من الاتهامات إلى الشراكة؟
شهدت العلاقات اليمنية السعودية نُـقلة مثيرة للاهتمام على امتداد العامين الماضيين
فقد تحوّلت من مسلسل لتبادل الاتهامات والشكوك إلى تعاون وتنسيق أمني وثيق
يسير التعاون والتنسيق الأمني بين البلدين “وفقا للاتفاقية الأمنية المبرمة بينهما”: هذا ما عبر عنه مسؤولون يمنيون وسعوديون خلال تسليم السلطات اليمنية 8 من المطلوبين السعوديين مؤخرا للسلطات السعودية، من بينهم بندر عبد الرحمن الغامدي، أحد المطلوبين الـ 19 المتهمين بتنفيذ تفجيرات الرياض في مايو الماضي.
يأتي هذا الثناء المتبادل على سير التعاون الأمني بين البلدين ليؤكد استمرارية لمرحلة جديدة من التعاون الأمني بين اليمن والسعودية بدأت في النصف الثاني من العام الجاري، من أهم خصائصها أن البلدين انتقلا في معالجة الملف الأمني بينهما من طور الاتهامات المتبادلة والارتباك إلى مرحلة الشراكة والتعاون، على أن ذلك لم يكن بمعزل عن ضغط أمريكي واضح من جهة، وضرورة داخلية من جهة أخرى، خاصة بعد أن اكتوى البلدان بلظى نار الإرهاب والتطرف.
الواضح أن التعاون والتنسيق الأمني اليمني السعودي، رغم أنه يطرح نفسه على الدوام كقضية محورية في ملف العلاقات بين البلدين منذ أمد طويل، نظرا لطبيعة الإشكالية الحدودية بينهما بكل تعقيداتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، إلا أن التطورات الجارية التي طرأت على مسيرته تُـشكّـل تحولا مهما في تعاطي حكومتي البلدين مع هذا الملف المزمن بالشكل الذي بدا عليه مؤخرا، والذي لم يقتصر فقط على تبادل تسليم المطلوبين من المشتبهين بضلوعهم في عمليات إرهابية بين سلطتي البلدين، وإنما شمل التنسيق على المستوى اللوجستي والعملياتي، خاصة في المناطق الحدودية بين البلدين، فضلا عن اللقاءات والزيارات المتبادلة لمسؤولين أمنيين على مستوى وزيري داخلية البلدين.
ضغوط أمريكية
ويرى المراقبون أن تفاعلات التعاون الأمني السعودي اليمني في الآونة الأخيرة بهذه الوتيرة العالية، أملته كثير من الظروف والمعطيات التي حتمت على البلدين تبني مقاربة جديدة لمعالجة هذه الإشكالية الأمنية العويصة والمزمنة.
وقد اتّـسم التعاطي مع الملف الأمني في الكثير من الأحيان – طبقا لتحليلات مُـتداولة هنا وهناك – بانتهازية سياسية، خاصة من قبل بعض المسؤولين في كلا البلدين، الذين حاولوا بتلك الانتهازية تصدير مشاكلهم الداخلية إلى خارج حدود بلدهم، ومن ثم الإنحاء باللائمة على الغير إلى درجة بدا الأمر وكأن كل بلد يسعى إلى أن يُـحمِّـل البلد الأخر وزر ما حصل ويحصل من تطرف وغلو، وما يحدث من عمليات إرهابية.
وفي العديد من المناسبات، حاولت هذه الأطراف التنصّـل مما يحدُث بإلقاء التبعات على الطرف الآخر وإطلاق الاتهامات بأن الأعمال الإرهابية، إما مُـوّلت أو دُرّبت أو سُـلّـحت وانطلقت من أراضيه، لاسيما عقب الصدمات التي كانت تُـحدثها العمليات الإرهابية هنا وهناك، والتي عادة ما كانت تقود إلى مثل هذا الإرباك والتهربّ من مواجهة المشكلة بكل تعقيداتها المحلية والإقليمية والدولية.
ومن هذا المنطلق، اعتُـبِـر تعاون البلدين، أمنيا بشكله وصيغته الحالية، مثارا لعدد من التحليلات والاستنتاجات لا تخرج جميعها عن استحضار خلفيات وأبعاد هذا التطور، ومن ثم مستقبل التعاون الأمني اليمني السعودي بمحدداته الوطنية والإقليمية والدولية.
ومما لا شكّ فيه أن كل هذه التفاعلات طرأت على التعاطي اليمني السعودي مع هذه القضية الأمنية الشائكة بينهما، لم تأت بمعزل عن الضغوط الأمريكية الصريحة الواضحة في مكافحة الإرهاب وتجفيف منابعه وفقا لمقاربة الإدارة الأمريكية الحالية لمفهوم الإرهاب، ولطرق ووسائل مكافحته.
وقد سبق للرئيس الأمريكي جورج بوش أن عبّـر عن مضمون هذه المقاربة عقب تفجيرات 11 سبتمبر 2001، عندما قال “من ليس معنا فهو ضدنا”، وأكده تاليا خلال زيارة الرئيس اليمني علي عبد الله صالح إلى واشنطن في نوفمبر2001 بإشارته إلى أن ما سيجنب اليمن ضربة عسكرية هو تعاونه في مكافحة الإرهاب، وأن الخطوات المحققة في هذا الإطار سيترتب عليها تقرير وتحديد طبيعة التعاون بين البلدين في الميادين الأخرى، وهذا الموقف هو نفسه الذي واجه به الرئيس الأمريكي ولي العهد السعودي الأمير عبد الله بن عبد العزيز خلال زيارته لواشنطن.
معطيات داخلية وإقليمية
ويذهب المحللون إلى أنه إذا كان الثقل الأمريكي واضحا ومؤثرا في تقرير طبيعة ومستوى التعاون الأمني السعودي اليمني، إلا أن هناك معطيات وطنية وإقليمية ساهمت في توجيه مسار ذلك التعاون، ويذكّـرون بأنه من المعروف أن طول المنطقة الحدودية بين البلدين الجارين، تثير باستمرار قضايا أمنية مختلفة مثل النزاعات القبلية وتزايد التهريب للسلع، وكذلك تهريب الأفراد من اليمنيين الذين يبحثون عن فرص عمل في السعودية.
لذلك، فإن هذه المشاكل ظلّـت مطروحة باستمرار ببُـعدها الأمني حتى بعد توقيع معاهدة جدة الحدودية بين الجانبين عام 2000، ثم زادت تعقدا بدخول معطى الإرهاب في مكونات تلك المشكلة القائمة أصلا، وأصبح عنصر الإرهاب في قلب القضية الأمنية ابتداءًَ من تفجير المدمرة الأمريكية “إس إس كول” في ميناء عدن عام 2000، وأحداث 11 سبتمبر 2001، وتدمير ناقلة النفط الفرنسية لمبرج قبالة السواحل اليمنية عام 2002، وتفجيرات الرياض في مايو المنصرم.
كل هذه الأحداث بأشخاص منفذيها ومصادر تمويلها وأهدافها، دفعت بالدولتين إلى صلب إشكالية الإرهاب، لاسيما بعد أن تأكد أن مخططيها ومموليها ومنفذيها أغلبهم من مواطني السعودية واليمن، ناهيك عن أن البلدين كانا مسرحا للكثير من تلك الأعمال.
وعلى الرغم من أن حكومتي الدولتين الجارتين تصدّتا باكرا لمعالجة الملف الأمني بتوقيع وزيري الداخلية في البلدين اتفاقية للتعاون الأمني في أبريل 2001، غير أن المشكلة ظلت قائمة تفرض نفسها باستمرار، وتظهر من حين لآخر في تصريحات المسؤولين الأمنيين في البلدين، لاسيما عقب كل عملية إرهابية تحصل هنا أو هناك.
وقد ظل الوضع على حاله حتى تفجيرات الرياض في مايو الماضي التي يُـمكن القول أنها مثّـلت مُـنعطفا هاما سرّع في وتيرة التعاون الثنائي بين اليمن والسعودية. ومنذ ذلك الحين، قفز الملف الأمني إلى موقع الصدارة مثلما بدا ذلك واضحا خلال انعقاد الدورة الخامسة عشرة لمجلس التنسيق والتعاون اليمني السعودي في صنعاء في يوليو الماضي.
فقد هيمنت قضية التعاون الأمني على جدول أعمال المجلس، وتمّ الربط حينها بينها وبين إحراز أي تقدم في مجالات التعاون الأخرى الاقتصادية والمالية، ومنح العمالة اليمنية بعض المزايا الاستثنائية وفقا لما ذهبت إليه آنذاك مصادر مُـطّـلعة على خفايا مباحثات مجلس تنسيق التعاون بين البلدين في دورته تلك.
مآزق المقاربة الأمنية
ولئن كانت الخلفيات والمحددات الدافعة لمسيرة التعاون الأمني السعودي اليميني تبدو مسوغات كافية لأن يشهد هذا الملف بين الدولتين نقلة جديدة متخطيا بتفاعلاته مرحلة الارتباك والاتهامات إلى مرحلة من الشراكة والتعاون، إلا أن الأبعاد المحتملة والمستقبلية لهذا التعاون، سواء على الصعيد الداخلي لكل بلد على حدة، أو على صعيد العلاقة بين الدولتين اليمنية والسعودية لا تخلو من مخاطر كبيرة متعددة الأوجه.
فهناك من يرى أن الدخول بمواجهة يومية مع المشتبه بانتمائهم للجماعات الدينية المتطرفة سينتج عنه ردود أفعال غاضبة، لاسيما إذا ما طالت التدابير الأمنية بنيات تقليدية قبلية أو دينية معروفة بهيمنتها على ضبط ومراقبة المجالات الدينية – العقائدية والاجتماعية – السياسية في البلدين.
فالمؤسسة الدينية الوهابية والمؤسسة القبلية تعتبران فاعلين رئيسيين في المكونات السياسية للبلدين نتيجة للأدوار المسندتين لهما في دعم النظامين القائمين. ولهذا، فإن الدخول في مواجهة مع المؤسسة الدينية والقبلية على خلفية مكافحة الإرهاب يطرح تحديات كبيرة أمام نجاعة المقاربة الأمنية وإمكانيات نجاحها في تحقيق الأهداف المرسومة.
وقد تُـفضي مثل هذه المقاربة إلى توسع المواجهة بين السلطة والمؤسسات التي يرتكز عليها النظام السياسي ويدين لها بدعمه خلال الفترة الماضية مقابل تمكنها من التغلغل في كل مفاصل الدولة، المؤسسي السياسي والاقتصادي والاجتماعي والديني.
هذه الإشكالية تُـعقّـد إلى حدّ بعيد من عملية تنفيذ المقاربة الأمنية، حيث من الصعب أن يقضي النظام على أهم مرتكزاته وأسسه التي يقوم عليها، لأن ذلك سيقود إلى انهياره ودخوله في مواجهة يومية، ليس فقط مع المشتبهين بتنفيذ عمليات إرهابية، بل أيضا مع كل ما تعتقده الإدارة الأمريكية مصدرا للتطرف وإنتاج العنف بكل أشكاله الرمزية والمادية والقيمية المنتجة للتطرف حسب المنظور الأمريكي.
ومن ثم، فقد يُـؤدّي ذلك إلى حدوث ردود فعل قوية قد تُـحوِّل مسار المواجهة الأمنية من استهداف الآخر إلى استهداف النظام السياسي الوطني في البلدين، ولعل ذلك هو المأزق الذي يُـواجه المقاربة الأمنية على صعيد كل دولة على حدة.
أما على مستوى علاقة الدولتين ببعضهما البعض، فإن ذلك يبقى مرهونا بمدى ومجال التعاون الأمني. فهل سيظل محصورا بمكافحة الإرهاب وفقا للمنظور الأمريكي، أم أنه سيمتد إلى كل القضايا الأمنية العالقة بين البلدين منذ أمد طويل؟
عبد الكريم سلام – صنعاء
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.