“نحو حرب عالمية رابعة؟”
يعتبر الباحث الإستراتيجي باسكال بونيفاس من الخبراء الفرنسيين البارزين في العلاقات الدولية.
فهو مدير “معهد الأبحاث الدولية والإستراتيجية” في باريس، ومؤلف كتُـب عديدة عن العلاقات بين الشرق والغرب والصراع العربي الإسرائيلي، وآخر مؤلفاته كتاب “نحو حرب عالمية رابعة؟”. حوار خاص.
ناقش الباحث بونيفاس في مؤلفه الأخير “نحو حرب عالمية رابعة؟” أطروحات المحافظين الجدد في الولايات المتحدة التي تعتبر الحرب الراهنة على الإرهاب بمثابة حرب كونية رابعة.
بونيفاس شخصية مثيرة للجدل. فقد أشعلت كتاباته عن الصراع في الشرق الأوسط معركة حامية الوطيس مع السفير الإسرائيلي في باريس، وحشد من المثقفين المؤيدين للحركة الصهيونية الذين اتّـهموه بمعاداة السامية وأجبروه على الإستقالة من قيادة الحزب الإشتراكي الفرنسي، الذي كان يتولى فيه حقيبة العلاقات الدولية.
كما حاولوا حمله على الإستقالة أيضا من إدارة “معهد الأبحاث الدولية والإستراتيجية” بعد استقالة عضوين من مجلس الإدارة “احتجاجا على مواقف مديره اللاسامية” كما وصفاها. غير أنه حافظ على منصبه، بل وأصدر كتابا جريئا سماه “هل من الجائز نقد اسرائيل؟” أثار بدوره موجة جديدة من ردود الفعل المؤيدة والغاضبة.
ويعرض المؤلف في حوار خاص مع “سويس أنفو” أبرز الأفكار التي تضمنها كتابه الجديد.
سويس إنفو: من يقرأ عنوان كتابك الجديد، يتوقع أننا على أبواب حرب عالمية رابعة، ما مبررات هذه الحرب؟
باسكال بونيفاس: ظهر مفهوم الحرب العالمية الرابعة في كتابات المحافظين الجدد الأمريكيين منذ نحو ثلاث سنوات. فهم يزعمون أن تلك الحرب اندلعت بعد، وأن العالم غرق في أوحالها. الغريب هنا هو أننا نعلم الحربين الأوليين، أما الثالثة فهي، في نظرهم، الحرب الباردة التي انتصر فيها الغرب على المعسكر السوفياتي السابق. وبناء على ذلك، فنحن اليوم، حسب تحليلهم، في أوج الحرب الرابعة، وتترتب على ذلك طبعا عدة استخلاصات من بينها:
أولا، أن الخلافات مع زعيم المعسكر الغربي، أي الولايات المتحدة، يجب أن تصبح ثانوية، وإذا كانت هناك خلافات بين الدول الأوروبية، فعليها أن تضع لها حدّا كي لا تنال من هيبة الزعامة الأمريكية.
ثانيا، علينا أن نتحلّـى بالصبر، مادامت الحرب العالمية الثالثة التي لم تطلق خلالها رصاصة واحدة استمرت قرابة خمسة عقود.
ثالثا، إذا ما قارنا الحرب الثالثة بالرابعة التي هي ضد الإرهاب، نُـدرك أن الأخيرة لا معنى لها، لأن الحرب السابقة بين الشرق والغرب لم تكن حربا بالمعنى الحقيقي، إذ أن الغرب كسبها بناء على المقارنة والمفاضلة بين نظامين، وفي إطار مرجعية مشتركة بمعنى ما. فقد اتفق الروس والأمريكيون على وضع حد لسباق التسلح ومناطق النفوذ، وهو اتفاق لا يمكن أن يتم في “الحرب على الإرهاب”.
رابعا، كان الطرفان واضحين في الحرب الباردة. فهناك من جهة السوفياتيون على اختلاف مراتبهم، ومن الجهة المقابلة غير السوفياتيين. أما اليوم، فهل نستطيع أن نحدَد من هو “معسكر الإرهاب”؟ قطعا لا، فليس لديه منطقة نفوذ واضحة ولا مرجعية محددة، بل إن الأسلحة المستخدمة اليوم في الحرب ضد الإرهاب لن تنفع المعسكر الغربي. فقد كلفته اعتداءات 11 سبتمبر2003، 100 مليون دولار، لكن النفقات العسكرية الأمريكية الإضافية بعد تلك الإعتدات، ارتفعت إلى 150 مليون دولار.
أما اعتداءات مدريد، فكلَفت 10 ملايين دولارا، بينما بلغت كُـلفة اعتداءات بالي في أندونيسيا 50 مليون دولار، وبالتالي، نلاحظ أن استخدام وسائل محدودة نسبيا يمكن أن تسبَب صدمة نفسية قوية جدا. ومن هنا، نستنتج أن المقارنة لا تستقيم، وأنه يراد جرَنا إلى حرب لا نهاية لها كي تعزز الهيمنة الأمريكية على العالم، والتي تلتقي مع ما قاله غورباتشوف للغرب في سنة 1987 “سنقدم لكم خدمة، سنحرمكم من عدوَ”.
وفعلا لم يعد هناك خطر سوفياتي، خصوصا بالنسبة لألمانيا التي هي نموذج واضح لهذا التحول. لكن الثقافة الأمريكية بوصفها النموذج، سيطرت على العالم بما فيه أوروبا…
أعتقد أن البلدان الأوروبية أصبحت أقل اعتمادا على أمريكا سياسيا، وهي تستعيد سيادتها شيئا فشيئا. فكل حركتها منذ انهيار جدار برلين تخضع لمسار استقلالي تجاه الولايات المتحدة، وهذا الأمر بات أوضح اليوم. فالتبعية التي توخّـاها رئيس الوزراء البريطاني توني بلير تجاه الأمريكيين كانت لها انعكاساتها الإنتخابية الواضحة عليه وعلى حزبه، وزادت الأمور تعكيرا مع التفجيرات الأخيرة في قطار الأنفاق في لندن. كذلك الشأن في إسبانيا، حيث خسر أزنار الإنتخابات، كما أن برلوسكوني مهدّد بالمصير نفسه لو لم يختر وجهة أخرى.
صحيح أن هناك نزعات استقلالية متزايدة لدى الأوروبيين، لكن ألا يشكل خطر الإرهاب الذي يهدد جميع البلدان الغربية، مثلما أظهرت ذلك تفجيرات لندن، عامل تقارب لتوحيد الصف مع أمريكا بوش؟
في أعقاب انهيار الشيوعية ظهرت ثلاثة أنواع من الأخطار الواحد بعد الآخر وقد ترافقت مع خطابات متباينة، لكنها تلتقي في البحث عن عدو بديل للشيوعية المهزومة.
ففي بواكير التسعينات، اتجهت الأنظار إلى “الخطر الآتي من الجنوب”، وبناء عليه، حصلت إعادة صياغة للخطر الإستراتيجي استوجبت توجيه فوهات الدبابات والصواريخ المتجهة شرقا نحو الجنوب، واعتبرت حرب العراق نموذجا لهذا التعديل الإستراتيجي.
هكذا بدا الجنوب بالمفهوم الإقتصادي حاقدا على الشمال، وطبقا لتلك النظرية كان هناك “جنوب” متبلور يجمع بين إفريقيا الجنوبية والبرازيل والصين في تحالف استراتيجي، وهذا طبعا كلام بلا معنى. فهو بقايا رؤية عنصرية، تعتمد على تقسيم العالم إلى “شمال” و”جنوب” وفقا لخط البحر المتوسط.
وعندما اكتشفوا أن هذه الرؤية سخيفة، استبدلوها بأخرى أسبغوا عليها مسحة “فلسفية” مع ظهور نظرية صامويل هنتنغتن عن صراع الحضارات. وطبقا لهنتنغتن، فإن حدود الإسلام دموية وناشرة للخطر.
فإذا كانت الحروب التي اندلعت بين الأيديولوجيات في القرنين التاسع عشر والعشرين وضعت الأمم وجها لوجه، فإن حروب القرن الحادي والعشرين ستضع الحضارات وجها لوجه. وقد استند على حرب الخليج الثانية (1990 – 1991) لكي يُـبرهن على أن حدود الإسلام “دموية” وعلى أنه “أعنف من الديانات الأخرى”، وبالتالي، فلابد من الوصول إلى الصِّـدام بين الحضارة الغربية المسيطرة من جهة والإسلام المتمدَد، لكن الواقع تحت الهيمنة من جهة ثانية.
سويس إنفو: وهل هناك عناصر موضوعية تدعم هذه القراءة حسب رأيك؟
بونيفاس: يظهر من استعراض وقائع القرن العشرين أن الإسلام لم يكن له ضلع في الحربين العالميتين، ولا في ظاهرة “الغولاغ” الروسي أو “الغولاغ” الصيني، ولا في مذابح كامبوديا أو رواندا. كما أن استقراء التاريخ يؤكّـد أن الإسلام لم يخترع السِّـباق من أجل التسلح، ولم يصنع كارثة هيروشيما…
ومن هنا، فلا يجوز أن نُـضفي عليه طابعا أكثر عنفا من الحضارات الأخرى، وإلا فإنها تكون عملية ضحك على الذقون.
مع ذلك، سارع هنتنغتن لتوظيف حرب الخليج الثانية من أجل تأكيد أطروحته رغم أنها لم تكن حربا بين الإسلام والعالم الغربي، بل كانت، في المنطلق، بين بلدين عربيين: العراق والكويت. وخلال الحرب، تشكّـل تحالف دولي لتحرير الكويت ضمّ بلدانا مختلفة، من فرنسا إلى مصر، ومن السينغال إلى السعودية وسوريا، وهذا ما يُـثبت تهافت النظريات الأمريكية حول صراع الحضارات.
لكن ذلك لم يمنع من أن تلك النظريات مازالت تستهوي نخبا كثيرة حتى في بلدان الجنوب…
صحيح أن “الصدام بين الحضارات” أصبح الفكرة المحورية لنظرية العلاقات الدولية في العقد الأخير من القرن العشرين. فلم يعد يعقد مؤتمر دولي إلا وكانت هي في قلب المناقشات، لكن لم تتعرض نظرية للنقد والرفض مثلما تعرّضت له هذه النظرية. هذه مفارقة أولى، أما الثانية، فهي الجنوح للتعميم، إذ علينا الحذر من اعتبار الصِّـدام حتميا بين العالمين، الإسلامي والغربي المسيحي.
التاريخ بالنسبة للحضارات تماما مثلما هو الشأن بالنسبة للدول ليس مكتوبا سلفا. إنه من صنع البشر والشعوب والقادة. وأعتقد أن هنتنغتن لو كتب ما كتب في الخمسينات، لقال بحتمية الصِّـدام بين الألمان والفرنسيين بحكم قيام ثلاث حروب بينهم (1870 و1914 و1939). لكن ما نراه اليوم هو العكس.
سويس إنفو: ما هو موقع الصراع العربي – الإسرائيلي في رؤيتك وفي الرؤية الأمريكية؟
بونيسفاس: عندما باشرت الدراسات الإستراتيجية قبل عشرين عاما، كان هذا الصراع واحدا من النزاعات العالمية التي يستخدمها الشرق والغرب كل من زاوية مصالحه مع وجود جذور إقليمية له. لم يكن يختلف عن النزاعات في أمريكا اللاتينية أو إفريقيا. لكنه غدا اليوم في قلب قضية صراع الحضارات. ومع ذلك، لم يخصص له هنتنغتن سوى أربعين سطرا من أصل 650 صفحة كي يقول إن وضع الفلسطينيين مُـشابه لوضع الإسرائيليين.
وإذا كان يُـعاب على السياسة الأمريكية في مناطق عدة من العالم قلة الحزم والسلبية، فإن ما يؤاخذ عليه الأمريكيون في النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي ليس سلبيتهم، وإنما تواطؤهم مع إسرائيل. فلو لم يحصل الإسرائيليون على ضمانات سياسية وعسكرية ومالية من الولايات المتحدة، لما تجاسروا على المُـضي في سياسة القوة وتحدّي الشرعية الدولية.
وبرأيي، هذا الصراع هو المحك، فإن وُضِـع على سكّـة الحل، تفادينا صِـدام الحضارات، وإن استمر في الإستفحال بالوتيرة الحالية، فإننا نتقدم بثبات نحو هاوية الصِّـدام.
رشيد خشانة – سويس انفو – تونس العاصمة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.