مصر وإسرائيل .. الصفقة الشاملة
عادة ما تصر القاهرة على الطابع العملي الذي يميز تعاملها مع تل أبيب، إلا أن المسؤولين استشعروا حساسية خاصة مع مسألة إطلاق سراح الجاسوس الإسرائيلي عزام عزام.
ومع النفي الرسمي لوجود صفقة بين الطرفين، إلا أنه لا يمكن التقليل من تأثير اعتبارات متعددة وضغوط اقتصادية متزايدة على القرار المصري.
نفي الصفقة .. ولكن!
بالرغم من الطابع العملي الذي تتعامل به الدبلوماسية المصرية مع القضايا الإسرائيلية، ثنائيا أو فلسطينيا، إلا أنها استشعرت حساسية خاصة مع مسألة إطلاق سراح الجاسوس الإسرائيلي عزام عزام، مقابل إطلاق سراح ستة من الطلاب المصريين الذين دخلوا بالخطأ إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث اعتقلتهم القوات الإسرائيلية منذ أغسطس الماضي.
وتجلت هذه الحساسية في النفي الرسمي لوجود أي صفقة، وكأن العلاقات بين الدول لا تتعامل وفق هذا المفهوم، الذي يعني تبادل التنازلات والمكاسب بصورة كلية فى لحظة تاريخية معينة.
لكن نفي الصفقة عن تبادل الجاسوس بالطلاب الستة، رافقه تسريب معلومات منسوبة إلى مصدر رسمي تؤكّـد وجود تفاهمات مصرية – إسرائيلية حول العديد من الأمور المتعلقة بالقضية الفلسطينية، كما تبشر بتوقيع اتفاقيات تُـعد من قبيل الاختراق الكبير في علاقات البلدين الثنائية على الصعيدين، الاقتصادي والتجاري والأمني.
وفي المحصلة، فإن نفي الصفقة عن تبادل الجاسوس بالطلاب، يُـعد صحيحا من منظور أن ما تم التوصل إليه هو أكبر بكثير من مجرد إنهاء بؤرة توتر ثنائية استمرت اكثر من ثمان سنوات.
فالعلاقات بين مصر وإسرائيل على أعتاب مرحلة جديدة بالفعل. لكنها ليست بالضرورة، كما تشير المصادر الإسرائيلية فى تسويقها لهذه التفاهمات لدى الرأي العام الإسرائيلي، بأن مصر ستقوم بدور فى إقناع الدول العربية، لاسيما الخليجية، للدخول في عملية تطبيع مع الدولة العبرية، فهو أمر نفته القاهرة رسميا لسبب بسيط، وهو تقاليد الدبلوماسية المصرية بعدم التدخل في القرارات الداخلية للدول العربية، ولأنها تؤمن بتقديم النموذج الخاص بها والمناسب لظروفها، ولكل أن يفعل ما يراه مناسبا.
تفاهمات بالجملة ولا مؤتمر
من ينظر إلى ما وصف بأنها تفاهمات تم التوصل إليها في مباحثات أبو الغيط، وزير الخارجية المصري، وعمر سليمان، رئيس المخابرات المصرية في إسرائيل، نجد أنها تتضمّـن مبادئ وخُـطوات توحي بأن شارون وحكومته باتوا يُـدركون أن هناك فرصة حقيقية للتوصل إلى تسوية تاريخية بعد غياب الرئيس عرفات عن مجمل الصورة الفلسطينية، ولكن دون التنازل عن شرط قيام الجانب الفلسطيني بمهامه الخاصة في ضبط الأمن ومنع العمليات العسكرية ضد الاحتلال والمدنيين على السواء.
فشارون، حسب التفاهمات التي أعلنتها مصر، بات يرى أن الانسحاب من غزة هو جزء من خارطة الطريق، ويقبل التنسيق مع الفلسطينيين لإنجاز هذا الانسحاب، كما سيقدم تسهيلات لهم من أجل إنجاح الانتخابات الفلسطينية الموعودة، محليا ورئاسيا وتشريعيا، في غضون الأشهر الستة المقبلة، كما يقبل إعادة تأهيل قوات الأمن الفلسطينية وتسليحها بصورة مناسبة، وفق توافق ودعم مالي دولي، ومبادرة تدريب مصرية، كما سيقوم بالإفراج عن بعض المخصصات المالية المستحقة للجانب الفلسطيني، ووعد بالإفراج عن بعض المعتقلين الفلسطينيين في القريب العاجل.
لكن الشيء الذي نفته مصادر رئيس الوزراء شارون بحسم، تعلق بالإشارة الغامضة بإمكان عقد مؤتمر دولي فى صيف 2005 للتسريع بالتوصل إلى تسوية نهائية بشأن إقامة الدولة الفلسطينية الموعودة، فيما يوحي بأن باقي التفاهمات المعلنة مقبولة إسرائيليا.
من الشأن الفلسطيني إلى الشأن الثنائي
الشيء المؤكّـد هنا، أن التزام إسرائيل بمثل هذه التفاهمات مرهون بتحركاتها الذاتية وباستقرار حكومة شارون، وقدرتها على البقاء وإنهاء احتمال إجراء انتخابات مبكرة، حسب ما يسعى إليه متطرفون من الليكود.
وتبدو المؤشرات في ضوء احتمال ضمّ حزب العمل إلى حكومة وحدة وطنية، تصب ناحية وجود فرصة كبيرة للالتزام بالتفاهمات، خاصة إذا ما نجح الفلسطينيون فى إيصال أبو مازن إلى منصب رئاسة السلطة الوطنية الفلسطينية، وفي التوصل إلى وقف إطلاق النار، وتثبيت حالة أمنية مناسبة في قطاع غزة وفي عدد من مدن الضفة الغربية.
والشيء المؤكد أيضا، أن تحرك مصر الذي ربط بين دفع جهود التسوية وبين تحقيق انفراج في العلاقات الثنائية مع إسرائيل، هو انعكاس لقناعة ثابتة لدى القيادة السياسية المصرية بأن الأمرين لا يمكن الفصل بينهما، وأنه لا يمكن تسويق تطورات إيجابية في العلاقات الثنائية، المصرية – الإسرائيلية، أمام الرأي العام المصري الغاضب دوما على سياسات إسرائيل الوحشية تجاه الفلسطينيين، ما لم يكن هناك ثمن تدفعه إسرائيل في إطار عملية التسوية مع الجانب الفلسطينى.
وربما في هذا الإطار، يبدو معنى الصفقة مقبولا ومفهوما بالمعايير التقليدية التي تتعامل بها الدول حين تنتقل من حال متوتر إلى آخر أكثر انفراجا.
فعلى الصعيد الثنائي، ثمة ثلاثة تطورات بارزة تمزج بين الأمني وبين الاقتصادي العميق. أولها، يمس، ولو بطريق غير مباشر، معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية الموقعة في مارس 1979، حيث اتفق على نشر حوالي 800 جندي مصري تابعين لحرس الحدود، لضبط الأمن على الحدود المصرية – الفلسطينية، والمصرية – الإسرائيلية، ولمنع الحوادث العارضة التي تحدث بين الحين والآخر، ووقف التهريب بأنواعه من طرفي الحدود، وهو اتفاق يعني بأنه يمكن تجاوز بعض الجوانب الأمنية الواردة في المعاهدة، حين يرى الطرفان أن المصلحة العليا المشتركة لهما معا تقتضي ذلك.
ضغوط اقتصادية كبرى
أما على الصعيد الاقتصادي، فما اتفق عليه وسيبدأ العمل به مع مطلع العام المقبل، يمثل بالفعل نقلة نوعية كبرى في علاقات البلدين. يشير الاتفاق الأول إلى أن إٍسرائيل ستعتمد، اقتصاديا وصناعيا، على الغاز المصري لمدة 15 عاما مقبلة، وستنفق مقابل ذلك 5.2 مليار دولار.
وفى المقابل، فإن اتفاقية إنشاء مناطق صناعية مؤهلة وتعرف اختصارا بالكويز QIZ، والتي سيتم توقيعها في القاهرة يوم 14 ديسمبر الجاري بين مصر والولايات المتحدة وإسرائيل، تمثل الجانب الآخر، حيث أن اعتماد التصدير المصري إلى السوق الأمريكية المفتوحة دون قيود، سيكون مرهونا بملكية وتقنية إسرائيلية في هذه المناطق الصناعية المؤهلة بنسبة 35%، واستخدام مواد خام قادمة من إسرائيل في حدود 11.7 %، وبعدها يكون السوق الأمريكي مفتوحا لهذه المنتجات دون قيود.
ويعول المصريون على هذا الاتفاق الثلاثي لتحقيق عدة أهداف، منها تعويض الحصص المصرية من المنسوجات والملابس الجاهزة للسوق الأمريكي، والتي كانت في حدود 600 مليون دولار سنويا، وسيتم توقف العمل بها في 1 يناير 2005، وفى جذب استثمارات خارجية لهذه المناطق في حدود عشرة مليارات دولار في السنوات الخمسة المقبلة، وفي توفير 50 ألف فرصة عمل أو أكثر في هذه المناطق الصناعية المؤهلة.
ووفقا لهذه الاتفاقية، من المرجح أن يزداد حجم التبادل التجاري بين مصر وإسرائيل في غضون العام المقبل من 44 مليون دولار سنويا إلى 75 مليون دولار، قابلة للزيادة.
ويلمح المتابع هنا، أن قبول مصر لهذه الاتفاقية له دوافعه الخاصة بواقع الاقتصاد المصري الذي يعاني ضعف التصدير إجمالا إلى الخارج، ورغبته في الحفاظ على حصة مناسبة في السوق الأمريكي، ناهيك عن التزامات منظمة التجارة العالمية التي تلزم مصر بفتح أسواقها أمام الملابس الجاهزة مع مطلع 2005، مما يجعل قطاع المنسوجات والملابس الجاهزة المصرية في مواجهة شرسة قد تدفع بالكثير من المصانع المصرية إلى الإغلاق إذا لم يكن هناك بديل آخر، يراه المسؤولون المصريون ممثلا في فرصة تصدير واسعة للسوق الأمريكي.
إنها في الأخير اعتبارات عملية بحتة، وضغوط اقتصادية لا يمكن التقليل من تأثيرها على القرار المصري، سواء ربط الأمر بتفاهمات تخص التسوية الفلسطينية الإسرائيلية، أو اقتصر على اختراق مهم في العلاقة الثنائية مع إٍسرائيل. ولكن تظل هذه التطورات غير مرحب بها لدى الرأي العام المصري.
د. حسن أبو طالب – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.