نحو معادلة عسكرية جديدة فى الشرق الأوسط ؟
قد لا توجد أبدا إجابة نهائية وحاسمة حول السؤال الذي يتداوله الجميع: من الذي انتصر فى حرب لبنان؟
لكن بعيدا عن السجال القائم، شهدت تلك الحرب تطورات ميدانية قاسية، تشير القراءة الأولية لدلالاتها، إلى أن هناك معادلة عسكرية جديدة “قيد التشكيل” فى منطقة الشرق الأوسط.
قد لاتوجد أبدا إجابة نهائية حول سؤال: من انتصر فى حرب لبنان؟، إذ كان مفهوما منذ البداية أن المصطلحات التقليدية للنصر والهزيمة لاتنطبق على مثل هذه الحروب ” غير المتماثلة”، وأن الحرب سوف تنتهى بمساحة رمادية يمكن أن يعتبر كل طرف فى ظلها أنه حقق نصرا ” إستراتيجيا”، وهو ماحدث، لكن بعيدا عن ذلك، شهدت تلك الحرب تطورات ميدانية قاسية، تشير القراءة الأولية لدلالاتها، إلى أن هناك معادلة عسكرية جديدة ” قيد التشكيل” فى منطقة الشرق الأوسط.
لقد بدأ الطرفان لعبة الحرب فى لبنان وإسرائيل بثقة شديدة فى أنهما سوف يحققان مايمكن أن يعتبر انتصارا بالمعنى المعروف فى الصراعات، فلدى حزب الله تجربة ساحقة فى دحر القوات الإسرائيلية عام 2000، ولدى إسرائيل مااعتقدت أنه قوة عسكرية قاهرة، ثم بدأ الجانبان يواجهان الحقائق الصعبة فى الميدان، لينكمش مفهوم النصر فى اتجاه إستراتيجيات غير محددة كتحجيم حزب الله من جانب والصمود للنهاية على الجانب الآخر، قبل أن يرهق الطرفان عسكريا لدرجة قررا معها “الاكتفاء” بما تحقق، فقد كان كل منهما يقدر أن ماهو قادم قد يكون الأسوأ، لذا قبل الطرفان وقف إطلاق النار.
حدث بالفعل
بعد أن توقف إطلاق النار، واجهت إسرائيل واحدا من أعقد الأوضاع العسكرية فى تاريخها القصير، فقد كانت قد تعرضت من قبل لعدة صدمات مربكة عبر حروب الماضى، رغم انتصاراتها العسكرية فى معظمها، إذ أجبرت عن التراجع عن أرض احتلتها عام 1956 بضغط دولى، لتفكر بعدها فى أنها يجب أن تثق فقط فى قوتها الذاتية كملاذ نهائى، كما أن قدرتها على تكبيد عدة دول عربية هزيمة ساحقة عام 1967 لم تؤد إلى “استسلام عربى”، وتمكنت القوات المصرية والسورية من مفاجأتها بقوة عام 1973، وتحقيق أول انتصار عربى ضدها، كما خاضت حربا مربكة دفعتها إلى تغيير نظريتها الأمنية عام 1982، رغم تمكنها من محاصرة عاصمة عربية لأول مرة.
فى كل تلك الحروب، باستثناء حرب أكتوبر 1973، كان أداء إسرائيل العسكرى مقبولا من وجهة نظرها، لكن المشكلة كانت تتركز فى أن قياداتها السياسية لم تقدر وزن الضغط الدولى، أو عمق المشاعر الوطنية، أو قدرات الطرف الآخر، أو حدود القوة المسلحة، إلا أن ماحدث فى حرب لبنان كان مختلفا تماما، فقد كان الأداء العسكرى الإسرائيلى ذاته يواجه أكثر الاختبارات حدة، وكانت النتيجة ” كارثية” حسب التحليلات الإسرائيلية ذاتها، فماتحقق فى النهاية كان مرتبطا بالفجوة الطبيعية فى موازين القوة الهائلة، وليس بفعل أداء القوات الإسرائيلية فى المعركة وفقا لمبادئ الحرب.
إن القوات الجوية الإسرائيلية، وهى ذراع إسرائيل الطويلة، لم تتمكن من حسم المعركة رغم قيامها بتدمير كل هدف يحمل شبهة عسكرية فى لبنان، كما تم التردد طويلا فى استخدام القوات البرية، التى واجهت مقاومة مفزعة من جانب عناصر حزب الله، ولم تحقق إنجازا حقيقيا إلا فى نهاية الحرب عندما تم الدفع بحوالى 30 ألف عنصر منها، كما أن أسلحة إسرائيل المتطورة مثل ” الدبابة ميركافا” قد فقدت حصانتها، وتم إسقاط طائرة هليوكبتر مسلحة، واستهداف زورق حربى، والنتيجة هى تأكيد أمام وسائل الإعلام الدولية بحدود قدرة إسرائيل العسكرية، وبأن ثمة أوهاما لاأساس لها، فإسرائيل يمكن أن تمس بشدة.
الأكثر أهمية، هو أن صواريخ كاتيوشا التى تعد سلاحا تكتيكيا لامعنى له بمنطق الحروب النظامية، قد اخترق أجواء إسرائيل بصورة غير مسبوقة، وتسبب فى إحداث تأثير نفسى مفزع فى الداخل الإسرائيلى، كما كانت هناك أسئلة بدون إجابة حول قدرة الاستخبارات الإسرائيلية على اكتشاف مايدور حولها، وقدرة إسرائيل على ممارسة أساليب الحروب الحديثة، المرتبطة ببعد فضائى، مع عناصر حزب الله، لكن الأهم أن القوات الإسرائيلية لم تقم بأية عملية يمكن أن تعتبر انعكاسا لفكرة الجيش الصغير الذكى الذى أعد نفسه جيدا لحروب المستقبل، واضطرت إسرائيل إلى القيام بعمليات عنيفة عسكريا غير مبررة سياسيا، كأى جيش بدائى، والنتيجة هى أن مستقبل الدولة فى المنطقة أصبح مرة أخرى محل نقاش.
إن إسرائيل بالطبع، تمثل قوة لايستهان بها، فهى لم تقم بتعبئة سوى 30 ألف عنصر من قواتها البالغة فى حالة الطوارئ القصوى 650 ألف جندى، وقد تمكنت من فرض موقف يتمثل فى دفع حزب الله ( ولو مؤقتا) إلى شمال الليطانى، وهو مايمثل إنجازا لها، وربما تمكنت من تكبيد حزب الله خسائر مادية وبشرية بدرجة ما، لكن الفكرة الأساسية هنا هى أن نظرية أمن إسرائيل قد انهارت، ووضح أن من الممكن إيذائها بشدة، ولم يتمكن جيشها من التصرف بالاحترافية التى كانت متصورة، وأنها لايمكن أن تضرب بدون ثمن أو أن تفرض أمرا واقعا بلانهاية، فإسرائيل والأطراف الإقليمية قد أدركت أن لقوتها حدودا، وأنه يمكن المساس بها بأسلحة وأساليب بسيطة، وسوف يغير ذلك كثير من العقائد العسكرية فى الفترة القادمة.
المخاطرة القصوى
بعد وقف إطلاق النار أيضا، واجه حزب الله نفس المأزق العسكرى الذى واجهته إسرائيل، لكنه بطريقة ما كان قادرا على تجاوزه ( ولو مؤقتا)، فقد قامت عناصر حزب الله بإنجاز عسكرى اعتبره الشارع العربى غير مسبوق، بل أن السيد حسن نصر الله نفسه أكد أن عناصره حققت مالم تحققه الجيوش النظامية العربية، فقد تمكنت تلك العناصر بالفعل من القيام بعمليات نوعية، كقصف الزورق المسلح ” سعر”، وإسقاط طائرة هليوكبتر مسلحة وإغراق إسرائيل بصواريخ الكاتيوشا، وتدمير دبابات ميركافا المتطورة، وتكبيد القوات البرية الإسرائيلية خسائر كبيرة، والصمود حتى النهاية، بل تحقيق مااعتبر عربيا انتصارا تاريخيا.
لقد أدت إدارة حزب الله لمعركته مع إسرائيل إلى سيطرة اتجاهات فى الشارع العربى تؤكد أن المقاومة هى السبيل الرئيسى لإدارة الصراع مع إسرائيل، فالسبل الأخرى ( المقصود المفاوضات) لم تحقق شيئا، بل أن تيارات وشخصيات عربية ذات ثقل قد دعت لحل الجيوش العربية النظامية واستبدالها بميليشيات شبه عسكرية يدربها حزب الله، وتحول السيد حسن نصر الله إلى زعيم ” كاريزمى” عربى على غرار جمال عبد الناصر، وهو مامثل فى الحقيقة توجها شعبيا عاما، يتجاهل أيضا حقيقتان :
1 – أن كل عمليات حزب الله كانت تكتسب طابعا رمزيا شديد الأهمية، لكنها من الناحية العملياتية تخضع للنقاش، فتدمير زورق لم ينه حصار إسرائيل البحرى للبنان وإسقاط طائرة لم يؤثر فى السيطرة الجوية الإسرائيلية، ومن بين كل 100 صاروخ كاتيوشا كان صاروخ واحد يؤدى إلى نتائج محددة، ولم يتم تدمير أعداد كبيرة من دبابات ميركافا، ولم تصل خسائر الجنود الإسرائيليين إلى الحد الذى يتجاوز خسائر التدريب المعتادة فى الجيوش، فقد كان أداء حزب الله فائقا، لكنه لم يمنع احتلال جنوب لبنان، إذ كانت هناك أيضا حدودا لقوة وأساليب حزب الله.
2 – أن قائمة الحسابات الختامية كانت تمس مباشرة مسألة التدمير الذى تعرضت له بنية الدولة اللبنانية، فمن الممكن لأية جماعة داخل أية دولة أن تقوم بأعمالا بطولية، ولن يتم التمكن من استهدافها بحكم طبيعة تشكيلها، لكن حجم الخسائر التى ستتكبدها الدولة نتيجة مثل تلك الأعمال قد يكون هائلا، ولو أن هناك قيادة واحدة تتحكم فى قرار الحرب وقرار السلام معا، ربما كانت ستدخل فى اعتباراتها خسائر الدولة، وليس مجرد خسائر العناصر المسلحة، كجزء من المعادلة، ومن هنا تأتى خطورة النقاش الدائر فى المنطقة.
لقد تمكن حزب الله بالفعل من تحقيق إنجاز عسكري كبير، لكنه ليس “غير مسبوق”، فهناك حرب أكتوبر 1973، التى كبد فيها جندى واحد اسمه “عبد العاطى” إسرائيل خسائر فى الدبابات بأكثر مما فعلت عناصر حزب الله ( 36 دبابة)، كما أنه تحقق بثمن هائل لحق ببنية الدولة اللبنانية، وفى النهاية تراجع إلى شمال الليطانى، وواجه مواقف حرجة مع الطوائف اللبنانية الأخرى، وكان عليه فى النهاية أن يفسر ماحدث، وأن يحاول تعويض اللبنانيين عما لحق بهم، وأن يحاول تجاوز فكرة صعبة، وهى أن تلك الحرب كلها لم تنشب لاعتبارات غير لبنانية، وإن كان قد أثبت – وهو المهم بالنسبة للمعادلات العسكرية التالية – أن من الممكن مواجهة إسرائيل بأساليب أبسط مما يمكن أن يتخيله أحد، وأن هناك عناصر ضعف قاتلة فى بنية إسرائيل أيضا.
النهاية المحيرة
إن العنصر الأخير فى المعادلة يرتبط بالقضية الأهم التى لايمكن تجنب مناقشتها، وهى نتيجة المعركة، فطالما أن القوة المسلحة تستخدم لتنفيذ مهام عسكرية، وتحقيق أهداف سياسية، سيكون على كل دولة أن تدرس ماحدث جيدا، وماجرى هو أن الطرفين المباشرين للحرب ( حكومة إسرائيل وحزب الله) لم يستقبلا بأكاليل الغار فى بلديهما، بل على العكس يواجه كل منهما حسابا عسيرا معلنا أو غير معلن، عاجلا أو مؤجلا، فمن يشن حرب يمكنه أن يكون واثقا بأنه سيدفع ثمنا، حتى لو كان يعتقد أنه انتصر، أو على الأقل حقق أهدافا معقولة. فاحتفالات النصر جرت فى أماكن أخرى غير لبنان الجريح وإسرائيل المنكسرة.
لقد سبب هذا الموقف المحير ارتباكا لدى معظم المحللين، وأدى إلى إفراز تعبيرات جديدة، كالقول بأن أحدا لم ينتصر، وهناك فقط مستويات من الهزيمة، أو أنها حالة من اللانصر واللاهزيمة، أو أن إسرائيل لم تنصر وحزب الله لم يهزم، أو العكس. وقد ترك البعض الحكم على النتيجة للمستقبل القريب، على أساس أن من يخسر سياسيا داخل دولته، يفترض أن الخاسر عسكريا بأثر رجعى.
لكن بعيدا عن تقييمات أطراف العملية ذاتها، أو التيارات السياسية المنفعلة، أو الرأى العام المتحمس، أو الحكومات المصابة بالدوار، يعتبر الدرس الأساسى الذى سيمثل جوهر المعادلة الجديدة على خريطة الإقليم العسكرية، فى أن كل دولة سيكون عليها أن تعيد التفكير فى مسألة استخدام القوة العسكرية من الأساس، أيا كانت تقديراتها الأولية، وهو نفس درس حرب العراق 2003، الذى كان بحاجة إلى التأكيد على ساحة الاختبار اللبنانية.
المشكلة هنا أن تاريخ الشرق الأوسط يفيد بأن هذا الدرس تحديدا لا يتم تعلمه، ففى الغالب لن تتوقف الصدامات المسلحة فى الإقليم، إذ عادة مايعتبر كل طرف مقدم على مشكلة أنه يتعامل مع “حالة خاصة”، لكن أحدا لن يمكنه تجاهل ماحدث فى حرب لبنان.
د. محمد عبد السلام – القاهرة
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.