مُستجدّات ورُؤى سويسريّة بعشر لغات

مقبرة “إبراهيمية” في جنيف

swissinfo.ch

لأول مرة في تاريخ سويسرا تقرر السلطات المحلية في إحدى الكانتونات السماح لليهود والمسلمين بدفن موتاهم طبقا للشعائر الخاصة بكل من الديانتين في مساحة مخصصة لهم في مقبرة تابعة للبلدية.

بعد أسابيع قليلة سيتمكن أفراد الطائفتين المسلمة واليهودية المقيمون في كانتون جنيف غربي سويسرا من دفن موتاهم في مقبرة سان جورج الواقعة على الأراضي التابعة لبلدية جنيف.

ويقول مانويل تورنار، المستشار الإداري لمدينة جنيف، الذي بادر بإطلاق الفكرة منذ عدة أعوام: “بما أننا نحترم تقاليد الناس عندما يكونون أحياء فلماذا لا نقوم بذلك بعد وفاتهم؟”، ويرى المسؤول المحلي أن التعامل مع جميع الثقافات على قدم المساواة يساعد على نزع فتيل التوترات.

لكن هذا الخبر يظل حدثا غير عادي في بلد شهد تاريخه الطويل علاقة مضطربة مع “الآخر الديني” ومع اليهود بوجه خاص، إلا أنه من غير المستغرب أن تصدر المبادرة عن جنيف التي عُـرفت منذ عدة قرون – ولأسباب متعددة – بالنزوع إلى حماية الأقليات والحرص على تجسيد العديد من قيم التعايش.

وعلى الرغم من أن الحروب الدينية التي كانت قائمة بين الكانتونات الكاثوليكية والبروتستانتية إلى منتصف القرن التاسع عشر في سويسرا قد انتهت إلى غير رجعة إلا أنها ظلت تلقي بظلالها على القوانين والممارسات -بوعي أو بغير بوعي- وخاصة ضد الأقلية اليهودية التي عانت في هذا البلد من بعض أشكال الإضطهاد التي لاقتها في معظم البلدان الأوروبية.

تحديات جديدة

وكان الدستور الفدرالي قد حسم بشكل نهائي مسألة دفن الموتى ووضع حدا للخلافات الهائلة التي كانت قائمة بين أتباع مختلف الطوائف الدينية التي كانت تدير مقابر منفصلة لكل أتباع كنيسة، عندما أوكل إلى السلطات المدنية مهمة ضمان إجراء عملية دفن لائقة لكل ميت (بغض النظر عن انتمائه لطائفة أو دين أم لا).

لكن بعض التنقيحات القانونية التي اعتمدت في القرن الماضي وخاصة أثناء حقبة التسعينات من طرف السلطات المحلية في مدن جنيف وبرن وبازل وزيوريخ سمحت بفتح كوّة في جدار الحظر المفروض على إنشاء مقابر جديدة أو مساحات خاصة للمسلمين واليهود في المقابر القائمة في المدن المذكورة.

وهنا يجدر التذكير بأن هذه المسألة تظل من اختصاص البلديات التي تتمتع بسلطات محلية مهمة جدا في إطار النظام الكونفدرالي، والتي تتخذ فيها القرارات بشكل ديموقراطي صارم إما عن طريق تصويت أعضاء المجلس البلدي أو عبر اللجوء إلى الإستفتاء الشعبي.

وعلى الرغم من توصل السويسريين إلى ابتكار حلول عديدة لضمان التعايش السلمي بين لغات سكانه الأربعة (الألمانية والفرنسية والإيطالية والرومانش) وبين دياناته الرئيسية (الكاثوليكية والبروتستانتية) وثقافاته الجرمانية والروماندية والإيطالية إلا أن تحول سويسرا في الثلث الأخير من القرن العشرين إلى بلد متعدد الأديان فرض تحديات جديدة غير مسبوقة.

المقابر .. أولوية!

إذ لم تشهد الكونفدرالية في تاريخها الطويل تواجد أعداد كبيرة من أصحاب الديانات الأخرى من المسلمين أو الأرثوذكس أو الأرمن أو البوذيين وغيرهم فوق أراضيها إلا في العشريات الأخيرة.

فقد أدى مثلا وصول أعداد كبيرة من المهاجرين واللاجئين إلى الكونفدرالية إلى ارتفاع عدد المسلمين فيها من حوالي ثلاثة آلاف شخص في عام 1960 إلى ثلاثمائة وعشرة آلاف شخص طبقا لأرقام آخر تعداد عام للسكان أجري في موفى عام ألفين فيما تتحدث مصادر أخرى عن أربع مائة وخمسين ألف شخص!

لذلك لم يكن مستغربا أن تكون المطالبة بإنشاء مقابر خاصة من أول التحركات التي تصدر عن الجالية المسلمة. ففي عام 1987 أقدم بعض المسلمين السويسريين على بعث “مؤسسة المقابر الإسلامية السويسرية” ووجهوا في عام ثلاثة وتسعين رسالة إلى تسع مائة بلدية روماندية لمطالبتها بتخصيص مساحات في مقابرها لموتى المسلمين.

وفيما لم تنجح هذه المؤسسة في تحقيق إنجازات مهمة لحد الآن، تمكنت بعض الأطراف الممثلة للجالية المسلمة في عدد من المدن الكبرى مثل برن وزيوريخ وبازل بعد مشاورات ومفاوضات طويلة مع السلطات السياسية والمدنية من التوصل إلى بعض الحلول المقبولة مثل اقتناء أراض تخصص بالكامل لإقامة مقبرة أو الحصول على حق الدفن في مساحات محددة من المقابر القائمة.

جنيف كانت سباقة

وفيما استجابت بعض الكانتونات مثل برن وزيوريخ منذ عدة أعوام لمطالب الجالية اليهودية ومنحتها حق إنشاء مقابر خاصة بها، لم تنجح الجهود المبذولة في كانتون جنيف الذي يقيم فيه السيد ألفرد دونات رئيس الفدرالية السويسرية للجاليات اليهودية في الحصول على نفس الحق نظرا لوجود قانون يحظر على اليهود اقتناء الأراضي الموصوفة بأنها “طائفية”.

لكن الجالية اليهودية في جنيف تمتلك منذ بداية القرن التاسع عشر مقبرة في ضاحية كاروج (Carouge)، أي قبل التحاق هذه البلدة بكانتون جنيف في عام 1816 وأخرى ملاصقة لها ولكن في الأراضي الفرنسية على الجانب الآخر من الحدود!

ويقول سيلفان بنعمرام عضو الجالية اليهودية في جنيف (التي يقدر حجمها بثمانية آلاف شخص) والمسؤول عن إدارة المقابر اليهودية في جنيف: “إن السيد تورنار، بإقدامه على منحنا “ترخيصا” في مقبرة عمومية قد “استدار” حول القانون بأسلوب لبق”. لكن الحل الأمثل بالنسبة للطوائف اليهودية يتمثل في إلغاء القانون الحالي والحصول على حق اقتناء أراضي تخصص لدفن موتاها.

ويوضح السيد بنعمرام أن التعاليم اليهودية لا تجيز أبدا تدمير القبور أو تعويضها إلى حين ظهور “المخلّص” وبعث الموتى ولكن “الترخيص” الممنوح حاليا للجالية لا يسمح بتمديد فترة الدفن لأكثر من ثلاث مرات أي إلى تسعة وتسعين عاما كحد أقصى.

وعلى الرغم من قبول الطائفة اليهودية الليبيرالية بهذا الترتيب الذي اقترحته السلطات المحلية إلا أن الطائفتين الإسرائيلية والأرثوذكسية اللتان ينتمي إليهما أغلب يهود الكانتون لا زالتا تفاوضان بحثا عن صيغ أخرى حسب ما أدلى به السيد بنعمرام الذي حرص على التنويه بالمبادرة “الكريمة” للسيد مانويل تورنار.

ارتياح في أوساط المسلمين

ومثلما كان متوقعا، أثار القرار ارتياح الجالية المسلمة المقيمة في الكانتون التي يقدر عددها بثلاثين ألف شخص، خصوصا وأنه “لم تعد هناك أماكن شاغرة في “المربّعين” اللذين سُـمح فيهما بدفن موتى المسلمين منذ عام ثمانية وسبعين بقرار صادر عن سلطات مدينة جنيف”، حسبما نُـقل عن السيد عبد الحفيظ الورديري المتحدث باسم المؤسسة الثقافية الإسلامية في جنيف.

وأضاف الورديري: “لقد كنا بحاجة إلى أماكن جديدة لكن السيد ميشال روسيتي خليفة غي أوليفيير سوغوند (الذي دشن “المربعين” عندما كان يشغل منصب عمدة المدينة) عارض منح أي موقع جديد للمسلمين”. لكن القرار الجديد الذي منح للجاليتين اليهودية والمسلمة مربعين تبلغ مساحة كل واحد منهما ثلاثة آلاف متر مربع سمح بتجاوز مشكل الاكتظاظ نهائيا.

وقد وافقت السلطات على أن تكون الأضرحة متجهة إلى القبلة مثلما تنص على ذلك التعاليم الإسلامية، إلا أنها رفضت دفن الموتى في أكفان من القماش فحسب واشترطت وضعهم في صناديق خشبية مثلما يجري العمل به في كل المقابر السويسرية، وهو ما لم تعارضه الجالية المسلمة.

وفيما تعتبر هذه الخطوة الإيجابية المحدودة مؤشرا إضافيا على وجود استعداد حقيقي لدى بعض الأطراف السياسية لمراعاة بعض احتياجات الأقليات الدينية التي أصبح يتشكل منها المجتمع السويسري، لا زالت العديد من الملفات المشابهة (كالذبح الحلال) مطروحة على بساط البحث بين الداعين إلى التمسك الصارم بالعلمانية المنصوص عليها في الدستور الفدرالي وبين المطالبين بضرورة تقديم تنازلات معقولة لمئات الالاف من سكان البلد الذين لا ينتمون إلى الطوائف المسيحية.

كمال الضيف – سويس إنفو

قراءة معمّقة

الأكثر مناقشة

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة

المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"

يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!

إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية

SWI swissinfo.ch - إحدى الوحدات التابعة لهيئة الاذاعة والتلفزيون السويسرية