نار النفط .. هل تشعل حرباً باردة جديدة؟
بعض الناس في الولايات المتحدة يخشون التهديد الاقتصادي الذي تمثله الصين .. والبعض الآخر يرتعد من فكرة النفط مرتفع الثمن.
والصين، بمهارة صانع الحرائق المتعمدة، تعمد الآن إلى صب الزيت على لهيب مشاعر القلق الأمريكية هذه، فتحوّل هذين الحريقين متوسطي المدى إلى سعير ضخم واحد.
هكذا تحدث الكاتب الأمريكي سيباستيان مالابي في الواشنطن بوست ليوم 27 من شهر يونيو، وهكذا تحدث أيضاً العديد من المحللين والسياسيين والاقتصاديين الأمريكيين الذين أقاموا الدنيا ولم يقعدوها بعد أن علموا بأمر شراء الصين لشركة النفط الأمريكية الضخمة في كاليفورينا “يونوكال” بمبلغ فلكي قدره 18،5 مليار دولار.
وهكذا تقاطعت فجأة حول هذه الصفقة (مع ردود الفعل الأمريكية عليها) جملة مسائل عديدة بين الصين وأمريكا، تمحورت كلها حول قضيتين قد تكونان الأخطر في القرن الحادي والعشرين. الأولى، بروز بلاد الهان كقوة عظمى منافسة للولايات المتحدة ومتصارعة معها في إطار حرب باردة جديدة. والثانية، السباق على موارد الطاقة المتناقصة بسرعة.
فأول من تطرق إلى هذه الأبعاد الخطيرة والمعقدة، كان وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد، الذي أطلق مؤخراً تصريحات مجلجلة في سنغافورة، أعلن فيها للمرة الأولى أن قدرات بايجينغ الصاروخية والبحرية والجوية، باتت تهدد موازين القوى، ليس فقط في حوض آسيا – المحيط الهادي، بل أيضاَ في كل العالم.
كما أطلق رامسفيلد ما يمكن أن يكون توجّهاً جديداً في تلك المنطقة الحيوية، قد تستبدل واشنطن بموجبه سياسة “الشراكة الإستراتيجية” الراهنة مع الصين بـ “المجابهة الإستراتيجية”.
لكن مهلاً: ألا يُـحتمل أن تكون تصريحات رامسفيلد مجرّد حرب سيكولوجية هدفها الردع السياسي والتخويف الدبلوماسي؟ لماذا إذن القفز إلى استنتاجات متسرّعة من هذا النوع الثقيل المتعلق بالحروب الباردة؟
ربما كان في الأمر مبالغة ما بالفعل، لو كانت صرخات رامسفيلد مجرد عاصفة رعدية في سماء صافية. لكن الصورة ليست كذلك.
تحذيرات متتالية
فقبل قنبلة وزير الدفاع الأمريكي في سنغافورة بوقت غير قصير، كان العديد من الباحثين والسياسيين وأصحاب القرار الأمريكيين يفجّـرون بدورهم قنابل صوتية قوية تتوقع هي الأخرى اندلاع لهيب المجابهة بين واشنطن وبايجينغ.
وعلى سبيل المثال، في أوائل شهر يونيو، نشرت “أتلانتيك مانثلي” الأمريكية دراسة مطوّلة لمنّظّـر المحافظين الجدد، روبرت كابلان، شدّد فيها على أن الحرب الباردة باتت حتمية بين البلدين بسبب رغبة الصين في تحقيق تطلعاتها ومصالحها كقوة كبرى صاعدة من جهة، ولرفض الدولة العظمى، أمريكا، التخلي لأي كان عن بعض مناطق نفوذها العالمي من جهة أخرى.
و”إذا ما وضعنا في الاعتبار (يضيف كابلان) ما يعلمنا إياه التاريخ عن النزاعات التي تنشب عادة بين الدول الكبرى، سنتأكد حينها أن النتيجة ستكون إما حرباً أمريكية ساخنة كبيرة مع الصين، أو سلسلة من المجابهات على نمط الحرب الباردة التي ستستمر لعقود طويلة”.
هكذا تكلم كبلان. لكنه لم يكن البلبل المغرّد الوحيد بلغة الحرب، إذ سبقته دورية “فورين أفيرز” الرزينة لتحذّر للمرة الأولى من أن “انتقال القوة من الغرب إلى الشرق، يحث الخطى بشكل سريع وسيغيّر قريبا على نحو درامي، إطار التعاطي مع التحديات الدولية. العديد في الغرب واعون سلفاً لنمو قوة الصين، بيد أن هذا الوعي لم يُـترجم نفسه إلى استعداد، وهنا يكمُـن مكمَـن الخطر بأن تكرر القوى الغربية أخطاء الماضي”.
كما كتب ستيفن راوش في “فاينانشال تايمز”: “الصين تقود الطريق في سباق التنمية الاقتصادية، وتدشن نوعاً آخرا أوسع وأقوى من العولمة. إنها بدأت تهدد التفوق الأمريكي، وهذا أمر لن تقبل به واشنطن، وسترد عليه بـ “شتى الأسلحة”.
سيف وسكاكين
هل باتت الصورة واضحة؟ يفترض ذلك، وهي تشير إلى أن صليل سيف رامسفيلد في سنغافورة، لم يكن سوى رجع صدى لحشرجة شحذ السكاكين في واشنطن، وهذا أمر سيتأكد على أي حال، حين يصدر البنتاغون، خلال أسابيع، الوثيقة الإستراتيجية الجديدة، التي يُـنتظر أن تعلن بوضوح أن الصين أصبحت التهديد الأول للأمن القومي الأمريكي في آسيا – المحيط الهادي والعالم، وحينها سينسى العالم صفحة الحرب الباردة السوفييتية – الأمريكية القديمة ليبدأ قراءة صفحات عدة جديدة من الحرب الباردة الصينية – الأمريكية.
هذه المسألة الأخيرة ستُـصبح في حكم المؤكّـد حين نضع بعين الاعتبار مسألة السباق المحموم على النفط والموارد بين الصين والولايات المتحدة، وهو سباق انضم إليه مؤخراً عملاق آسيوي آخر هو الهند.
ففي شهر أبريل الماضي، نشرت دروية “فار إيست أيكونوميست ريفيو” الإستراتيجية المتخصصة بآسيا، دراسة مطوّلة كشفت فيها النقاب عن أن العملاقين،الصيني والهندي، باتا يسندان كل توجهاتهما الإستراتيجية العالمية إلى أمرين إثنين: حاجاتهما المتنامية بشكل هائل من الطاقة، وأمن هذه الطاقة.
هذه الخلاصة تؤكدها بالفعل المعطيات الرئيسة الآتية:
1- تحديث القوة العسكرية البحرية الصينية والهندية الذي بدأ مؤخراً، يخدم هدفاً حيوياً وحيداً: أمن إمدادات النفط. ووفق أرقام وزارة الطاقة الأمريكية، أصبحت الهند الآن سادس أكبر مستهلك للطاقة، فيما أضحت الصين منذ فترة غير قصيرة ثاني أكبر مستورد لها بعد الولايات المتحدة. استهلاك الهند من الطاقة سيرتفع قريباً إلى 27،1%، وهو أعلى رقم استهلاك بعد الصين، ومعظم هذا الطلب سيُـلبى من مستوردات الغاز الطبيعي المسيّـل والنفط من الشرق الأوسط بواسطة الناقلات. ومن شأن وجود بحرية هندية قوية أن تضمن سلامة القوافل إبّـان الأزمات مع باكستان أو مع منافسين إقليميين آخرين.
2- رغم وجود كميات كافية من احتياطي الفحم المحلي في البلدين، إلا أنه ليس هناك ما يكفي من احتياطي النفط والغاز. وبالتالي، يتطلع صناع القرار في الصين والهند بشكل متزايد إلى الخارج لمواجهة نقص الطاقة.
3- بات النفط يلعب الدور الأهم في مداولات السياسة الخارجية لدى الطرفين. فتأمين خطوط الشحن أصبح هدف حاسما لكلا العاصمتين لضمان عدم قطع إمدادات الطاقة. وكما هو معروف، تأتي أكثر من 50% من واردات النفط الصينية من الشرق الأوسط عبر المحيط الهندي. كما أن 80% من كل واردات النفط الصيني تمر قرب السواحل الجنوبية الهندية عبر مضيق مالاكا. وطبيعي بعد ذلك، أن تسعى الصين لأن يكون لها وجود بحري قوي في المنطقة لضمان سلامة الحاملات الناقلة للنفط، وهي تشعر بقلق من احتمال قيام الولايات المتحدة (ولاحقاً في وقت ما) الهند بعرقلة هذه الإمدادات الحيوية.
4- أخيراً، شركات النفط الهندية والصينية متورطتان في سباق محموم لتأمين موارد الطاقة عالمياً. الصين بدأت الاستثمار بكثافة في التسعينات، فيما الهند تعتبر لاعباً جديداً نسبياً في هذا المجال. ففي عام 2005 حصلت هذه الأخيرة على حصة 20% من تطوير أضخم حقل بحري إيراني، وهي تسعى للحصول على حصص مماثلة في السودان وروسيا. بيد أن الصين متفوقة تماماً على الهند. فهي الآن أكبر مستهلك للنفط السوداني والإيراني، إذ استثمرت بكثافة في هذا القطاع، خاصة في السودان منذ بداية التسعينات. وكلا البلدين يستكشف الفرص في دول أخرى منتجة للنفط في العالم، بما في ذلك الأمريكيتين، الأمر الذي قد يضعهما في النهاية في مواجهة الولايات المتحدة.
ماذا تعني كل هذه التطورات؟ شيئاً واحداً: الصينيون والهنود قادمون حتماً إلى الشرق الأوسط، سواء تم ذلك عبر بوابة مضائق آسيا الوسطى أو ثغر خلجان المحيط الهندي. وحين يفعلون (وهم بدءوا يفعلون ) بالفعل.
صراعات جديدة
هل هذه الأخبار مفرحة للمنطقة العربية؟ كلا، على الأقل، على المديين القصير والمتوسط.
لماذا؟ لأسباب عدة، أبرزها أن تركيز واشنطن على بايجينغ لن يؤدي أبداَ إلى غياب “نقاط الضوء الصغيرة” العربية عن شاشة رادارها. فهنا كان وما يزال النفط، الذي كان ولا يزال المحور الحقيقي لكل صراعات الدول الكبرى وتنافساتها. وهنا، كانت وما تزال “بؤرة الإرهاب” التي بنت على أساسها الولايات المتحدة كل قواعد حربها العالمية الجديدة.
إضافة غلى ذلك، فإن احتمال التراجع النسبي لاهتمام واشنطن بالشرق الأوسط، لن يسفر عن تقدم سياسات أمريكية أكثر توازناً بالنسبة للعرب. العكس قد يكون صحيحاً، حيث قد تندفع الولايات المتحدة إلى الاعتماد أكثر على القوة الإسرائيلية لضبط إيقاع المنطقة، تماماً كما فعلت طيلة حقبة الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي حين كانت الدولة العبرية توصف بأنها “الكنز الاستراتيجي” الرئيسي لأمريكا.
مثل هذا التطور بات أكثر احتمالا حتى الآن بعد النكسة الكبرى التي أصابت المشروع الوحدوي الأوروبي، والتي ستُـسفر لا محالة عن ضعف النفوذ الأوروبي إلى حد كبير في الشرق الأوسط. وبالطبع، إسرائيل أكثر من جاهزة لملء الفراغ الأوروبي المحتمل، خاصة في منطقة الهلال الخصيب.
هذه قد تكون الصورة على المديين القصير والمتوسط، أما على المدى الطويل، فالأمور ستعتمد على المدى الذي ستصل إليه المجابهة الباردة الصينية – الأمريكية. وبرغم أنه من الصعب التكهن بأبعاد هذا التطور، إلا أنه يمكن القول بكل ثقة أن منطقة آسيا الوسطى – الشرق الأوسط ستدخل ضمن إطار هذه المجابهات بسبب الجوع الكبير الذي يشعر به العملاق الصيني لإمدادات الطاقة في هذه المنطقة.
وهنا، ثمة نبوءة أطلقتها “الأيكونومسيت” في أواخر القرن العشرين حين توقعت قيام تحالف تاريخي – حضاري كبير بين الصينيين والمسلمين في عشرينيات القرن الحادي والعشرين، ينطلق من آسيا الوسطى ليجابه أمريكا والغرب في كل مكان وبكل أنواع الأسلحة المتوافرة.
هل هي نبوءة خيالية لا أساس لها؟ ليس بالضرورة. فحروب أمريكا الساخنة الراهنة في الشرق الأوسط، والباردة لاحقاً في الشرق الأقصى، ستضع الصينيين والمسلمين في مرحلة ما(!) في زورق واحد ما(!).
وحين يحدث ذلك، إذا ما قُـدر له أن يحدث، ستنضم “نقاط الضوء الصغيرة” العربية إلى نقاط الصورة العامة الصينية لتشدنا مرحلة “جديدة – قديمة” في التاريخ الإنساني: مرحلة تنتقم فيها الحضارات الشرقية القديمة من 500 سنة من هيمنة وعربدة الحضارة الغربية الجديدة.
سعد محيو – بيروت
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.