من فهد إلى عبد الله: تجديد نسبي واستمرارية معهودة
على الرغم من أن غياب الملك فهد عن مقاليد الحكم كان معروفا للكافة بحكم المرض الذي استمر ما يقرب من عقد كامل، إلا أن إعلان وفاته مثل نقطة فاصلة بين عهدين.
أحدهما انتهى والثاني بدأ، وكلاهما جاء مع إعلان تلك الوفاة.
يُقدر للكثير من الثوابت التي درجت عليها المملكة السعودية منذ عهد التأسيس في الثلاثينات من القرن الماضي، وكذلك التي تميّـزت بها المملكة في عهود الملوك الخمسة السابقين، أن تستمر أيضا مع عهد الملك الجديد عبد الله بن عبد العزيز، وهو قدر من الاستمرارية مسموح به في النظم الملكية العتيدة. وإن كان يظل لكل ملك بصمته الخاصة في تجسيد تلك الثوابت، حسب ما تقتضيه مستجدات الأحداث والظروف.
إنجازات وقرارات صعبة
ومن ينظُـر إلى عهد الملك فهد الممتد إلى 23 عاما ما بين 1992 إلى 2005، يرى فيه إنجازات تنموية كبرى لا تُـخطِـئها العين، وقرارات خارجية صعبة قادت إلى الحفاظ على أمن المملكة الذاتي، جنبا إلى جنب أمن جيرانها الخليجيين والعرب.
ولعل قرار الاستعانة بقوات أجنبية لتحرير الكويت من احتلال العراق عام 1990، يمثل القرار الأصعب في عهد الملك فهد، والذي يُعطى كمثل على أن الرجل لم يتوانى عن المخاطرة بالكثير من الأشياء في سبيل الحفاظ على وجود المملكة الذي كان مهدّدا، وأيضا في سبيل إنهاء نزعة العدوان ورفض مكافأتها من أي نوع. ولذلك، فإن تحرير الكويت، وكما يعترف بذلك الكويتيون أنفسهم، هو هدية الفهد التاريخية لهم.
كانت القرارات الصعبة والمهمة أيضا كثيرة ومتشعبة، سواء في القضية الفلسطينية أو في إنهاء الحرب الأهلية اللبنانية بعد 15 عاما من القتال والتدمير الذاتي، أو في التمسك بشعار التضامن العربي بكل تبعاته، أو في قبول غزو العراق على يد تحالف تقوده الولايات المتحدة في فبراير 2003. وأخيرا، في المناداة بمبادرة للسلام العربي الاسرائيلي تقبل مبدأ التطبيع مع إسرائيل، بعد أن يحصل الفلسطينيون على حقهم الشرعي في دولة مستقلة ذات سيادة وعاصمتها القدس.
أما داخليا، وبعد وصول الظاهرة الإرهابية إلى المحطة السعودية، وما مثلته من تحدي كبير لأمن واستقرار المملكة ككل، لم يكن المخرج سوى المواجهة الأمنية الممزوجة ببعض إجراءات فكرية وإعلامية، وأخرى انتهت إلى ضبط حركة الجمعيات الخيرية التي اعتُـبرت مسؤولة عن تمويل أنشطة إرهابية عابرة للحدود.
تضامن ذاتي وداخلي
عهد الملك فهد يُمثل الكثير، ولكن التمسّـك بثوابت الحكم السعودي، بل ومؤسستها كما يبدو، في وضع نظام للحكم يحدد آليات انتقال السلطة ووظائف المؤسسات المختلفة، يظل يمثل ملمحا بارزا ومهما.
فقد اعتادت الأسرة السعودية الحاكمة أن تتمسّـك بالتضامن الذاتي والداخلي، وتعتبر ذلك صمام أمان للحكم والاستمرارية على قمة الهرم السياسي فى البلاد، وهو تضامن قد لا يشعر به الناظر لسياسة المملكة من خارج الإطار التاريخي والاجتماعي الذي شكّـل مُـجمل الخِـبرات السعودية في العقود السبعة الماضية، وجزء من هذا التضامن، يعود أساسا إلى قوة التمسك بتقاليد المُلك التي تبلورت على يد المؤسس عبد العزيز آل سعود نفسه.
ومن بين تلك التقاليد، أن تتم البيعة وِفقا للتقاليد القبلية الموروثة منذ القدم السّحيق. لكن التحضر والانتقال من حال بدوية إلى حال حضرية، كان له دوره في وضع تلك التقاليد في إطار قانوني ونظامي، تمثل في النظام الأساسي للحكم، والذي يُـعد دستور البلاد، ويحدّد وظائف مؤسسة الملك والوزارة، ويحدّد أيضا طريقة انتقال الحكم بين أبناء الملك عبد العزيز وأحفاده، وهو ما نظمته المادة الخامسة من النظام الأساسي، حيث جعلت انتقال الملك من عاهل إلى آخر، من فئة الأخوة أبناء عبد العزيز، ثم بعد ذلك ينتقل المُـلك إلى فئة الأحفاد.
وفي ضوء مبدإ التضامن الداخلي للأسرة الحاكمة، والتزام التقاليد الموروثة، واتباع النظام الأساسي، جاء الانتقال السَّـلس للسلطة، إذ أصبح ولي العهد مَلكاً، وصار الأمير سلطان، أكبر الإخوة السديريين، وليا للعهد.
وبعد أن تمت بيعة الأسرة لمَلِـكها الجديد، باتت بيعة الشعب السعودي لملكه الجديد محصلة طبيعية، مع الأخذ في الاعتبار أن هذا الانتقال السلس للسلطة فيه توافق مُـسبق بين أُمراء الأسرة الحاكمة النافذين، وهو توافق يمكن إعادته إلى زمن سابق قد يمتدّ الى عقد كامل، هو عقد مرض الملك فهد منذ عام 1995 وحتى لحظة الوفاة.
الاستمرارية .. “نتيجة منطقية”
انتقال السلطة في بلد كالمملكة السعودية، لا يعني بالضرورة تغييرات جِـذرية في زمن قصير بقدر ما يعني استمرارية نسبية قد تمتد لسنوات طويلة. وفي حالة الملك الجديد عبد الله، فإن الاستمرارية المُـشار إليها تُـعد في الواقع نتيجة منطقية لرجل كان يُـمارس الحُـكم بالفعل دون قيود، سوى مُـراعاة التوازنات بين الكُـتل الرئيسة في الأسرة السعودية نفسها، وكذلك مراعاة نفوذ المؤسسة الدينية، فضلا عن التعامل مع المطالب التي تأتي من جموع وفئات المواطنين.
ومعروف أن الملك الجديد، حين كان وليا للعهد، كان قد تم تفويضه صلاحيات المُـلك منذ عام 1998، بعد أن اشتدّ المرض على الملك فهد وحال دون قيامه بواجباته المعتادة، وهو تفويض ساهم في أن يكون ولي العهد بمثابة ملك غير متوّج، الأمر الذي يتيح الاستنتاج بأن الملك عبد الله لن يفعل سوى الاستمرار على نفس نهجه في الحكم الذي اختطه منذ سبع سنوات.
بصمات ولي العهد
لقد كان لعبد الله بصماتـه الواضحة، داخليا وخارجيا، وهي بصمات وُضِّـحت في الأعوام الثلاثة الأخيرة، والتي اشتدت فيها الضغوط السياسية والمعنوية على المملكة بعد هجمات 11 سبتمبر على الولايات المتحدة، التى شارك فيها 15 سعوديا من بين 19 قاموا بالهجمات.
وكما كانت هذه الهجمات صدمةً عالميةً، كانت صدمةً مضاعفةً للمُـجتمع والحكم السعودي برمّـته. فالعلاقات الاستراتيجية التي بُـنيت مع القوة الأكبر في العالم منذ سبعين عاما، باتت مُـعرّضة لانهيار كامل. والمجتمع الذي كان يُـنظر إليه باعتباره مُـجتمعا إسلاميا خالصا، كشف عن ثغرات كُـبرى، والدور العالمي في خدمة الدعوة الإسلامية أصبح مَـثار انتقادات وتفسيرات بأنه مسؤول عن ذيوع وانتشار الإرهاب الإسلامي.
كانت الصدمةُ السعوديةُ كبيرةً، واحتاجت معالجتها إلى أساليب وسياسات جديدة، في مبناها وفي مضمونها، وهو ما أدركَـه ولي العهد عبد الله، وسعى إلى معالجة الكثير من الثغرات والنواقص، داخليا وخارجيا.
ويحسب له أنه دافع ورعى الدخول في عملية إصلاحية لم يكن يتصور من قبل أن تعرف أيا من عناصرها الطريق إلى المجتمع السعودي، وهو ما تمثل في الانفتاح على الفئات المظلومة، اجتماعيا ودينيا، ورعاية نوع من الحوار الوطني، والبحث في وضع المرأة السعودية، ومدى إمكانية تعديله وتطويره، بما لا يخرج عن الشرع من جانب، ولا يستمر أسيرا لتقاليد اجتماعية لا تستند إلى تفسيرات شرعية من جانب آخر، والاعتراف بأن هناك مشكلة تطرّف في الفكر الديني، وهي مسؤولة عن خروج عناصر إرهابية بكل معنى الكلمة، والاعتراف بأن في المملكة، رغم غناها المالي، مشكلة فقر تحتاج إلى ترشيد في الأداء المالي للبلاد، والاعتراف أيضا بأن هناك الكثير من النواقص في العملية التعليمية المتّـبعة في المملكة، ناهيك عن المناداة بتطوير أداء وفكر المؤسسة الدينية.
ولمعرفة حجم التغيير في سلوك الحُـكم السعودي، علينا أن نتذكّـر أن الاعتراف بوجود أوجه قصور في المجتمع أو في السياسة السعودية، ليس من شيمة البلاد، لا حكومة ولا مُـواطنين.
ولذلك، فإن مجرّد الاعتراف بالحاجة إلى تجديدات شاملة في المنهاج اليومي السعودي كان يمثل نقلة إدراكية كبرى، واحتاجت إلى ما يُـشبه الرعاية المِـلكية من قِـبل مسؤول نافذ، هو ولي العهد آنذاك الأمير عبد الله، والذي وجه إلى سياسات ومواقف بعينها، عبّـرت عن الحاجة الماسة إلى تغيير أداء المجتمع جنبا إلى جنب، تغيير سلوك الحكومة.
إن خبرة الأمير عبد الله في تسيير شؤون المملكة، تتيح له بالفعل خِـبرة عملية كبيرة، كما تُـتيح القول بأن حضوره الداخلي والدولي لم يأتِ من فراغ، بل عن خِـبرة وحِـكمة كبيرتين، وأن التجديد في الحكم السعودي في عهده ملكا، لن يخرج كثيرا عمّـا كان عليه الوضع إبّـان حُـكمه مَـلِـكا غيرَ متوّج، ووليا للعهد.
د. حسن أبوطالب – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.