ملف الهجرة السرية في تونس: هل يُـفـتـح؟
ليست هذه المرة الأولى التي يبتلع فيه البحر تونسيين أثناء محاولة التسلل سريا إلى الأراضي الإيطالية، لكن غرق 14 شابا تونسيا على الأقل دفعة واحدة تعتبر الحادثة الأكثر مأساوية في السنوات الأخيرة.
وهو ما يمثل تطورا مثيرا للإنشغال في هذه الظاهرة المعقدة والخطيرة التي خيمت بظلالها المخيفة على البلاد التونسية خلال الفترة السابقة.
لا يزال سكان منطقتي الزهراء وبن عروس في الضاحية الجنوبية للعاصمة التونسية تحت وقع صدمة هائلة في أعقاب وفاة عدد من أبنائهم في محاولتين فاشلتين للهجرة سرا إلى الشواطئ الإيطالية.
وبما أن المسألة لم تعد تقتصر على بعض الحالات المعزولة أو المتفرقة، كان من الطبيعي أن تتعامل معها السلطة بكثير من الحزم من خلال اجتماع الرئيس بن علي بثلاث وزراء يمسكون لملفات الخارجية والداخلية والعدل، والإعلان عن تشكيل لجنة تحقيق وتقصي الحقائق حول ملابسات هذه الحادثة وتحديد المسؤوليات ومعاقبة المتسببين فيها.
“الحرقان” مصطلح استعمله المهمشون في تونس للتعبير عن عملية التسلل إلى الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط، بعد أن قررت أوروبا غلق حدودها في وجه الباحثين عن العمل والإقامة. وهو مصطلح يرمز إلى المغامرة والمخاطرة بالحياة، ويستبطن كل أشكال المعاناة من أجل الوصول إلى الشواطئ الأوروبية التي توهم آلاف الشبان بأنها ستحررهم من البطالة وضيق العيش وتفتح في لهم أبواب الثراء والاستقرار مثلما فعلت من قبل السواحل الأمريكية بعد اكتشافها من قبل المغامرين الإسبان.
تطور نوعي وعددي في أصناف المغامرين
نادرة جدا الدراسات حول ملف الهجرة السرية في تونس، وتكاد تكون مفقودة المعطيات والإحصائيات الدقيقة عن عدد الذين يتسللون سنويا. جميع المؤسسات الرسمية المعنية بهذا الموضوع إما أنها لا تملك فعلا المعلومات نظرا لصعوبتها وربما استحالتها، أو أن هذه الجهات تتعمد إخفاء ما لديها لاعتبارات قد تكون لها علاقة بعدم إظهار الحجم الحقيقي لهذه المعضلة التي لا تخص تونس فقط وإنما هي عالمية وشديدة التعقيد.
لكن يتوقع البعض بأن عدد المغامرين لا يقل عن ألفي شخص سنويا، وقد يبلغ حسب تقديرات أخرى الخمسة آلاف شخص، إذا أخذنا بعين الاعتبار غير التونسيين. ففي دراسة قام الباحث في علم الاجتماع الدكتور المهدي مبروك، أشار فيها إلى أن سنة 1997 قد تكون شهدت – حسب مصدر غير رسمي – قرابة 800 محاولة عبور تم اكتشافها من قبل الشرطة، لكن يلاحظ بأن تحولا نوعيا حصل فيما بعد. فقد ذكرت الصحف أن باخرة تم حجزها مؤخرا كانت تقل 260 شخصا، بينما اعتمدت المحاولات السابقة على مراكب صيد لا تتجاوز حمولتها الستين راكبا.
وإذ يصعب العثور على أرقام دقيقة، إلا أن الأبحاث الاجتماعية والتحقيقات الصحفية تفيد في مجملها بأن الهجرة السرية في تونس والمغرب العربي بشكل عام تختلف عن مثيلاتها الآسيوية أو الخاصة بأوروبا الشرقية.
فهي هجرة تتميز بطابعها الشبابي، حيث تترواح نسبة الأعمار بين 17 و35 عاما. كما أنها ذكورية، رغم التحاق العنصر النسائي بها في الفترة الأخيرة. ويفسر مهدي مبروك ذلك بالطابع المحافظ نسبيا للمجتمعات المغاربية. كما أنها هجرة فردية وليست جماعية أوعائلية كما هو الشأن بالنسبة للهجرات الكردية والأفغانية مثلا.
أخيرا، وبعد أن كان الفاشلون في الدراسة هم العنصر الطاغي، حصلت مؤخرا متغيرات كيفية حيث ارتفع المستوى التعليمي للمغامرين، وأصبح في الإمكان العثور على عدد متزايد من المجازين ضمن مجموعات “الحارقين”. ويعلل ذلك هذا الباحث بما وصفه بـ”انهيار القيمة الاجتماعية للشهادات الجامعية”.
تطورات خطيرة
لم ترتق الهجرة السرية في تونس إلى ما أصبحت عليه الأوضاع في آسيا والشرق الأدنى. فلم تتأسس بشكل واضح شبكات منظمة من حيث الهيكلة الحديدية وإدارة الأموال واستعمال الأشخاص المهربين كرهائن. فالذين يتولون هذا الأمر هم تجار مختصون في تهريب البشر وليس للإتجار بهم كما يحصل في مناطق أخرى.
لكن ذلك لا يمنع وجود بنية تحتية، حيث تتوزع الأدوار والمداخيل. فهناك من هو مختص في استقطاب الزبائن، ليتولى آخرون إخفاءهم بعض الوقت في مساكن مؤجرة، ويقوم بنقلهم في أوقات معينة أصحاب شاحنات صغيرة مخصصة ليتسلمهم أصحاب المراكب. وتتراوح تكاليف المغامرة بين ألف وألفي دينار.
لكن الباحثين بدأوا يعبرون عن خشيتهم من دخول عنصر جديد يرونه شديد الخطورة، حيث راجت مؤخرا أخبار عن شروع بعض المواطنين الأتراك في القيام بمحاولات التهريب. وتتمثل خطورة ذلك في أن مثل هذه الشبكات الأجنية مختصة على الصعيد الدولي في المتاجرة بالبشر.
ومما يجعل تونس مرشحة إلى أن تصبح مركز استقطاب وتصدير للمهاجرين السريين على الصعيد الإقليمي، موقعها الاستراتيجي، حيث أن منطقة قليبية مثلا (شمال شرق) لا تبعد سوى 54 كلم عن مدينة لمبادوزا (Lampedusa) الإيطالية، ولا تفصلهما عن بعضهما سوى خمس ساعات فقط من الابحار. في مقابل ذلك أصبحت المغامرة من المغرب الأقصى أكثر صعوبة بعد الأزمة الأخيرة مع إسبانيا، أما في الجزائر فالأمر يكاد يكون مستحيلا.
تحقيق قضائي أم معالجة شاملة؟
لهذه الأسباب وغيرها، ازداد اقبال المغاربة والجزائريين وخاصة الأفارقة من بلدان ما وراء الصحراء على تونس بحثا عن إمكانية المشاركة في إحدى عمليات الحرقان التي تكثفت في الفترة الأخيرة – رغم المخاطر التي أصبحت تحيط بها- بعد الأخبار التي راجت حول احتمال قيام الحكومة الإيطالية بتسوية الوضعية القانونية للمهاجرين السريين الموجودين داخل إيطاليا قبل غلق الملف نهائيا.
ويكفي الإشارة في هذا السياق إلى أن الأيام القليلة الماضية شهدت سبع عمليات إبحار فاشلة في ولاية المهدية وحدها، وأخرى تم إجهاضها في جهة نابل بعد يوم فقط من انتشار خبر غرق الأربعة عشر شابا على سواحل راغوزا جنوب صقلية.
لهذا يتساءل الكثير من التونسينين عمن سيوقف هذا الجنوح المتزايد نحو الانتحار بحثا عن مستقبل ملغوم؟. وهل أن التعاون التونسي الإيطالي في هذا المجال الذي تم استئنافه هذه الأيام سيضع حدا لما يعتبره البعض تساهلا مريبا من قبل بعض الجهات؟.
من جانبها تتساءل بعض فعاليات المجتمع المدني المحلي من جمعيات حقوقية وبعض الأحزاب السياسية: “هل سيشكل التحقيق القضائي الذي فُـتح في كل من تونس وإيطاليا مدخلا لمعالجة شاملة لهذه الظاهرة ليس فقط على الصعيد الأمني، ولكن أيضا من مختلف الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية؟
صلاح الدين الجورشي – تونس
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.