مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

سويسرا لا تريد أن تكون ملاذا آمنا “للأموال الرمادية” بعد الآن!

بعد ان اعلنت سويسرا انتهاء عصر "الأموال الرمادية"، إلى متى سيصمد السر المصرفي؟ Keystone

"المصارف السويسرية لا يمكنها القبول بعد الآن بالودائع المالية الأجنبية غير المعلنة": بهذه الخطوة الحاسمة الرافضة للأموال "الرمادية"، تسعى الحكومة السويسرية إلى زيادة طمأنة شركائها الأوروبيين والذهاب إلى أبعد مما تقتضيه المعايير التي وضعتها منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية لمحاربة الملاذات الضريبية.

في مقابل ذلك، تبقي الحكومة على الغموض بشان الإجراءات العملية التي تنوي اتخاذها بهذا الصدد، مما يلقي بظلال من الشك حول قبول الإتحاد الأوروبي، الشريك التجاري الرئيسي، بهذه الخطوة بديلا عن التبادل التلقائي (أو الآلي) للبيانات المصرفية، وعن الاتفاق الإطاري الشامل بشأن الملف الضريبي.

وبرر هانس رودولف- ميرتس، وزير المالية في الحكومة الفدرالية إعلان الحكومة السويسرية “نهاية عصر الأرصدة المالية غير المعلنة” على حد تعبير صحيفة “لوتون ” (تصدر بالفرنسية في جنيف)، بالقول خلال ندوة صحفية عقدها في العاصمة برن يوم الخميس 25 فبراير 2010: “إنها خطوة ضرورية للحفاظ على نزاهة الساحة المالية السويسرية وعلى استقرارها”، من دون أن يقترح حلولا ملموسة لمساعدة شركائه الأوروبيين على زيادة إيراداتهم الضريبية وسد عجوزاتهم المتفاقمة.

يبقى أن إحدى الخيارات الأساسية التي تطرحها الدوائر المصرفية تتمثل في استخلاص ما يُسمى بالضريبة “الإبرائية” أي المستقطعة من المنبع بالنسبة لودائع الرعايا الأجانب، وتضمين ذلك في الإتفاقيات الثنائية القائمة بين سويسرا والعديد من الدول لمنع الازدواج الضريبي. وبالرغم من هذا المقترح الملفت، لا يبدو وزير المالية مقتنعا تماما بجدواه، إذ أوضح خلال حديثه إلى الإعلاميين، بأنه “ليس هناك حل واحد بسيط يسمح بالحفاظ على السر المصرفي”.

وبشأن الخلاف الضريبي مع العديد من البلدان خاصة المجاورة، والذي يسبب الكثير من الصداع للساحة المالية السويسرية، وعد ميرتس بمواصلة التفاوض في إطار اتفاقيات منع الازدواج الضريبي مع كل من إيطاليا وألمانيا وفرنسا للتوصل إلى حلول مُـرضية لجميع الأطراف.

وحول احتمال رفض بروكسل لهذا المسار، أشار وزير المالية السويسري إلى أن “الإتحاد الأوروبي لا يوجد في وضع قوي يسمح له برفض هذا المسار، ولم يُبلغنا أي مطالب بهذا الشأن”.

لكن البيان الذي أصدرته المفوّضية الأوروبية عقب الإعلان عن الخطة السويسرية الجديدة، لا يبدو منسجما وتوقعات الوزير السويسري. وإذا كانت بروكسل ترحب “بإعلان الشريك السويسري عن عدم رغبته في ودائع مالية غير معلنة”، فإنها “ترفض رفضا قاطعا تهرّب سويسرا من التزاماتها، عبر اللجوء إلى صيغة الإتفاقيات الثنائية الإنفرادية”، قبل أن يحذّر البيان أن “من شأن هذا الخيار أن يُضعف من فرص إبرام اتفاقية شاملة بين الإتحاد الأوروبي وسويسرا”.

شفافية واستقرار

من جهة أخرى، وانسجاما مع الخطة المالية التي أقرتها الحكومة الفدرالية في ديسمبر 2009، كشف هانس رودولف ميرتس يوم الخميس 25 فبراير عن جملة من المبادئ التي يعتقد أنها كفيلة بضمان شفافية الساحة المالية السويسرية، وتحقيق استقرارها.

وفي هذا السياق شدد الوزير على أن “سويسرا لا ترغب في استقبال أموال لم تستخلص عنها مستحقاتها الضريبية”، وكرّر ما أكده مرات عديدة سابقة من أن بلاده “ملتزمة باحترام المعايير التي وضعتها العام الماضي منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية في المجال الضريبي”.

وحتى الآن نجحت الحكومة السويسرية في توقيع اتفاقيات ثنائية لمنع الازدواج الضريبي مع 18 بلدا، خمسة منها مطروحة على أجندة البرلمان لمناقشتها وإقرارها في دورة الربيع (من 1 إلى 19 مارس)، مع تلويح بعض المعارضين لها بإطلاق مبادرة شعبية تطالب بعرضها على الناخبين في استفتاء شعبي عام قبل الشروع في تنفيذها.

التبادل التلقائي للمعلومات.. خط أحمر؟

حول هذه النقطة أيضا، بدا وزير المالية خلال حديثه حاسما وقاطعا في رفض أي تبادل تلقائي للبيانات المتعلقة بالحسابات المصرفية للمودعين الأوروبيين في المصارف السويسرية. وبصراحة شديدة، أوضح هانس رودولف ميرتس أن “التبادل التلقائي للمعلومات سوف يمثّل إن حدث نهاية السر المصرفي، وسوف يُلحق ضررا بالغا بالساحة المالية السويسرية”.

أما المفوّضية الأوروبية، فلا يبدو انها مقتنعة بجدوى هذا المسار، حيث ترى بروكسل أنه من “المفيد الاستمرار في المسار الذي خطّته من قبل، والقاضي باتباع وتنفيذ نظام للتبادل التلقائي للمعلومات في المجال الضريبي، مع التزام المرونة الممكنة والمطلوبة”. وتخشى بروكسل أن يؤدي إعلان الحكومة السويسرية الأخير إلى خلط الأوراق في المفاوضات الجارية مع برن حول منع الازدواج الضريبي.

أما على المستوى الداخلي، فقد قوبلت خطة الحكومة بانقسام في مواقف الأحزاب السياسية، وكذلك على مستوى الخبراء والمشتغلين في القطاع المالي. بدءً بالأحزاب التي أبدت مواقف تتراوح بين الرفض والقبول على غرار الحزب الليبرالي الراديكالي الذي أعرب عن ثقته بأن “خيار الإتفاقيات الضريبية الثنائية يُعدّ أفضل وسيلة لحماية الساحة المالية السويسرية وضمان استقرارها”، مؤكدا في نفس الوقت أن “الخطوة القادمة يجب أن تكون في إعتماد الضريبة على المنبع (أو المصدر) مع الإتفاق مُسبقا مع البلد المعني على نسبة الخصم”.

على العكس من ذلك، أعرب الحزب الإشتراكي عن خيبته مما طرحته الحكومة، مشيرا إلى فشلها في اقتراح حلول مجدية تضمن حماية الساحة المالية ومصالح البلاد الإقتصادية، وبالنسبة للإشتراكيين: “لم يفعل ميرتس سوى تكرار عبارات عامة، والحكومة بصدد إضاعة فرصة إعادة هيكلة الساحة المالية بطريقة أسلم لا تعتمد في نجاحها على الأموال “الرمادية”.

المزيد

المزيد

السر المصرفي

تم نشر هذا المحتوى على يضمن السر المصرفي لحرفاء البنوك السويسرية، أن تظل المعلومات التي تخصّـهم محفوظة طي الكتمان وأن لا يتم تحويلها إلى أطراف خاصة أو إلى جهات إدارية. في المقابل، هناك حدود واضحة للسر المصرفي، فعلى سبيل المثال، يمكن أن يتم رفعه عندما يقوم القضاء بالتحقيق حول أنشطة إجرامية محتملة. لكن لا مجال لرفع السر المصرفي في حالة…

طالع المزيدالسر المصرفي

تقاطع التقييمات لدى المهنيين والخبراء

هذا الإستياء الداخلي والخارجي، يقابله أيضا تباين للمواقف لدى المصرفيين والخبراء من جهة ترحيب وإشادة من طرف المصرفيين، كإيفان بيكتات، رئيس مؤسسة “جنيف ساحة مالية” الذي يرى أن “إعلان الحكومة رفض إستقبال الأرصدة غير المعلنة هو في النهاية ليس إلا تأكيد للتغيير الذي حصل بالفعل يوم 13 مارس 2009، والمتمثل في إلغاء التمييز الذي كان قائما بين التهرّب الضريبي والغش (أو التحيل) الضريبي بالنسبة للمُودعين الأجانب”. أيضا لا يخفي ميشال ديروباي، أمين عام جمعية المصرفيين السويسريين الخواص بجنيف دعمه لخطة الحكومة ويؤكد: “نحن ندعم الخط العام الذي رسمته الحكومة”.

ومن جهة أخرى عبرت بعض الصحف السويسرية الصادرة يوم الجمعة 26 فبراير، عن مؤاخذات عديدة، وعلت أصوات منتقدة لخطة الحكومة، حيث علّق أحد العاملين في قطاع الإستثمار المالي بجنيف على القناة الإخبارية الأمريكية CNBC قائلا: “سويسرا تقول إنها لن تقبل مستقبلا ودائع مالية غير معلنة في مصارفها. هذه الكلمات تكلّف سويسرا المليارات، لم يبق أمام الأثرياء الأجانب إلا التوجّه إلى الولايات المتحدة أو إلى بريطانيا وسنغافورة، وهونغ كونغ. إنه ضرب من التخريب”.

هذا الرأي يشاطره أيضا رجل القانون فليب كينال، الذي علّق بعد إطلاعه على الخبر بالقول: “اليوم دُفن السر المصرفي، والخطوة التي أعلنت عليها الحكومة هي بمثابة الكارثة”، ويتساءل هذا الخبير: “إذا كنتم لا تقبلون بالأموال غير المعلنة، ما هو البديل الذي أعددتموه لذلك؟”

ويرى كينال أن سويسرا أضاعت فرصة حلّ مشكلاتها مع الإتحاد الأوروبي على المدى البعيد، واعتبر أنه كان “بإمكانها أن تطلب أثناء التفاوض حول التبادل التلقائي للبيانات المصرفية مرحلة انتقالية توفّر وقتا كافيا للحرفاء وللمصارف على السواء لكي تعدّل من قواعد عملها وتتهيأ لمرحلة تحكمها قواعد لعبة جديدة”.

أخيرا، تكمن أهمية هذا الملف وما يثيره من جدل ونقاش على الساحة السويسرية في أنه يتعلق بالساحة المالية وقطاع الإستثمار المالي، وهما عصبا الإقتصاد السويسري، حيث تشير بعض التقذيرات الأصول المالية الغير المعلنة والمُودعة في سويسرا بما يناهز 760 مليار فرنك سويسري (حوالي 700 مليار دولار أمريكي).

swissinfo.ch

دعت بلجيكا سويسرا يوم الجمعة 26 فبراير 2010 إلى الإقتداء بها وإلغاء السر المصرفي حتى لا تبقى بلدا جاذبا للمتهربين من دفع الضرائب من رعايا البلدان المجاورة.

ونقل عن ديديي ريندار، وزير المالية البلجيكي قوله: “ما يُقال عن لكسمبورغ ينطبق ايضا على سويسرا. الكثير من البلدان تتابع ما يحصل في سويسرا، لأن هذه البلدان مقتنعة تماما أن الأموال المودعة في مصارفها غير معلنة وتم إخفاؤها عن الهيئات الضريبية فيها”.

وأضاف الوزير البلجيكي: “إذا تبيّن حقا ان 9/10 من اصحاب الودائع في المصارف السويسرية يجب أن يتابعوا قضائيا بسبب عمليات تهرّب ضريبي، ألا يجب على برن ان تطرح السؤال: إلى متى ستظل تحمي ساحة مالية تجذب وتغري المتهربين من الضرائب في بلدانهم؟”.

ويذكر أن بلجيكا قد أوقفت بداية من فاتح يناير 2010 العمل بالسرية المصرفية، وقبلت بالتبادل التلقائي (أو الآلي) للبيانات المصرفية مع العالم الخارجي، ومع شركائها الأوروبيين خاصة.

لكن بلدان أوروبية اخرى مثل النمسا ولكسمبورغ لا تزال متمسكة بالسر المصرفي، وترفض التبادل التلقائي (أو الآلي) للبيانات خوفا من ان يؤدي ذلك إلى هروب الأرصدة المالية من مصارفها إلى المصارف السويسرية.

في نفس الوقت كشف إستطلاع للرأي أجرته مؤخرا جامعة زيورخ أن 62% من الشعب السويسري يرفضون إلغاء السر المصرفي.

أعلنت إدارة الضرائب الإيطالية والشرطة المالية أنهما فتحا تحقيقا عدليا يشمل 2000 إيطالي متهمين بالتهرب الضريبي وإخفاء ما يزيد عن ملياري دولار في مؤسسات مالية في الخارج ما بين سنتيْ 2007 و2008.

وتهدف هذه العملية حسب إدارة الضرائب الإيطالية إلى إسترداد مبالغ مالية طائلة تم اكتشافها في الملاذات الضريبية، وحرم منها الوطن الأم.

ويوم الجمعة 26 فبراير، حذر المسؤولون في الضرائب الإيطالية من أن “العقوبات التي سوف تسلط على مرتكبي التهرّب الضريبي سوف تكون قاسية جدا”.

وطبقا للمراقبين توجد النسبة العالية من هؤلاء الذين شملهم هذا التحقيق في ضواحي روما وفي المناطق الشمالية بإيطاليا، وهي من المناطق الثرية في البلاد.

ويُشار على أن إيطاليا قد كثّفت في الأشهر الاخيرة، وتحت ضغوط الازمة المالية العالمية، من جهودها في مكافحة التهرّب الضريبي بالتزامن مع إعلانها عن عفو ضريبي يهدف على تشجيع رعاياها على إعادة أرصدتهم إلى مصارفها أو أداء مستحقاتهم الضريبية.

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية