصادي، خاصة وأن الأزمة المالية بدأت تؤثّر سلبا على القطاع الصناعي.
وظلت بعض القطاعات الاقتصادية في وضع جيد حتى موفى سنة 2008، بحيث حققت شركة المواد الغذائية “نستليه”، على سبيل المثال، معدل مبيعات قياسي بلغ 81.4 مليار فرنك سويسري في أكتوبر. وبدأت مجموعة صناعة الساعات “سواتش” السنة بتحقيق نتائج قياسية وارتفعت نسبة مبيعاتها في النصف الثاني من السنة، برغم تراجع طفيف لأرباحها.
وعلى مستوى القطاع الصيدلاني، سجلت “نوفارتيس” أرقاما إيجابية، في وقت واصلت فيه شركة “روش” تحقيق مكاسب جديدة، في حين يسود قطاعي السياحة وصناعة المجوهرات حالة من التفاؤل الحذر بالنسبة للمستقبل.
انهيار قيمة الأسهم
في المقابل، أظهرت قطاعات مثل البناء وصناعة مكونات السيارات والصناعات الكيميائية والمعادن وصناعة الأجهزة والآلات مؤشرات اقتصادية سلبية، وزاد من مصاعبها ارتفاع قيمة الفرنك الذي يتوقع الخبراء أن يضر كثيرا بقطاع الصادرات على وجه التحديد.
فقد بلغت قيمة الفرنك مقابل العملة الأوروبية الموحدة “اليورو” 1.43، في حين وصلت إلى حد التساوي مع قيمة الدولار، ويعود هذا الإرتفاع إلى إختيار المستثمرين العملة السويسرية ملجأ لاصولهم المالية في وقت تتعرض فيه عملة الدولار إلى الاهتزاز.
ولم تسلم أسواق البورصة من انعكاسات هذه الأزمة، حيث لجأ المستثمرون إلى إغراق قيمة الأسهم من خلال سحب أصولهم المالية من المصارف.
وخسر مؤشر البورصة السويسرية أكثر من ثلث قيمته خلال سنة 2008، ليتراجع من ما يقارب 9.000 نقطة إلى ما دون 5.000 نقطة في الفترة ما بين نهاية سنة 2007 ونوفمبر 2008.
هذا السقوط الحر لمؤشر قيمة الأسهم ترجم بخسارة تعادل 300 مليار فرنك. وتراجعت المدخرات المالية على حد بعيد على إثر خسارة أسهم “يو بي إس” بما يعادل 80% من قيمتها منذ 2007، في وقت تراجعت قيمة أسهم “كريدي سويس” بما يقارب النصف .
في المقابل، كانت البنوك الكانتونية المحلية، التي توفر ضمانات مالية كاملة، بالإضافة على المصارف الخاصة صغيرة الحجم، المستفيد الاكبر، حيث شكلت الملاذ الآمن لودائع المواطنين، وقد ساهمت الدولة في هذه العملية بأقدار حيث رفعت من قيمة الضمانات المصرفية من 30.000 فرنك إلى 100.000 فرنك.
اتهامات التهرب الضريبي
لكن المصاعب التي أعترضت أكبر مصرفيْن سويسرييْن، يو بي إس وكريدي سويس، تعاظمت أكثر خلال سنة 2008 مع فتح السلطات الأمريكية تحقيقا أجبر مصرف يو بي إس على إنهاء أنشطته الاستثمارية في الولايات المتحدة الأمريكية، في الوقت الذي أدين أحد موظفيه الساميين بمساعدة الأثرياء الأمريكيين على التهرب من دفع الضرائب. وتروج إشاعات حول إحتمال توسيع دائرة التحقيق لتشمل مصرف كريدي سويس.
هذه التحقيقات سلطت المزيد من الضغوط على السر المصرفي مع مطالبة السلطات الأمريكية بالكشف عن الحسابات المصرفية التي يمتلكها أثرياء أمريكيين متهمين بمخالفات ضريبية.
كما صعدت فرنسا وألمانيا من مطالبتهما سويسرا باتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع تحولها إلى جنة ضريبية.
ولعل هذا الشتاء سيكون الأطول بالنسبة لسويسرا، إذ لا أحد يعلم متى سيبدأ الإنتعاش ومتى تستعيد البلاد عافيتها الإقتصادية.
سويس إنفو – ماثيو آلن – زيورخ
كانت سنة 2008 منذ البداية غير مبشّرة بخير بالنسبة للقطاع المالي السويسري خاصة مع إعلان اتحاد المصارف السويسرية (يو بي إس)، أكبر مصرف في البلاد، تضرره بسبب أزمة الرهن العقاري، واتخاذه إجراءات لتعزيز قاعدة رأسماله نهاية 2007. وقد بدا واضحا لاحقا أن مؤسسات مالية سويسرية أخرى قد لحقها الضرر أيضا من انهيار القطاع العقاري في الولايات المتحدة الأمريكية.
في القطاع الصناعي السويسري، اهتزتّ السوق بعد إعلان شركة “آزيان براون بوفيري” ABB العاملة في مجال الطاقة الرحيل المفاجئ لمديرها التنفيذي فريد كاندل، وراجت شائعات بأن مغادرته كانت بسبب خلاف بينه وبين الرئيس الجديد هوبرتوس فون غرانبورغ.
ومع حلول شهر أبريل، انضاف اسم مارسيل أوسبيل إلى قائمة الأسماء المرشحة لمغادرة إدارة يو بي إس. وفعلا، استعاض المصرف عنه ببيتر كورر، الذي كان يشغل حتى ذلك الوقت خطة الخبير القانوني.
وفي يونيو، حافظ البنك الوطني السويسري على معدل الفائدة من دون تغيير، في وقت ارتفعت أسعار الطاقة، وبلغت نسبة التضخّم مستويات مخيفة، إذ بلغت في شهر يوليو 3.1%، وهي نسبة قياسية مقارنة بالسنوات الـ 15 الأخيرة.
تلا ذلك توجيه الولايات المتحدة اتهاماتها للمسؤولين باليو بي إس بتشجيع الأثرياء الأمريكيين على التهرب من دفع الضرائب لخزينة بلادهم. وأعلم مسؤولون كبار لجنة تحقيق برلمانية أمريكية قرار المصرف بالتوقف عن القيام بأي نشاط استثماري في الولايات المتحدة الأمريكية. في المقابل، طالبت الإدارة الأمريكية بكشف حسابات الحرفاء الأمريكيين المحمية بمقتضى سرية المعاملات المصرفية.
وكشفت دراسات للوضع الاقتصادي أن ثقة المستهلكين قد تراجعت مع نهاية فصل الصيف، ولكن رغم ذلك، أكدت تلك الدراسات تفاؤل رجال الأعمال والخبراء الاقتصاديين بتحقيق نسب نمو إيجابية سنة 2009، ولئن كان ذلك بشكل طفيف. وتقوم بعض القطاعات الاقتصادية بإصدار تحذيرات بشأن تراجع أرباحها، بعد تقلص الطلب على منتجاتها.
وحتى نهاية الصيف، تمسك البنك الوطني السويسري بعدم خفض معدل الفائدة، لكنه أضطر لاحقا إلى التخلي عن تلك السياسة، حيث خفّض معدل الفائدة ثلاث مرات متتالية خلال أشهر أكتوبر ونوفمبر وديسمبر، إلى أن بلغ 0.1%. كما اضطر البنك الوطني السويسري إلى ضخ أموال طائلة في الأسواق المالية لتشجيع عمليات الاقتراض البينية على مستوى المصارف.
ونتج عن اختلال الأسواق المالية خلال سبتمبر والأشهر اللاحقة اللجوء إلى اعتماد خطة استثنائية لإنقاذ يو بي إس. وبلغت القيمة المالية لهذه الخطة 60 مليار دولار. من ناحيته، وفي مواجهة تصاعد الانتقادات، عدل يو بي إس نظام العلاوات، وطالب رؤسائه التنفيذيين السابقين الذين فشلوا في آداء مهمتهم بإعادة الملايين من الفرنكات التي حصلوا عليها كعلاوات.
وفي نوفمبر، خصصت الحكومة السويسرية 1.5 مليار فرنك لتحفيز القطاع الاقتصادي في البلاد. وحاليا، تواجه سويسرا شبة كساد اقتصادي طبقا لتوقعات الخبراء الاقتصاديين.
وقد ارتفعت قيمة الفرنك السويسري في فصل الخريف الماضي بسبب لجوء المستثمرين لتحويل أرصدتهم إلى عملة مضمونة القيمة. وحاول البنك الوطني الحفاظ على قيمة الفرنك عند مستوى مقبول حتى لا يؤدي ذلك على تراجع الإقبال على الصادرات السويسرية. ومع نهاية سنة 2008، وكبقية بلدان العالم، تتهيأ سويسرا لاستقبال سنة كبيسة.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.