مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

مجازفات ومحاذير إلغاء مراكز التعليم المذهبي

عادت قضية توحيد التعليم في اليمن إلى الواجهة من جديد منذ أن بدأت الحكومة اليمنية بتنفيذ خطة لإغلاق المدارس والمراكز الدينية والمذهبية التي تعمل خارج إطار قانون التعليم الصادر في 1992.

وشرعت صنعاء مؤخرا في اتخاذ خطوات عملية وإجرائية ترمي إلى إخضاع المؤسسات التعليمية إلى رقابة وإشراف وزارة التربية والتعليم.

على خلفية المواجهات التي اندلعت في محافظة صعدة مؤخرا بين القوات الحكومية وحسين بدر الدين الحوثي في يونيو الماضي، كانت الحكومة اليمنية قد أصدرت قرارا قضى بإغلاق المدارس والمراكز التعليمية الدينية والمذهبية.

وتلت تلك الخطوة إجراءات متسارعة من أجل وضع حد لظاهرة التعليم الديني والمذهبي خارج إطار المؤسسات التربوية الرسمية كان آخرها ما أعلنت عنه مؤخرا اللجنة التي شكلت من وزارتي الأوقاف ووزارة التربية والتعليم، والتي أوكل إليها حصر ومتابعة هذا الملف بغية إغلاقه نهائيا. وأسفر عمل اللجنة حتى الآن عن حصر حوالي 941 مدرسة ومركز ديني موزعة على 11 محافظة.

ويبدو أن السلطات اليمنية مصممة هذه المرة على وضع للتعليم الديني والمذهبي الذي تعزى إليه كل مساوئ التطرف، وتأكد ذلك التصميم بما ورد على لسان وزير التربية والتعليم الدكتور عبد السلام الجوفي عندما أعلن في شهر أكتوبر الماضي أن تلك المؤسسات سيطالها “الإغلاق أو الإخضاع لإشراف ومراقبة وزارته”.

مخاطر ومجازفات

ويرى المراقبون أنه على الرغم من سلامة هذا المقصد وأهميته، إلا أنه ينطوي على مجازفات ومخاطر نظرا لما يتسم به التعليم الديني والمذهبي في اليمن من خصوصيات أهمها أنه ارتبط بقوى سياسية ومذهبية متصارعة ليس على الصعيد اليمني فحسب، بل وعلى مستوى العالم الإسلامي برمته الذي تسوده منذ قرون تيارات ومذاهب تقصي بعضها بعضا، وتعيش اليوم نزعة إحيائه لمنطلقاتها المذهبية غير مسبوقة في التأريخ الإسلامي الحديث بفعل التداعيات التي تعرفها المنطقة منذ إعلان الحرب على الإرهاب، والحرب على العراق ناهيك عن ارتباطها بحسابات سياسية من قبل كل الأطراف المعنية في السلطة أو المعارضة.

ويتسم التعليم الديني في اليمن بخصوصية تجعله يختلف كثيرا عن التعليم الشائع في كثير من البلدان العربية كمصر والمغرب وتونس، التي ارتبط فيها بمراكز تعليمية تقليدية كالأزهر والقرويين والزيتونة نتيجة للتحولات التي عرفتها اليمن في القرنين الماضيين حيث تعاقبت الدويلات على بعضها البعض بشكل دارمي اللاحق منها يلغي السابق بسبب الإختلاف المذهبي. في الوقت الذي كانت قد دمرت المراكز التعليمية التقليدية مثل زبيد وجبلة وحضرموت وصعدة وذمار.

ثم جاءت الثورتان في شمال البلاد “الجمهورية العربية اليمنية” وفي جنوبه “جمهورية اليمن الديمقراطي” بمنطلقات جديدة قضتا على المراكز التعليمية التقليدية وبالتالي أصبحت الحالة اليمنية أقرب إلى الجزائرية منها إلى تلك البلدان التي حافظت بشكل أو بآخر على مراكز التعليم الديني التقليدي فيها.

تقييمات مختلفة

كل تلك المعطيات ألقت بظلالها على التعليم الديني في اليمن وعلى نوعيته. فقد انتشرت المعاهد العلمية منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي ثم تلتها السلفية ثم الشيعة الإثني عشرية.

وقد وجدت جميعها فرصا سانحة للانتشار بسبب غياب مراكز دينية تقليدية، فكان المكون السلفي السعودي والإخواني المصري والشيعي الإيراني جميعها حاضرا في التعليم الديني والمذهبي السائد في البلاد، ما أدى إلى أن تظل قضية توحيد التعليم تفرض نفسها بقوة خلال الأربع العقود الماضية نظرا للأبعاد السياسية التي أصبح يأخذها التعليم الديني.

وفي ظل هذه الوضعية وما تفرزه من حين إلى آخر من إشكالات، استمرت المبادرات قائمة من أجل توحيد التعليم في اليمن الذي كان ومازال يعني في عمقه إلغاء التعليم الديني. وهذا التوجه رفع لوائه في البداية الحزب الاشتراكي اليمني منذ قيام الوحدة اليمنية عام 1990 بغية تحجيم خصمه التجمع اليمني للإصلاح، لكنه لم يسطع بسبب التوازنات السياسية التي كانت تلعب على هذه المسألة.

وبعد اندحار الحزب الاشتراكي في حرب صيف 1994 ودخول المؤتمر الشعبي والتجمع اليمني للإصلاح ذي التوجهات الإسلامية في مرحلة وفاق سرعان ما أنتهت عقب الإنتخابات البرلمانية في عام 1997، بدأت تتشكل معطيات جديدة للبدء بتوحيد التعليم وهذه المرة بين الحليفين التقليديين المؤتمر والإصلاح.

وتحققت بعض الخطوات في هذه الاتجاه عندما أدمجت حوالي 4000 معهد كان تابعا للإصلاح في التعليم العام، ثم عادت الآن تطرح المسألة من جديد بعد مواجهات صعدة.

هذه الوضعية في اليمن تدفع المراقبين والمحللين إلى الإختلاف في تقييمهم لنجاعة هذا التوجه على الأمدين المتوسط والبعيد تبعا لتلك المعطيات والتراكمات التي أحاطت وتحيط بمسألة توحيد التعليم في اليمن.

فهناك من يرى أن السلطات اليمنية قادرة على فرض نمط تعليمي موحد ويستحضرون في تحليلهم ذاك نجاح التجارب السابقة التي طبقتها الحكومة اليمنية في عام 2000 عندما قررت وضع حد للمعاهد العلمية التي أنشأت في منتصف السبعينيات وكانت قلعة حصينة للتجمع اليمني للإصلاح.

بل تذهب هذه الأطراف إلى أن الظرفية الدولية القاضية بتجفيف منابع الإرهاب والضغوط الدولية، فضلا عن أن التمرد الذي قاده الحوثي إنطلاقا من تصوره المذهبي الخاص الذي وصل إلى حد المواجهات الدامية مع السلطات، كلها عوامل مساعدة على ترجيح نجاح قرار إلغاء التعليم الديني والمذهبي وتوحيده وفق منظور موحد.

مذاهب عريقة وتيارات وافدة

مقابل هذه الرؤية المتفائلة، هناك من يرى أن الحكومة اليمنية ستواجه صعوبة كبيرة في فرض نمط تعليمي موحد يضع حدا لإشكالية ضاربة اطنابها في المجتمع اليمني وفي نفوس أفراده. وحجتهم في ذلك أن الدين مكون أساس للمجتمع اليمني والتنوع المذهبي أحد سماته منذ مئات السنين، فضلا عن أن هناك معطيات جديدة عززت التنوع المذهبي تعود إلى “الوافد الجديد” الذي أخذ يزاحم وينافس التكوينات المذهبية التقليدية.

ويتمثل المكون الوافد في تنامي التيارات السياسية الإسلامية مثل السلفية والسلفية الوهابية وحركة الإخوان المسلمين، حيث أصبحت تلك التيارات خلال العقود الأخيرة تنافس التكوينات المذهبية التقليدية في البلاد من سنة وشيعة، بل وتقدم نفسها بديلا لما يعتبرونه نزعات مذهبية تبذر الفرقة بين الأمة الواحدة.

ويذهب هؤلاء المحللين إلى أن هذه الوضعية قلبت الموازين لصالح هذه التيارات الوافدة على حساب المذاهب الشائعة في اليمن منذ القدم نتيجة لقدرتها على استقطاب قطاعات عريضة من الناس خاصة في المناطق السنية الشافعية، لكنها لم تقض نهائيا على مذاهب تقليدية عريقة كالمذهب الزيدي والإسماعيلي وفرق الصوفية المنتشرة، وإنما عملت على خلق “آليات دفاعية” لدى تلك المذاهب التي تستند إلى اجتهادات مذهبية خاصة بها استقرت منذ قرون بعيدة، مما يصعب إلحاقها أو إدماجها في نظام تعليمي واحد علاوة على أن التكوينات المذهبية والحركات الدينية المنتشرة في البلاد ترتبط بها حسابات ورهانات سياسية وأيدلوجية داخلية وخارجية تجرها إلى عمق الصراع السياسي وتجعلها – بشكل أو بآخر – جزءا من لعبته.

هل يمكن إخفاء التناقضات المذهبية؟

على ضوء تلك المحددات والمعطيات للفاعلين الدينيين وما تقتضيه من تحديد أدوارهم في المجتمع يخلص أصحاب هذا الرأي إلى قناعة يقينية بإستحالة أن يؤدي توحيد التعليم في اليمن أو إخضاعه للرقابة الرسمية المباشرة إلى إخفاء التناقضات المذهبية والأيدلوجية بين الحركات الدينية والمذاهب المنتشرة في البلاد من الناحية العملية لأن أساس خلافاتها يوجد في مرجعية تاريخية خلافية تغذيها مفاهيم وتصورات ثابتة من جهة، كما أن الدولة أبعد ما تكون عن تبني نظام تعليمي علماني بسبب ثقل وحضور الديني في صلب الممارسة السياسية من جهة أخرى.

وبالتالي في حالة اليمن يصعب تصور دولة على النمط العلماني أو حتى بعيدة عن الدين وإنما ستبقى باستمرار قريبة من نموذج مذهبي يروم التأسيس لوحدة وطنية ومذهبية تكون محط قبول مختلف الفرق والنحل، وذلك هو التحدي الذي سيظل مطروحا في كل الأحوال. وحسب أولئك فإن الدولة ذات الأساس الديني ستكون في ممارستها غير محايدة على الأقل من وجهة نظر المكونات المذهبية التي سترى نفسها مقصية وبعيدة من الحضور الديني في السياسي.

مـحـاذيــر

على هذا الأساس، هناك من يرجح أن الإخضاع القسري رسميا للتعليم الديني والمذهبي وبمنظور ديني لا يمكنه أن يدمج مختلف الأفراد في مشروع وطني واحد دون أن يتأسس ذلك المشروع على احترام الإختلاف وتأمين شروط التعبير عنه، خاصة في ظل الهامش الديمقراطي المتاح في اليمن. ولذا سيستمر طرح مثل هذه القضية الخلافية بين مختلف الفاعلين الدينيين والسياسيين بمضامين ومعاني مختلفة، نتيجة للتلازم الحاصل بين الديني والسياسي من جهة، وتبعا لموقع كل طرف في اللعبة السياسية.

لكل تلك المحددات والمنطلقات التي تحكمت في المسألة التعليمية في اليمن، ونظرا لما تمثله المؤسسات التعليمية من وسائل تعبوية وتأطيرية لمختلف الفرقاء، فإن عملية توحيد التعليم لا يمكن لها أن تكون بمنأى عن الحسابات السياسية لاسيما أن المراكز المنتشرة في مختلف التراب الوطني تتبع قوى سياسية مختلفة.

فهناك التجمع اليمني للإصلاح الذي يسيطر على الجزء الأكبر من مؤسسات التعليم الديني، وهناك السلفيون بتقسيماتهم الثلاثة المختلفون فيما بينها والمتصارعون ثم الشيعة بتفرعاتهم الزيدية والإسماعيلية والإثني عشرية.

وعليه أمام هذه الفسيفساء الدينية وتنوع مرجعياتها، وأمام ما تتطلبه المؤسسات والمراكز الدينية من دور وظيفي لحشد وتعبئة الأنصار للفرق المتعددة، تصبح عملية توحيد الملل والنحل عملية محفوفة بالمخاطر والمجازفات وتقتضي نوعا من التريث حتى لا تدخل السلطات في محاذير المواجهة مع كل مكونات التيارات المذهبية مرة واحدة.

عبد الكريم سلام – صنعاء

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية