ما بعد صدمة تعديل الدستور المصرى
انطلقت بعدُ في مجلس الشعب المصري الخطوات الأولى للتعاطي البرلماني مع الإقتراح المفاجئ الذي أعلن عنه الرئيس حسني مبارك يوم السبت 26 فبراير الماضي.
وفيما سيتغير أسلوب اختيار رئيس البلاد من الإستفتاء على اسم واحد يوافق عليه ثلثا نواب البرلمان إلى الإقتراع الشعبي السري المباشر للإختيار من بين أكثر من مرشح، تبدو المعارضة المصرية في “ورطة”.
لم يكن اكثر الحالمين تفاؤلا يتصور أن الرئيس المقبل لمصر سيأتى بالانتخاب الحر المباشر بين اكثر من مرشح، فكل المؤشرات السابقة بما فيها تأكيدات الرئيس مبارك نفسه كانت تؤكد على أن لا تغيير فى أسلوب الاستفتاء على الأقل للمرة المقررة فى سبتمبر من العام الجارى.
وبينما استقرت الحالة السياسية والحزبية على وقع الاستفتاء الرئاسى المنتظر يليه انتخابات البرلمان بعدها بشهر تقريبا، إذا بمبادرة رئاسية تعيد خلط الأوراق على نحو كبير، قوامها التحول إلى الانتخابات الرئاسية بين اكثر من مرشح، ولكن وفق ضوابط معينة اقترحها مبارك نفسه لضمان جدية المرشحين ومجمل العملية الانتخابية.
يذكر هنا أن هذه ستكون أول انتخابات رئاسية تشهدها مصر فى تاريخها الحديث كله. فطوال العقود الستة الماضية التالية لثورة يوليه 1952 لم يكن هناك سوى أسلوب الاستفتاء لاختيار رئيس البلاد. وقبل الثورة ولمدة ثمانية عقود سابقة لم تكن هناك سوى انتخابات برلمانية لم تعرف النزاهة سوى مرتين فى العامين 1923 و1950.
“القرار – الصدمة”
لقد شكلت مبادرة مبارك صدمة كبرى من حيث التوقيت والمضمون لكل العاملين فى الحقل السياسى والحزبى، ولكل المتابعين للشأن المصرى فى الخارج والداخل. فيما يعيد إلى الأذهان بعض سلوكيات الرئيس السابق أنور السادات ( 1970 ـ 1981) القائمة على اتخاذ قرارات صادمة شكلا ومضمونا، وبحيث تضع الجميع أمام استحقاقات لم تكن متخيلة وفقا للمعادلات القائمة.
الأمر نفسه ينطبق على قرار تعديل المادة 76 من الدستور المصرى من الاستفتاء إلى الانتخاب السرى التعددى، وبما أن الأمر لم يكن حصيلة حوار وطنى عام، فإن التعديل المرتقب سيظل مرتبطا من الناحية التاريخية بقرار رئاسى أولا وأخيرا، أما تداعياته فتشمل الجميع بلا استثناء.
والناظر للحالة السياسية المصرية التى تلقت قرار التعديل دون أى نوع من التمهيد، يلمح فيها قدرا من الارتياح الممزوج بالحذر والترقب. والارتياح يمكن إعادته إلى أن مطلب تعديل الدستور هو مطلب شعبى وحزبى بامتياز، طالما نادت به الأحزاب وكثير من المنظمات الحقوقية غير الحكومية، وبما يجعل تعديل المادة 76 من الدستور تلبية ـ ولو بطريق غير مباشر ـ لمطالب شعبية راسخة وضحى من أجلها كثيرون.
أسباب للحذر والترقب
أما الحذر والترقب فيمكن ربطهما بعدد من الأسباب، فأولا أن التعديل المرتقب هو جزئى جدا، رغم أهميته القصوى، ذلك أن هناك مواد أخرى فى الدستور مازالت بحاجة إلى تعديلات جوهرية، ونخص بالذكر هنا المادة 77 التى تطلق مدد اختيار الرئيس إلى ما لا نهاية، فيما تنادى الأحزاب المعارضة والحركة الشعبية للديمقراطية بأن تعدل بدورها لتنص على مدتين رئاسيتين وحسب.
وهناك أيضا المواد المتعلقة بصلاحيات رئيس الجمهورية والتى تشكل ما يقارب 75 % من جملة الصلاحيات التنفيذية لكل المؤسسات الدستورية مجتمعة، والمطلوب تقليصها بما يتناسب مع توسيع دائرة المشاركة السياسية من جانب، وتعزيز أدوار المؤسسات السياسية الأخرى من جانب ثان.
وثانيا هناك مضمون التعديل نفسه والطريقة التى سينتهى إليها فى صورة مادة دستورية يتم بلورتها لأحقا فى قوانين نافذة إليها ليست محددة بعد. ونظرا لان الحزب الوطنى الحاكم له الغلبة الساحقة فى البرلمان الحالى، فالمتصور، وهو ما يمثل أحد مصادر القلق السياسى العام أن يتحول التعديل المرغوب من حيث المبدأ إلى عملية معقدة قد تفقدها مضمونها فى التنافس الحر بين اكثر من مرشح جاد.
وإذا كانت “الضوابط السبعة” التى طالب بها الرئيس مبارك تستهدف ضمان جدية الترشيح ونزاهة العملية الانتخابية ومساحة واسعة جدا من المشاركة الجماهيرية فى اختيار رئيسهم المقبل، فإن العبرة هى فى التنفيذ على الأرض، وذلك اختبار سيظل مؤجلا بعض الوقت حتى يعرف الجميع صيغة التعديل والطريقة التى سيطبق بها.
ويذكر أن من بين الضوابط السبعة الواردة فى كتاب الرئيس مبارك لمجلسى الشعب والشورى عناصر واضحة ولا غبار عليها، بل تشكل ضمانة حقيقية بكل المعانى، من قبيل تشكيل لجنة عليا ذات استقلالية مؤكدة، ولها صلاحيات كاملة لكى تقوم بالإشراف على مجمل خطوات العملية الانتخابية الرئاسية، على أن تضم فى تشكيلها عددا من رؤساء الهيئات القضائية وعددا من الشخصيات العامة، فيما يذكرنا باللجنة العليا للانتخابات فى الحالة الهندية، والتى تمثل نموذجا مضيئا فى هذا الصدد.
تعديلات رئيسية مطلوبة
وفى المقابل هناك عناصر غير واضحة بما يكفى، ومنها أن من يريد الترشيح عليه أن يحصل على تأييد ممثلى الشعب المنتخبين فى المؤسسات الدستورية وفى المجالس الشعبية.
وهذا العنصر تحديدا يفتح الباب أمام وضع قيد، من قبيل تحديد نصاب معين من أعضاء البرلمان مثلا أو من عدة مجالس محلية ليست بالضرورة منتخبة بصورة نزيهة، وبما يحول دون تقدم مرشحين يرون فى أنفسهم صلاحية التقدم لهذا الاستحقاق السياسى المهم، وبحيث يظل البرلمان الخاضع لهيمنة الحزب الحاكم هو وحده المُسيطر على مجمل عملية الترشيح.
وثالثا أن التعديل وحده لا يكفى لتغيير آليات الحياة السياسية على طريق الإصلاح إذا ما استمرت ترسانة القوانين الأخرى المقيدة للعمل السياسى الحزبى على حالها.
ووفقا لما انتهى إليه الحوار الوطنى بين الأحزاب القانونية والحزب الوطنى الحاكم فإن ثمة ضرورة لكى تحدث تعديلات أساسية على قانون الأحزاب الذى يحول فى صورته الحالية دون تواصل الأحزاب مع المواطنين ويمنع من قدرة أى حزب على الانتشار وجذب أنصار جدد، ويضع قيودا جمة على طموحات أى حزب للمشاركة فى السلطة عبر صناديق الانتخابات.
وثمة ضرورة أخرى لتعديل قانون الانتخاب الذى تجرى على أساسه انتخابات البرلمان والمجالس المحلية فى المحافظات، فيما تصر أحزاب المعارضة أيضا على رفع حالة الطوارئ السارية منذ اكثر من ثلاثين عاما، وتشكل بدورها حالة متناقضة مع أى توجه إصلاحى حقيقى.
وبدون هذه التعديلات الرئيسية فى القوانين السارية، قد لا تخرج الانتخابات الرئاسية ـ فى نظر البعض القلق ـ عن تكرار نماذج سياسية أقرب إلى الكوميديا السوداء، كما هو الحال فى بعض نماذج عربية معروفة للكافة، حيث تجرى فيها انتخابات رئاسية تعددية شكلا، ولكنها سلطوية مضمونا.
ويظل هناك أيضا نوع من الترقب لحجم التغير فى السياسة الإعلامية، لاسيما فى الإعلام المرئى الذى تسيطر عليه الدولة، وإلى أى مدى سيكون إعلاما لكل المنافسين المحتملين، وليس إعلاما موجها لنصرة مرشح بذاته.
تحديات بالجملة
هذه العناصر التى تتطلب قدرا من التوضيح وبعضا من التعديلات الجذرية فى قوانين الحياة السياسية لا تنفى أن التحول من الاستفتاء إلى الانتخابات الرئاسية التعددية قد ألقى على عاتق الأحزاب مسئولية كبرى، بما فيها الحزب الحاكم، والذى بات عليه أن يعيد النظر فى نمط التفكير السائد لديه من عقلية الهيمنة المطلقة إلى عقلية المنافسة الحرة.
أما أحزاب المعارضة فهى أقرب إلى أن تكون فى “ورطة” سياسية، فمسألة البحث عن مرشح رئاسى ليست بالمسألة الهينة، خاصة وأن المنافس المحتمل رئيس له سجله الكبير من الانجازات والخبرات والمؤيدين والحضور الدولى.
صحيح أنها طالبت بتعديلات دستورية اكبر، لكنها لم تفكر قط فى أن يصبح أحد هذه التعديلات حقيقة تستحق التفاعل الايجابى، وفى فترة لا تزيد عن ستة أشهر، تتطلب بدورها إنجاز تغييرات كبرى فى أسلوب الممارسة السياسية ومخاطبة المواطنين.
وإذا كان توجه غالبية أحزاب المعارضة هو ترشيح منافس واحد يمثلها جميعا، فلن يخرج ذلك عن إطار التدريب على إدارة منافسة انتخابية رئاسية لم تعتدها الأحزاب من قبل، على أن تدخل فى مرحلة لاحقة بقدر اكبر من الاستعداد والجدية. أو هكذا هو التصور المفترض.
د. حسن أبوطالب – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.