محاولة مغربية لطي سجلات الماضي
يبدو أن محاولة المغرب طي صفحة الماضي، في ما يخص انتهاكات حقوق الإنسان، تسير في اتجاه فتح المزيد من الصفحات، وتعرية المزيد من الزوايا المظلمة في تاريخ المغرب الحديث.
وما يؤكد هذا الطرح، أن الدولة المغربية وافقت على تعويض ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان في ما بات يعرف بـ “سنوات الرصاص”.
عقدت “هيئة الإنصاف والمصالحة المغربية” يومي 21 و22 مايو لقاءات مُطولة في الرباط مع مجموعة من خبراء دوليين، ومديري لجان الحقيقة في العالم لتبادل خبراتهم في ميدان الكشف عن الحقيقة والاستفادة منها في الكشف عن الانتهاكات الجسيمة التي عرفها المغرب في العقود السابقة، وما خلفته من اعتقالات وتعذيب واغتيالات واختطافات وتغييب قسري، وقومت للخبراء تجربتهم في التوثيق، وإلى أين وصل مشوار طي صفحة الماضي وضمان عدم تكرارها.
جاء الخبراء الدوليون الذين شاركوا في اللقاءات وتحدثوا في ندوة صحفية حول تقييمهم للتجربة المغربية في الكشف عن حقيقة انتهاكات لحقوق الإنسان من البيرو، وغواتيمالا، وسيراليون، وجنوب إفريقيا، وغانا، وتيمور الشرقية، وكوريا الجنوبية، وهي دول لكل منها تجربتها في هذا الميدان. ومن المؤكد أن صدور شهادة منهم تُشيد بإيجابية التجربة المغربية، (إذا ما كانت إيجابية)، وهي كذلك في نظر كثيرين، سوف تمثل ورقة ثمينة في عدد من الملفات المفتوحة على طاولة المسؤول المغربي، سواء كانت ملفات سياسية مثل قضية الصحراء الغربية أو ملفات اقتصادية، وتحديدا اتفاقيتي الشراكة مع كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
فمنذ بدايات تسعينيات القرن الماضي، أدرك العاهل المغربي الراحل الملك الحسن الثاني أن استمرار واستقرار عرشه وحكمه من بعده يتطلّـب طي صفحة ملطّـخة بالدماء والاعتقالات والاختطافات والغياب القسري. كان الماضي أو “سنوات الرصاص”، قد عرف مواجهة دامية بين القصر الملكي المغربي ومعارضيه، باتجاهاتهم المختلفة والمتعددة، وإن كان اليسار الديمقراطي محورها. وهذه المواجهات دامت طوال العقدين السابع والثامن من القرن الماضي دون أن تغيب تماما عن سنوات العقد التاسع.
فتْـح صفحة جديدة بشكل طبيعي
وقد تمثلت القناعة حينها بأن قوى المعارضة باتت، قوة وفكرا، لا تشكل خطرا على النظام السياسي، وأنها وصلت إلى توافق على معارضة الحكومة لا معارضة النظام أو المعارضة من داخل النظام لا من خارجه. وبالتوافق أيضا على أن طي سجلات الماضي يجب أن يعتمد كثيرا من الشفافية في تدبير الملفات، والأهم في معالجة آثار المرحلة السابقة.
واذا كانت سياسات الحسن الثاني الجديدة قد أوصلت البلاد سياسيا نهاية التسعينيات إلى إشراك المعارضة الديمقراطية، من خلال حكومة التناوب برئاسة الزعيم الاشتراكي عبد الرحمن اليوسفي، في تدبير الشأن العام وتسيير شؤون الدولة، وحقوقيا إلى أن يلعب المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان الذي أسسه عام 1990 دورا في المزيد من الانفتاح وإطلاق سراح المعتقلين وعودة المنفيين السياسيين، فإنه أبقى الصفحة مقتصرة على الجبر المعنوي لخاطر المتضررين من تلك المرحلة، ومغلقة أمام المس بالدولة أو تحميلها مسؤولية ما جرى أو محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات.
ومنذ تولي الملك محمد السادس العرش في صيف 1999، وملف حقوق الانسان وطي صفحة الماضي يحتل حيّـزا في المجتمع السياسي والحقوقي المغربي، إذ انتقل الملف من الجبر المعنوي لضحايا الانتهاكات إلى التعويض المادي للضحايا وعائلاتهم، وبدأت الصحف والمكتبات تنتعش مقالات أو كتبا لمعتقلين سياسيين عن تجربتهم في غياهب السجون، والندوات تعقد هنا أو هناك، تختلف موضوعاتها لكن المعتقلين السياسيين نجومها.
كان ما يُـكتب أو يقال بصوت عال غريبا أو جديدا على مسمع المغاربة داخل البلاد، حيث وصل الاتهام إلى العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني وتحميله المسؤولية الأساسية للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وأيضا إلى شخصيات مسؤولة في الجيش أو الأمن لا زالوا يمارسون مهامهم، وكانت الدولة تسمع ولا ترد ولا تلاحق، إلا أنها أيضا كانت تتمنع في الوصول إلى ما يسعى إليه المعتقلون وهيئاتهم (وخاصة “المنتدى المغربي للحقيقة والإنصاف”) من إيصال الدولة إلى الإعلان رسميا عن تحمل المسؤولية والاعتذار للضحايا والمجتمع.
كان النقاش ساخنا بين المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان (هيئة رسمية) والدولة من جهة، ومختلف الهيئات الحقوقية من جهة ثانية حول مستلزمات طي صفحة الماضي. كانت الدولة المغربية لا تنفي رغبتها بطي الصفحة دون الذهاب بعيدا، الاعتذار ومحاسبة المسؤولين، وتعتبر تعويض الدولة للمتضررين نوعا من الإقرار بمسؤوليتها واعتذارا منها لهم. في المقابل، كانت الهيئات الحقوقية تؤكّـد أن العدالة تقوم على قدمين: تعويض المتضرر ومعاقبة المسؤول، ولم يتوصل الطرفان حتى الآن إلى نتيجة أو توافق حول تدبير هذا التباين أو تجسيره.
إقرار بالتقدم .. مع تحفظات
فإذا كانت القوى اليسارية الديمقراطية تحدد بالمرموز “سنوات الرصاص” بستينيات وسبعينيات وحتى منتصف الثمانينيات، أي السنوات العشرين الأولى من حكم الحسن الثاني، فإن القوى المحافظة تريدها أن تبدأ من منتصف الخمسينات، أي السنوات الأولى للاستقلال، التي كان فيها للقوى الديمقراطية الثقل الأساسي في تدبير الشأن العام، والتي شهدت أيضا تجاوزات وحوادث اختطاف واغتيال.
أما الدولة المغربية فقد خطوة باتجاه الهيئات الحقوقية بتشكيل “هيئة الإنصاف والمصالحة”، وجل أعضائها معتقلين سابقين، ومحامين ونشطين في ميدان حقوق الإنسان، وحددت مهمتها بالكشف عن حقيقة الانتهاكات لحقوق الإنسان التي عرفها المغرب، وذلك بالاستماع إلى المتضررين أو من يقولون إنهم تعرضوا لانتهاكات جسيمة. وحسب الهيئة، فإن عدد الذين استمعت إليهم يزيد عن عشرين ألف ضحية.
ورغم ذلك، فإن الهيئات الحقوقية لم تتجاوب بحماس مع الهيئة كونها تابعة للمؤسسة الرسمية (أي إلى المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان)، وتقول إن الكشف عن الحقيقة لا يكون إلا بهيئة مستقلة يشارك فيها، إضافة إلى الدولة والهيئات الحقوقية ومنظمات المجتمع المدني، الضحايا أنفسهم.
التحفظات التي تقدّمها المنظمات الحقوقية لا تنفي الإقرار بالتقدم الذي وصله ملف الكشف عن الانتهاكات الجسيمة التي عرفتها “سنوات الرصاص” المغربية، والإقرار بأن المغرب احتل الريادة العربية والإسلامية في هذا الميدان، وتعبير عن شجاعة الدولة وإشارة والتزاما منها بعدم تكرار مثل هذه الانتهاكات مستقبلا. وفي كل ذلك، إشارات على تقدم في ميدان الديمقراطية التي يقول الجميع اليوم إنها الركن الأساسي لاستقلال الدولة، واستقرار المجتمعات وتنميتها وازدهارها.
محمود معروف – الرباط
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.