مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

لماذا تنفجر “فقّـاعات” النظام المالي العالمي؟

Keystone

إنه الانهيار الثالث الذي يستجد خلال ثلاث سنوات في بنية النظام المالي الأمريكي - العالمي.

فبعد انفجار فقاعة “الدوت. كوم” (المضاربة في قطاع تكنولوجيا المعلومات) وذوبان قطاع العقارات، يأتي الآن إفلاس مصارف كبرى، كانت مرتبِـطة بمضاربات مالية ضخمة في هذه المجالات.

بداية الأزمة الجديدة في “وول ستريت” انطلقت مع إعلان مؤسسة مالية عملاقة، هي “ليمان براذرز” عن إفلاسها الوقائي، وهذه كانت بداية رمزية خطرة، لأن هذه المؤسسة العريقة كانت من الشركات القليلة التي نجت من مذبحة الكساد الكبير في عام 1929، وتعتبر من أقدم المؤسسات المالية الأمريكية، التي تأسست في القرن التاسع عشر، وهذا ما أكّـد تنبُّـؤات ألن غرسيبان، رئيس الاحتياطي الفدرالي الأمريكي السابق، بأن مؤسسات مالية كُـبرى جديدة ستسير على درب “ليمان براذرز”.

جذور الأزمة

لكن، ما أسباب هذه الأزمة؟ وهل هي عابرة سببها اضطراب سوق العقار أو انفصال الاقتصاد المالي عن الاقتصاد الحقيقي أو انخفاض، ثم ارتفاع أسعار الفائدة أو “مجرّد حركة تصحيحية في الأسواق المالية”، كما قال الرئيس الأمريكي بوش قبل يومين؟ أم أنها معضلة بنيوية (كما ترى “فاينانشال تايمز” الرأسمالية) سببها الأعمق العولمة النيو – ليبرالية المُنفلتة من عقالها والفجوة التي لا تني تتوسّع في داخل الدول بين الفقراء والأغنياء، والتضخم الكبير في أسعار المواد الغذائية والطاقة؟

أنصار الرأسمالية الليبرالية يعتقدون جازمين بأنها أزمة عابرة ويتساءلون: ألَـم يشهد النظام الرأسمالي مرات عديدة طيلة المائتي سنة الماضية من عمره، سلسلة أزمات دورية كان يخرج منها دوماً، ليس فقط سالماً، بل أقوى؟ أليست الأزمات تعبيرا عن السرّ الكبير الذي يمنح النظام الرأسمالي طاقته الهائلة على التجدّد والانبعاث من جديد “كما مع مصاصي الدّماء الذين يقومون دائماً من الموت”، على حدّ تعبير كارل ماركس، وهو: “التدمير الخلاق”؟

بعد كل من أزمات 1876 و1929 و1971 و1997-1998 و2001، كان النظام الرأسمالي يعايِـن الدورة التقليدية انتعاش – ركود – انتعاش، ويثبّـت أقدامه بعدها بشكل أفضل.

كل هذا قد يكون صحيحاً، لكن الصحيح أيضا أن الأزمة الرّاهنة قد لا تشبه تماماً الأزمات السابقة. كيف؟ خلال حقبة العولمة النيو – ليبرالية التي بدأت في سبعينات القرن العشرين، مرّت المراكز الرأسمالية الكبرى، خاصة الولايات المتحدة، بعملية “لا تصنيع” أو نزع التصنيع (deindustrialization)، انتقلت بموجبها الرأسمالية الغربية من الاعتماد على الأسواق المحلية – القومية إلى الشكل المُـتعولم الحالي من العولمة عبر نقل الصناعات الثقيلة الملوّثة إلى الصين والهند وغيرهما.

وترافق ذلك مع “تحرير” أسواق المال ونزع كل القيود المنظَمة لها، مما أدّى إلى هجرة جماعية للرساميل إلى “الجنّات الآسيوية” وأيضاً إلى تقسيم عمل دولي جديد: التكنولوجيا المتطورة والبحث والتطوير والسلع “الخاصة” (الخدمات المالية) في المراكز الرأسمالية والعمليات الصناعية التقليدية في الأطراف.

هذا التطور لم يؤدِّ فقط إلى خلق بطالة واسعة النِّطاق في الغرب، بل أيضاً إلى توسّـع هائل للأسواق المالية التي تعولمت بسرعة، فبات القطاع المالي في بريطانيا، على سبيل المثال، مسؤولاً عن نصف النمو الاقتصادي، وكذا الأمر بالنسبة للقطاع المالي – العقاري في أمريكا حتى عام 2006، وكِـلا القطاعين اعتمدا بشكل كامل على المضاربة وليس على الاقتصاد الحقيقي.

لقد قال المحلِّـلان اليساريان جون سارغيس وتاكيس فوتوبولوس، إن ظاهرة سيطرة الطبقة المالية – المصرفية حوّلت الرأسمالية من “نظام” اقتصادي يستند إلى قواعد تنظيمية واضحة، إلى “فوضى” كازينو القمار الذي يقوم على مبدإ “المخاطرة الكبيرة لتحقيق الأرباح الكبيرة”.

ومرة أخرى، هذا ليس تطوّراً جديداً، لكنه مع ذلك يتضمّـن عاملا جدّةً في غاية الأهمية: “الكازينو” الآن لم يعُـد قصراً على المراكز الرأسمالية الكبرى، بل هو أصبح “كوكبياً”، أي يَـطال الكرة الأرضية كلها، وأزمته الراهنة تنذر بركود، وربما كساد عالميين كبيرين هذه المرّة.

“الجهاد في مواجهة ماكوورلد”

في كتابه الشهير “الجهاد في مواجهة ماكوورلد”، الذي أحدث ضجّـة كبرى في أمريكا، يرسم بنجامين باربر خطوط هذه الأزمة على النحو الآتي:

– الأصولية الرأسمالية (التي يسميها هو “ماكوورلد” تيمناً بإمبراطورية المأكولات السريعة)، التي انطلقت بعد نهاية الحرب الباردة، لا تختلف بشيء عن الأصوليات الدينية من حيث تطرّفها ورفضها للآخر.

– هذه الأصولية بدأت تنقلب الآن على الديمقراطية بعد قرون من الهُـدنة معها. لماذا؟ لأن الرأسمالية المتعولمة لم تعُـد في حاجة إلى الدولة – الأمة التي لعبت دور الأم الحاضنة للديمقراطية، وبالتالي، باتت هذه الأخيرة قيداً على الأولى، لا جِـسراً أو معبراً لها.

– الأصولية الرأسمالية، وبسبب سيطرتها الكاسحة على تمويل الإعلام والعمل السياسي، تهدّد الآن بإطاحة أثمن إنجازات البشرية في التاريخ: الديمقراطية نفسها.

وينسج الباحث الاقتصادي الأمريكي راستون سول جون، في دراسة شيِّـقة بعنوان “الديمقراطية والعولمة” على منوال باربر فيقول، إن أخطر ما شهده العالم خلال العقود الثلاثة الأخيرة، هو نجاح الإعلام الأمريكي الذي تُـسيطر عليه الشركات، بتصوير الاقتصاد على أنه قائد المجتمعات، كل المجتمعات، وهذا كان، برأيه، تمهيداً لانقلابات كُـبرى في بنية النظام الرأسمالي.

فبعدها سادت الاحتكارات وانعدم التنافس وسيطرت الاوليغارشيات المالية، بعد إن استغلت الشركات الكبرى شعار الاقتصاد كقائد للقيام بأضخم مركزة لرأس المال في التاريخ البشري عبر عمليات الدمج والضم والابتلاع.

وفي الوقت نفسه، كان أرباب النظام الرأسمالي يتوقَّـفون على أنهم “رأسماليين حقيقيين”، فهم يتشكلون الآن من التكنوقراطيين والبيروقراطيين والمدراء والموظفين، وهؤلاء جميعاً لا يملكون أية أسهم ولا يقدِمون على أية مخاطر. الأسهم الوحيدة التي يملكون، هي تلك التي يحصلون عليها مجّـاناً من الشركات أو عبر استعارة المال من هذه الشركات بدون فوائد.

كل هذه الفئات لا تُـعتبر رأسمالية حقيقية، بل هي بيروقراطية كسولة وكبيرة ومُكلفة، وهي أقرب ما تكون إلى دراكولا مصّـاص الدماء، إذ هي تشتري الشركات الرأسمالية الحقيقية التي لها مالِـكين حقيقيين، الذين لديهم أسهم ويقومون بمخاطر مالية، وبعدها تبدأ هذه الفئات بمصّ دماء هذه الشركات.

وفي خِـضم هذه العملية، تتوقّـف الاقتصادات عن التطور وتنهار الاقتصادات المختلطة، لأن الشركات العملاقة تشتري شركاتها في وقت مبكّـر، وهذه العملية، إضافة إلى فساد طبقة المدراء – البيروقراطيين، هما الآن سبب كل من الأزمة الرأسمالية والأزمة الديمقراطية راهناً.

الأرقام تدعم تماما مخاوف بنجامين باربر وشكاوى راستون سول جون:

– فهناك الآن خمس شركات عملاقة تُـسيطر على 50% من الأسواق العالمية في مجالات صناعات الفضاء والمكونات الإلكترونية والسيارات والطائرات المدنية والفولاذ والالكترونيات.

– وهناك خمس شركات أخرى، تسيطر على 70% من السلع الاستهلاكية ذات الديمومة.

– وثمة خمس شركات غيرها تهيمن على 40% من النفط والعقول الإلكترونية الخاصة والإعلام، و51% من أكبر الاقتصادات في العالم اليوم، هي شركات لا دُول.

– مبيعات 200 شركة، تمثّل 28،3% من الإنتاج الخام العالمي.

كل هذه الأرقام تعني ببساطة، أن السوق العالمي الموحّـد ومعه القرية العالمية وحتى مفهوم الحضارة العالمية الواحدة، سيكون عمّـا قريب “مِـلكية خاصة” لحفنة من البشر قد لا يتجاوز عددهم عدد مجالس الإدارة في واحدة من الشركات الخمس المذكورة أعلاه.

إلى أين؟

هل تعني كل هذه المعطيات أن الرأسمالية باتت في خطر؟ كلا أو على الأقل ليس بعدُ. صحيح أن ثمة أصوات تتعالى الآن في فنزويلا وبوليفيا وباقي أمريكا اللاتينية، تدعو إلى استبدال الرأسمالية بالاشتراكية، لكن هذه القوى لا تشكّـل لا بديلاً ولا نداً للرأسمالية، كما كان الأمر مع الاتحاد السوفييتي. التحدّي الحقيقي لها يأتي من قلبِـها، أي من أوروبا التي ترفض قطاعات واسعة فيها الرأسمالية في طبعتها الأنغلو – ساكسونية المتطرفة.

الدليل؟ أنه الاستطلاع الذي أجرته مؤخراً “فاينانشال تايمز” ومؤسسة هاريس في أوروبا، والذي خرج بالخلاصات الرئيسية التالية:

1- ثلثا الفرنسيين قالوا إن الاقتصاد الأوروبي الموحّـد لن يستطيع الدخول في منافسة فعّـالة مع الاقتصادات الصّـاعدة في آسيا، مثل الصين والهند. النسبة المؤيدة لهذا الرأي، كانت مرتفعة في الدول الأوروبية الرئيسية الأخرى: 56% في إيطاليا و45% في ألمانيا و41% في بريطانيا.

2- 87% من الألمان و73% من الفرنسيين و58% من الإسبان و46% من الإسبان والإنجليز، يرفضون تقليد الرأسمالية الأمريكية، لأنها “عنيفة ومتوحشة” ولا تأخذ في الاعتبار الضمانات الاجتماعية للمواطنين.

3- غالبية المواطنين الأوروبيين يعتقدون أن الشركات الدولية متعدّدة الجنسيات، أكثر قوة من الحكومات الأوروبية، وأنه يتعَيّـن على هذه الأخيرة أن تعمل على مُـقاومة هذه الحيتان الاقتصادية الضّـخمة، لضمان حقوق العمال والموظفين والطّـبقة الوسطى.

محصلات مهمة؟

أجل. حتماً. فليس هيِّـناً أن يرفض الأوروبيون قواعد العمل الرأسمالية الأمريكية، على الرغم من أنها تقَدم الآن على أنها المفتاح الوحيد لفتح أبواب العولمة التي من دونها لا نُـمو ولا توَسّـع اقتصاديين. مواطنو القارّة القديمة يريدون الحفاظ على مكتسباتهم الاجتماعية، التي ضحّـى بأرواحهم من أجلها عشرات الملايين من أجدادهم عبر الثورات والانتفاضات التي حدثت على مدى السنوات الأربعمائة الماضية. وإذا ما كان ثمن هذه المحافظة، التأخّـر عن اللِّـحاق بركب العولمة، فليكُـن.

وأخيراً، مطالبة هؤلاء المواطنين لحكوماتهم بالتصدّي لجَـبروت الشركات متعدّدة الجنسيات، والتي هي أساس الرأسمالية العالمية في حلّـتها المتعولمة، ربما يكون مؤشراً على أنهم سيكونون على استعداد لدعم أو حتى قيادة أية ثورة اجتماعية عالمية جديدة قد تنشب قريباً أو بعد حين ضدّ ما يسمّـونه هم “الرأسمالية المتوحشة”.

أوروبا إذن، تتمخّـض. وعلى الرغم من أن هذا المخاض يبدو سلبياً، إلا أنه قد يسفِـر في النهاية عن محصّـلات إيجابية، إذا ما برز من بين الصفوف الأوروبية فلاسِـفة جُـدد ومُـنَظرون إستراتيجيون ومؤرخون مُـبدعون، يعملون على إعادة صياغة دور أوروبا في التاريخ، بعيداً عن إملاءات النخبة البيروقراطية الحاكمة في بروكسل (والتي تخدم في الدرجة الأولى مصالح الشركات متعدّدة الجنسيات والمصارف العالمية)، وقريباً من متطلبات عولمة إنسانية جديدة تستند إلى نظام عالمي جديد مغاير.

قد لا يبدو هذا الانقلاب وارداً في هذه المرحلة، لكن يجب أن لا ننسى هنا أن أوروبا اشتهرت على مدار التاريخ بعُـنفها الشديد وثوراتها وحروبها الأشد، وهذا ما يجعل المفاجآت الانقلابية واردة في كل حين، خاصة لدى مواطني فرنسا وألمانيا وإيطاليا.

ومن يدري؟ ربما يكون استطلاع فاينانشال تايمز\هاريس الخطير، أولى إرهاصات هذا النوع من المفاجآت، التي قد لا تبقى طويلاً مفاجآت، إذا ما ثبت للجميع أن الأزمة المالية الأمريكية – العالمية الجديدة ليست مجرّد سحابة صيف عابِـرة، كما يعتقد الرئيس بوش.

سعد محيو – بيروت

فبراير 2007: الولايات المتحدة تشهد ارتفاعا كبيرا في عدم قُـدرة المقترضين على دفع مستحقات قروض الرهن العقاري، ما أدّى إلى أولى عمليات إفلاس مؤسسات مصرفية متخصصة.

يونيو 2007: مصرف الاستثمار الأمريكي Bear Stearns، هو أول بنك كبير يُـعاني من خسائر قروض الرهن العقاري.

أغسطس 2007: البنك المركزي الأوروبي يضخّ 94،8 مليار يورو من السيولة، والخزينة الفدرالية الأمريكية تضخّ من جانبها 24 مليار دولار، كما تدخّـلت العديد من البنوك الأخرى، مثل بنك اليابان والبنك الوطني السويسري.

سبتمبر 2007: بنك أنجلترا يمنح قرضا استعجاليا إلى مصرف Nothern Rock لتجنيه الإفلاس، وقد تم بعد ذلك تأميمه.

أكتوبر 2007: مصرف يو بي إس السويسري يُـعلن عن انخفاض قيمة موجوداته بـ 4 مليار فرنك.

يناير 2008: الخزينة الفدرالية الأمريكية تُـخفِّـض نسبة الفائدة الرئيسية بثلاثة أرباع النقطة، لتصل إلى 3،50%، وهو إجراء وصفه الخبراء بأنه ذو بُـعدٍ استثنائي.

مارس 2008: الخزينة الفدرالية الأمريكية تقول إنها مستعدّة لتقديم مبلغ يصل إلى 200 مليار دولار إلى مجموعة محدودة من البنوك الكُـبرى.

مارس 2008: العملاق المصرفي الأمريكي JP Morgan Chase يُـعلن شراءه لمصرف Bear Stearns، الذي يعاني من صعوبات، وهي العملية التي حظيت بدعم مالي من طرف الخزينة الفدرالية الأمريكية.

يوليو 2008: الضغط يشتدّ على مؤسستي Freddie Mac وFannie Mae الأمريكيتين المتخصصتين في إعادة تمويل القروض العقارية، والخزينة الأمريكية تُـعلن عن خطّـة لإنقاذ القطاع العقاري.

أكتوبر 1929: فقد مؤشر داو جونس 40% من قيمتة في أسبوع، ليدشن مرحلة كساد عميق.

أكتوبر 1987: خسر نفس المؤشر قرابة 23% من قيمته في يوم واحد، ثم تلته معظم المؤشرات.

أكتوبر 1997: أثر تراجع مفاجئ لبورصة نيويورك على البورصات الدولية، وفقدت أسعار الأسهم 8% من قيمتها في يومين.

30 سبتمبر – 2 أكتوبر 1998: تسبب الخوف من الانكماش في انهيار قارب 13% في ثلاثة أيام.

11 سبتمبر 2001: أدت الهجمات الإرهابية على الولايات المتحدة في تراجع البورصات الأوروبية بأكثر من 7%. وظلت بورصة وُول ستريت مُغلقة لعدة أيام.

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية