مواجهات صـعْـده رجّـة عـنـيـفـة
تشير آخر المعلومات إلى أن المواجهات الدائرة بين القوات الحكومية ورجل الدين الشيعي حسين بدر الدين الحوثي في محافظة صعدة الشمالية أوشكت على نهايتها.
يأتي هذا بعد أن أحكمت قوات الأمن والجيش سيطرتها على معاقل المتمردين، ومحاصرة أتباعه في جيوب ضيقة، إلا أن خلفيات وأبعاد ما حدث تظل بعيدة المدى.
مع أن الحسم العسكري لصالح القوات الحكومية كان مرجحا منذ البداية، إلا أن خلفيات وأبعاد هذه المواجهات كانت بمثابة رجة عنيفة على المجتمع والدولة، خلخلت كثيرا من ثبات الأوضاع المتعارف عليها، وكادت أن تقوض متطلبات التساكن والتعايش الاجتماعي والمذهبي في البلاد على المستوى المحلي والوطني، وذلك وفقا لما يذهب إليه المراقبون والمتابعون للشأن اليمني.
ويعتقد مراقبون ومحللون أن هذه المواجهات مثلت رجة عنيفة غير مسبوقة بكل المقاييس العسكرية والسياسية والاجتماعية والدينية لم تكن في الحسبان، ولن يتجاوز اليمن تبعاتها وانعكاساتها إلا بعد مضي وقت طويل.
العنصر القبلي كان حاسماً!
فحتى الآن سقط ما يقرب من 300 قتيل، ونحو نفس العدد من الجرحى أغلبهم من أتباع حسين الحوثي، وجلهم ينتمون إلى قبائل مختلفة، في منطقة معروفة بتركيبتها القبلية الشديدة وانتشار السلاح بين سكانها. كما يغلب على علاقات مجموعاتها القبلية تراكمات من التوتر والعدوات، خافت كثيرا من الثارات والصراعات في المنطقة، والتي خرجت إلى العلن خلال المواجهات الدائرة.
فقد كان واضحاً أن العنصر القبلي سيكون حاسما في المعارك، وهو ما أكدته الصحف الرسمية حين قالت: “إن ملاحقة فلول المتمردين تجري بمساعدة أبناء المنطقة لقوى الجيش والأمن من قبل أفراد القبائل”، وهذا من شأنه أن يذكي العداوات ويغذي الأحقاد الموجودة أصلا في بيئة المجتمع القبلي المعروف بتعقد علاقاته الاجتماعية وانتشار الأسلحة وسط السكان، مما قد يدخله في مرحلة جديدة من التوتر على خلفية المواجهات الدائرة.
كما سيطرح هذا الوضع المحلي من الناحية العسكرية أعباء جديدة على الحكومة، وسُيبقي الحاجة إلى حضورها الكثيف مسألة ملحة باستمرار حتى لا تخرج التوترات والضغائن عن مسارها المحدود إلى مواجهات دائمة، في حين تحتاج الحكومة اليمنية (في ظل التزاماتها بمكافحة الإرهاب) إلى أن تكون على جاهزية كبيرة في كل التراب الوطني وخاصة في المحافظات التي ظلت خارج السيطرة الكلية للدولة، والتي يُعتقد أنها تشكل ملاذا أمنا للإرهابيين، ومنها صعده والجوف ومأرب و شبوه، وبالتالي سيغدو واقع الحال مشوباً بالتوترات فيما بين الجماعات المحلية من جهة وبينها وبين القوات الحكومية من جهة أخرى .
إحـراج النظام
أما التحدي الآخر الناجم عن اندلاع هذه المواجهات فيكمن – طبقا لمراقبين ومحللين – في المنطلقات التي وظفها حسين بدر الدين الحوثي وجماعته وآثارها المحتملة. فهي منطلقات لا تزيد في في ظاهرها عن شعارات ورموز ضد أمريكا وإسرائيل، لكنها في حقيقتها تنطوي على معاني ضمنية الهدف منها هو إحراج النظام والإيحاء بأنه متحالف مع الولايات المتحدة، وهو ما سيعبئ الرأي العام ضده.
وتجسد ذلك السلوك من خلال رفع مثل تلك الشعارات في أمكنة ومناسبات تقتضي التدخل لإيقافها، كما حصل مرارا في المسجد الكبير بالعاصمة صنعاء، وهو ما أسفر عن إلقاء القبض على حوالي 800 من “الشباب المؤمن”، الذين كانوا يقدمون من محافظة صعده ويرددون تلك الشعارات عقب كل صلاة جمعة على مدار الأشهر الثمانية الماضية.
توجهات مذهبية غير مألوفة
فضلا عن ذلك، حملت الجماعة توجهات مذهبية غير مألوفة في اليمن من قبل، وتنطوي على دلالات ومضامين من شأنها أن تهدد التعايش والتساكن الديني والمذهبي في البلاد التي يسود فيها منذ مئات السنين المذهبان الشيعي الزيدي والسني الشافعي.
فالمنطلقات التي رفعها الحوثي لا تنتمي لأي من المذهبين الشائعين في صفوف اليمنيين، حيث يشكل اتباع المذهب الشافعي ما بين 70 إلى 75 % من السكان وأتباع المذهب الزيدي حوالي 25 إلى 29 %، إضافة إلى 1% من الإسماعيلية.
وتشكل تلك المنطلقات وافدا جديدا يبتعد عن الزيدية وينتقد مرجعيتها، ويمتثل أو يتمثل لأول مرة المذهب الجعفري الإثني عشري، وهو المذهب السائد في إيران والذي أخذ في الآونة الأخيرة ينتشر في بعض الأوساط اليمنية، ويُعتبر حسين بدر الدين الحوثي أحد منظريه الفقهيين الذي أتخذ منه محملا لخطاب سياسي يطعن بمشروعية السلطة القائمة المنتخبة، وينازعها شرعيتها بطرق ووسائل تحريضية وتعبوية خارج إطار المؤسسات الشرعية والدستورية.
مخاوف من صراع مذهبي
كما جعل من المساجد والمدارس أماكن لها لطرح خطاب ديني ومذهبي أخذ في التزايد والانتشار منذ العام 1997، عندما بدأ الحوثي يؤسس حوزات دينية غير مرخص لها على غرار الحوزات العلمية في إيران، وشكل ما يسمى بـ “الشباب المؤمن”، الذي عُرف في الأشهر الأخيرة بترديده هتافات “تسقط أمريكا وإسرائيل”.
هذه الشعارات هي التي يقول الحوثي وأتباعه إنها السبب في ملاحقاته، فيما تكمن جوهر المشكلة – حسب مراقبين ومحللين – في توسع نفوذه وتزايد أتباعه من الشباب العقائديين، وتأسيسه لمذهب وافد قد يهدد التعايش المذهبي العريق بين الزيدية والشافعية المعروفين بقربهما وبانفتاحهما على بعضهما البعض.
فمن المعروف أن المذهب الزيدي يبتعد كثيرا عن النزعات المذهبية الشيعية المغالية ليقترب كثيرا من مذاهب السنة، وتجسد ذلك التقارب في أبهى صوره بعلاقة التعايش المذهبية في اليمن وخاصة في العصور الحديثة، مع بروز ظاهرة التجديد الديني لدى علماء اليمن، لاسيما مع التجديد الذي عرف به علماء وفقهاء اليمن أمثال الشوكاني وأبن الأمير الصنعاني والجلال، وكلهم من رواد التجديد الديني الذين أرسوا بنيان وأسس التقارب والتعايش المذهبي.
وبلغ ذلك التقارب أوجه في أواخر القرن الماضي عندما دُشنت عملية تقنين الشريعة الإسلامية في منتصف السبعينات، وأثمرت عن موائمة القوانين والتشريعات الوضعية في ميدان الأسرة والأحوال الشخصية والأوقاف مع مقتضيات الشريعة الإسلامية ومقتضيات المذهبين من جهة أخرى، وذلك وفق منظور توفيقي كرس التعايش والتساكن المذهبي في اليمن.
وبالتالي فإن أي طرح مذهبي ينطوي على منطلقات مخالفة من شأنه أن يقود اليمن إلى توترات قد تهدد الوحدة الوطنية، ولذا جاءت ردود الفعل الحكومية حاسمة وقوية خشية الانزلاق إلى صراع مذهبي قد لا يبقي ولا يذر.
منزلق خلط الأوراق .. والتحديات المقبلة
المراقبون يرون أن هذه الصرامة التي أتبعتها الحكومة اليمنية دفعت بالخطاب الإعلامي الرسمي في بعض الأحيان إلى الانزلاق إلى مستويات خطيرة، عندما وقع في خلط بين التمرد الذي قاده الحوثي وبين المذهب الزيدي، وكاد أن يتسبب بأزمة خطابية وسجال غير محمود النتائج سرعان ما بادر الرئيس علي عبد الله صالح إلى احتوائه. بيد أن تجاوز تبعات ذلك يبقى من التحديات المطروحة مستقبلا على السلطات اليمنية.
المعارضة اليمنية بدورها قد تكون الخاسر الأكبر من المواجهة بسبب أسلوب التعاطي الذي اتبعته مع هذه الأزمة، فقد بدت في نظر المراقبين ضيقة الأفق والرؤية عندما بادرت إلى تبني موقف بدا كما لو أنه يتشفى مما يجري، وبالتالي جسدت في تصرفها عبر بيانها الصادر عن ما يسمى بأحزاب المعارضة موقفا عدميا لاسيما من قبل تلك الأحزاب التي اكتوت بلظى التطرف الديني.
ولا شك في أن هذا الموقف (وما ترتب عليه من انتقادات صدرت من طرف بعض أعضاء الأحزاب نفسها) سيثير المزيد من المتاعب للمعارضة، التي وقعت في مأزق عدم الموازنة بين القضايا الوطنية الكبرى وبين تسجيل المواقف السياسية في مرمى الخصم السياسي. وهذا الموقف من شأنه أن يكرس العلاقات الشخصية بالسلطات العامة على حساب العلاقة المؤسساتية والحزبية، خاصة مع أولئك الذين سجلوا على خلفية هذه القضية مواقف ضد أحزابهم وانتقدوها في تعاملهم مع الإشكالية.
إجمالا، يمكن القول أن الرجة العنيفة التي تسببت بها المواجهات الدائرة في محافظة صعدة الشمالية لا يمكن أن تنتهي عبر الحسم العسكري وحده، بل تتطلب معالجات ذات أبعاد مختلفة، أولها التركيز على دخول القرار الحكومي الصادر مؤخرا والقاضي بإخضاع التعليم الديني للإشراف الحكومي حيز التطبيق، ثم البحث عن الأسباب الحقيقية للتشدد والتطرف الديني في البلاد ومعالجتها.
عبد الكريم سلام – صنعاء
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.