هل تمكنت سويسرا فعلا من إنقاذ سرّها المصرفي هذه المرة؟
قبل نحو عامين، بدا أن السرية المصرفية التي ميّزت سويسرا لعقود طويلة، تواجه مأزقا حقيقيا في ظل احتمالات ضعيفة لبقائها على قيد الحياة على وقع سلسلة من الهجمات المركزة عليها من طرف الولايات المتحدة وأوروبا. واليوم يبدو أن المفاوضات المرتقبة حول اتفاقيات ضريبية جديدة مع بريطانيا وألمانيا قد أدت إلى تخفيف الضغوط المسلطة على أهم مقومات الساحة المالية السويسرية لكن إلى أي مدى زال التهديد فعلا؟
ويعتقد كونراد هوملر، رئيس مصرف Wegelin، أقدم البنوك الخاصة في سويسرا أن المحادثات مع البلدين النافذين – التي تتركز حول اقتطاع رسوم من المصدر بدلا من اللجوء إلى آلية التبادل التلقائي للمعلومات الجبائية – ستُبقي على السرية المصرفية بدون تغيير.
وفي تصريحات أدلى بها إلى صحيفة تاغس أنتسايغر (تصدر بالألمانية في زيورخ) قال هوملر: “لقد تم فصل حماية الخصوصية عن طريق السر المصرفي تماما عن مسألة الجباية”، بل ذهب إلى أن “السرية المصرفية قد تعززت أكثر لأنها لم تعد محل اشتباه بتغطة ممارسات مخالفة للعدالة”.
وتتمثل هذه الممارسات غير العادلة المفترضة في أن السرية الصارمة التي تُحيط بهوية المتعاملين مع النظام المصرفي السويسري بصدد حرمان بريطانيا وألمانيا وبلدان أخرى من إمكانية الحصول على معلومات مفصلة ودقيقة من سويسرا لدى قيامها بتحقيقات تشمل عمليات التهرب الضريبي.
وفي الوقت الحاضر، يبدو أن السلطات الألمانية والبريطانية تتجه للقبول بالحل (أو التسوية المقترحة) المتمثل في قيام المصارف السويسرية بتحصيل الضرائب السابقة التي لم تُسدد والرسوم المقبلة عن الودائع الموجودة في الحسابات المصرفية لمواطني البلدين ومراقبة محاولاتهم للتهرب الجبائي في سويسرا عوضا عن تسليم الأسماء والمعطيات المتعلقة بهذا الصنف من الحرفاء.
“الإنسحاب من المعركة”
في الأيام الأخيرة، اتهم ريتشارد مورفي، العضو في “مرصد الأبحاث حول الجباية في المملكة المتحدة”، في مقال نشره على مدونته الشخصية السلطات البريطانية بـ “التخلي عن التصدي للجنان الضريبية”.
وأضاف أنه “لم تُـقـدّم معطيات حول الكيفية التي سيتم بها تسوية أوضاع هذه الحسابات، بل لا يوجد أيّ احتمال للقيام بذلك لأنه لن يتوجب على السويسرين الكشف عن هويات الأشخاص الذين أودعوا 40 مليار جنيه استرليني (حوالي 63 مليار فرنك سويسري). وفي هذه الحالة لا يُوجد أي احتمال لتحصيل فوائد أو غرامات لفائدة المملكة المتحدة”، حسب رأيه.
مع ذلك، وقبل أن يتمكن الصيارفة السويسريون من إطلاق زفرة ارتياح جماعية احتفاء بإنقاذ سريتهم العزيزة، سارع الإتحاد الأوروبي إلى التحذير من أنه لن يُسمح للإتفاقات المقترحة مع ألمانيا وبريطانيا بأن تحظى بالأولوية على مطالب الإتحاد الداعية إلى إقرار التبادل التلقائي للمعلومات الجبائية.
وفي بروكسيل قالت إيمير تراينور، المتحدثة باسم ألجيرداس سيميتا، المفوض الأوروبي للجباية: “لدينا تطمينات من ألمانيا وبريطانيا بأنهما تؤيدان تماما سعينا إلى إقرار تبادل تلقائي للمعلومات داخل الإتحاد الأوروبي وإلى الترويج له على أوسع نطاق باعتباره نظاما لتبادل المعلومات وعلى المستوى الدولي إن أمكن”. وأضافت المتحدثة: “وفي صورة وجود تعارض، فإن القانون الأوروبي يحظى دائما بالأولوية على الإتفاقيات الثنائية”.
سويسرا.. أفلتت مجددا
وإذا ما صح هذا الكلام فإنها ستكون بمثابة أخبار سيئة لسويسرا لأن تبادلا تلقائيا للمعلومات الجبائية سيؤدي حتما إلى شن هجوم على السرية التي تحيط بالهوية الشخصية لأصحاب الحسابات في مصارف الكنفدرالية.
ولكن – على الرغم من هذا التهديد الجدي – يبدو أن وجهة الرياح تهب الآن لصالح سويسرا منذ أن وجد البلد نفسه تحت الحصار منذ بداية عام 2009 عندما اعترف مصرف يو بي اس بمساعدة واستقطاب متهربين أمريكيين من الضرائب، وحينما أرغمت السلطات السويسرية نتيجة للضغوط الدولية المتصاعدة على التعهد بإعادة التفاوض على اتفاقيات الإزدواج الضريبي كي تتطابق مع القواعد التي بلورتها منظمة التعاون والتنمية الإقتصادية.
ويعتقد توبياس شتراومان، المؤرخ السويسري المتخصص في الشؤون المالية من جامعة زيورخ أنه على عكس الولايات المتحدة التي تم فيها القضاء على القطاع المصرفي غير المقيم (Offshore banking)، فإن سويسرا نجحت مرة أخرى في الإفلات من تبعات تشريع مماثل لقانون Houdini في أوروبا. وذكر المؤرخ بأن السرية المصرفية السويسرية تعرضت لهجمات مماثلة في السابق دون أن يتمكن أي منها من توجيه ضربة قاضية لها.
التهرب الضريبي.. لن يتوقف!
وعلى غرار ما حدث في الماضي مع الشكاوى الدولية المتعلقة بالذهب المنهوب في الفترة التي شهدت حدوث المحرقة اليهودية (الهولوكوست) وعمليات تبييض الأموال، أدى الجدل القائم حول التهرب الضريبي إلى “قصقصة أجنحة” السرية المصرفية لكن دون القضاء عليها تماما.
وفي تصريحات لـ swissinfo.ch قال شتراومان: “التهرب الضريبي أكثر تعقيدا من غسيل الأموال لأن حجم الودائع المعنية (بالظاهرة) أوسع بكثير حيث لم تقتصر المسألة هذه المرة على بلدان العالم الثالث”، لكنه استدرك ليشير إلى أنه “إذا ما نظرنا إلى الجانب التاريخي، نجد أنه تم العثور في كل مرة على حل”.
ويعتقد شتراومان أن ألمانيا وبريطانيا أبديا قدرا أكبر من الجهد للبحث عن “حل وسط” مقارنة بالولايات المتحدة بسبب قربهما الجغرافي من سويسرا. وقال لـ swissinfo.ch “سيكون هناك دائما إقبال على التهرب الضريبي، ولا تتعلق المسألة إلا بالكيفية التي تتعاطي بها البلدان مع الظاهرة”، وأضاف: “لقد تسامحت أوروبا في الماضي (مع هذه الظاهرة) لأن جيراننا يعرفون أن الأموال التي لم تخضع للجباية سترحل إلى مكان أبعد إذا ما منعُوها من القدوم إلى سويسرا”.
خلاصة القول، أن الزمن وحده كفيل بالكشف عن الكيفية التي ستتطور بها الإتفاقيات الضريبية المرتقبة مع ألمانيا وبريطانيا والطريقة الذي سيردّ بها الإتحاد الأوروبي على ذلك، لكن المراقبين في سويسرا يعتقدون أن “المرحلة الأسوأ من الأزمة قد فاتت بعدُ”.
تم ترسيخ السر المصرفي في القانون السويسري في عام 1934.
على مدى الأشهر الثمانية عشرة الماضية، اتُّـهِـمت سويسرا عدة مرات بتسهيل التهرّب الضريبي.
في أبريل 2009، أدرجت منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، سويسرا على “القائمة الرمادية” للجنان الضريبية.
في سبتمبر 2009، سُـحِـب اسم سويسرا من القائمة، بعدَ أن أعادت التفاوض حول 12 اتفاقية للازدواج الضريبي، لكنها رفضت أي تحويل تِـلقائي للمعلومات المصرفية، في غياب أدلّـة بارتكاب جريمة مُـحقّـقة.
في الفترة نفسها، عرضت عدة بلدان، من بينها إيطاليا وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، على مواطنيها عفوا جبائيا من أجل استعادة أموالهم التي تمّ تهريبها من مصالح الضرائب.
تعلّـقت أخطر القضايا بمصرف يو بي إس، الذي حُـكم عليه في فبراير 2009 بدفع غرامة تبلغ قيمتها 780 مليون دولار، لمساعدته عُـملاء أمريكيين على التهرب من الجباية. إضافة إلى ذلك، أجبِـر المصرف على تحويل مُـعطيات تتعلق بـ 285 مواطن أمريكي، فتحوا حسابات لديه.
في سبتمبر 2010، وافقت الحكومة السويسرية على تسليم مصالح الجباية الأمريكية، المُـعطيات الخاصة بـ 4450 حريف لدى مصرف يو بي إس، وهو إجراء ينتهك السر المصرفي، وذلك لتجنيب مصرف يو بي إس محاكمة مُـكلفة في الولايات المتحدة.
في الأشهر الأخيرة، قامت السلطات الألمانية بشراء عدة أقراص مضغوطة، تشتمل على معطيات مصرفية مسروقة لحرفاء ألمان في مصارف سويسرية.
يتوقّـع المراقبون أن تُـسفر المفاوضات المقبلة بين سويسرا وألمانيا، إلى إبرام اتفاق يُـنشِـئ ضريبة إبرائية جديدة من المصدر تُـقتطع من ودائع الحرفاء الألمان لدى المصارف السويسرية.
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.