نزيف الجامعات العراقية .. مستمر
في زمن قريب مضى، كان مستوى الدراسات الجامعية العراقية متقدما على باقي الأقطار العربية، وكان الطلاب العرب يقصدونها بحثا عن العلم والمعرفة في جامعات بغداد ومعاهد العراق.
لكن، تغيّـرت الصورة تماما اليوم، وباتت الجامعات العراقية بعيدة إلى حد كبير عن قيّـم الحياة الأكاديمية وأجواء البحث العلمي.
من بين الظواهر الجديدة الطارئة على الوسط الجامعي العراقي، ظاهرة اختطاف وقتل الأساتذة الجامعيين، وهي ظاهرة طالت أعدادا كبيرة من الباحثين والأساتذة، وأجبرت آخرين كثيرين على مغادرة العراق بحثا عن الأمان بعيدا عن القلق ومسلسل الرعب الدامي الذي طال زملاءهم.
ويكشف الدكتور عصام الراوي، رئيس رابطة الأساتذة الجامعيين النقاب عن أن عمليات الاغتيال البشعة طالت قرابة 250 أستاذا جامعيا يعملون في مختلف الاختصاصات العلمية، وفي جميع أنحاء البلاد، مشيرا إلى أنها كانت من الشمولية والاتساع، بحيث لم تترك فصيلا سياسيا أو انتماء قوميا أو دينيا إلا وشملته، بمعنى أنها ليست موجهة إلى أساتذة جامعيين من انتماء سياسي أو عرقي أو ديني بذاته.
ويقول الدكتور طاهر البكاء، وزير التعليم العالي والبحث العلمي: “إن الاغتيالات شملت أساتذة من اختصاصات مختلفة، بمعنى أنها لم تقتصر على الأساتذة الذين ينتمون لحزب البعث، حيث طالت عددا كبيرا من الأساتذة البعثيين وغير البعثيين، كما امتدت لأساتذة مستقلّـين بعيدين تماما عن العمل السياسي”.
ويلفت البكاء الأنظار إلى حقيقة خطيرة، مفادها أن جميع حوادث الاغتيال التي طالت العلماء العراقيين سُـجّـلت ضد مجهول، بمعنى أن الأجهزة الأمنية العراقية لم تتمكّـن من تحديد الجهات المنفّـذة لهذه العمليات الإجرامية، مشيرا إلى إمكانية ضلوع جهات داخلية وأخرى خارجية في هذه الحوادث، كما أن بعض الحالات يعود إلى مجرد عداوات شخصية.
ويمضي الدكتور عصام الراوي ليُـعدّد جوانب أخرى من المأساة العراقية في هذا الصدد، فيقول: “إن تزايد الحالات التي شملتها ظاهرة القتل دفعت أكثر من ألف أستاذ جامعي وباحث أكاديمي إلى مغادرة العراق”، موضحا أن الهدف، ربما يكون إفراغ العراق من علمائه وأساتذته الذين كان يُـشار إليهم بالبنان، بل إن الدكتور الراوي يؤكّـد أنه ما من سبب آخر يمكن تأشيره دافعا لكل عمليات الاغتيال والاختطاف التي جرت منذ احتلال بغداد وحتى اليوم.
قتل وخطف الأساتذة
وقد أسّـس عصام الراوي، الأكاديمي العراقي بمساعدة عدد من زملائه منذ العام الماضي رابطة علمية تُـعنى بأوضاع الأساتذة الجامعيين وتدافع عن مصالحهم، وخاصة بعد أن طالت سياسات الاجتثاث والإقصاء أعدادا كبيرة جدا بلغت بضعة آلاف من الأكاديميين العراقيين وحرمتهم من التدريس في الجامعات والمعاهد، وقطعت أرزاقهم بدعوى الانتماء إلى حزب البعث العربي الاشتراكي.
ويشير الراوي إلى تفاقم حالات استهداف العقول والكفاءات العراقية من جهات مجهولة الهوية والأهداف في ظل فشل حكومة إياد علاوي المؤقتة، في السيطرة على الأوضاع وعدم قدرتها على ضبطها في البلاد عموما، وفي الجامعات على نحو خاص.
ويقول: “إن هذه الظاهرة تمثل نزيفا وهدرا مقصودا للثروة الوطنية والكفاءات العلمية”، مشيرا إلى أن الأشهر الثلاثة الأخيرة شهدت اغتيال عدد من الأساتذة بطرق مختلفة، من بينهم الدكتور أحمد عبد الهادي الراوي وزوجته، وهو خبير مرموق في علم التربة اللذين قتلتهما القوات الأمريكية في مدينة الرمادي، بينما كانا يهمان بمغادرة جامعتها، والدكتور سعدي داغر من أكاديمية الفنون الجميلة، والدكتور علي المالكي، أستاذ العلوم السياسية، والدكتور باسم المدرس، الخبير الكيميائي في أحد معامل الأدوية، والدكتور محمد العبادي، معاون مدير إحدى المستشفيات، والأستاذ صلاح البندر، أحد المدرسين في بغداد. وبالطبع، فإن الأسابيع الأخيرة شهدت أيضا عمليات اغتيال لعدد من علماء الدين من السنة والشيعة معا.
ويروي الدكتور عصام الراوي قصة اختطاف الدكتور عبد الهادي الهيتي، رئيس جامعة الأنبار، الذي اختطف عندما داهمت مجموعة من المسلحين مباني رئاسة الجامعة، واقتحمت مكتب رئيس الجامعة الذي اختطفته من مكتبه الرسمي وأمام نظر الجهات المكلفة بالحماية والطلاب. (وقد أفرج الخاطفون عنه مؤخرا).
كما جرت محاولات عديدة لاغتيال وخطف أساتذة جامعيين آخرين، من بينهم ما تعرض إليه الدكتور خالد الجودي، رئيس جامعة النهرين الذي حاولت القوات الأمريكية اغتياله، فأصابته وقتلت سائقه.
ونتيجة لتدهور الأوضاع الأمنية، والتهديدات بالقتل التي طالت عددا من كبار الأساتذة الجامعيين والباحثين الأكاديميين، اضطر عدد كبير من تلك الكفاءات المهنية والعلمية إلى مغادرة العراق بحثا عن الطمأنينة، حتى بلغ عدد هؤلاء أكثر من ألف أستاذ وباحث.
ويقول الدكتور طاهر البكاء، وزير التعليم العالي والبحث العلمي: “إن هذه المشكلة كارثة حقيقية تهدّد الواقع التعليمي والبحث العلمي في العراق”. وعن تصوره بشأن العام الدراسي المقبل في ظل التدهور الأمني، يقول البكاء “إن ضبط الأمن بشكل عام، هو من اختصاص الجهات الأمنية، لأننا لا نستطيع توفير الأمن والحماية للمدرسين كافة”، واعتبر البكاء حالات الخطف والاغتيال التي تطول الباحثين والعلماء، بأنها تصُـبّ في خانة التخريب والتآمر على العراق.
واجهات سياسية وصراعات حزبية
برغم كل التأكيدات الرسمية الصادرة من وزارة التعليم العالي والبحث العلمي التي تتولّـى إدارة الجامعات والمعاهد الرسمية والإشراف على الكليات الخاصة بضرورة ان يكون الحرم الجامعي وسائر المؤسسات التعليمية الأخرى بعيدة تماما عن محاولات الكسب السياسي والحزبي، إلا أن الذي يتجوّل في أروقة المؤسسات الجامعية العراقية هذه الأيام، يشهد حالة من الفوضى لم يألفها الوسط التعليمي العراقي من ذي قبل بعد عقود من الآحادية في الرؤية السياسية.
وتتمثل هذه الظواهر في انتشار الشعارات الحزبية، وصور قادة الأحزاب العاملة في العراق حاليا، وأعضاء الحكومة المؤقتة، والمرجعيات الدينية البارزة، فضلا عن أن بعض التشكيلات السياسية تحاول نقل فعالياتها الحزبية إلى الجامعات من خلال إقامة نشاطاتها بين الطلبة في جهد مقصود وبرنامج واضح على ما يبدو، دون أن يكون ثمة ما يمنع ذلك، بسبب ضعف السلطة الرسمية وقوة بعض الجهات الحزبية التي تحاول نشر مفاهيمها بين صفوف الطلبة، بعيدا عن روح البحث العلمي التي يجب أن تسود الجامعات والمعاهد.
من جهة أخرى، يشهد الحرم الجامعي نقاشات سياسية موسعة، وإقامة ندوات للكسب الحزبي ولترويج الأفكار الطائفية الضيقة، ومع أن الظاهرة تعتبر طبيعية إلى حد كبير في بلد عانى لعقود طويلة من الكبت السياسي والقمع الأمني إلا أن تلك النقاشات (التي كان بعضها محتدما جدا بين الطلبة وزملائهم، وبينهم وأساتذتهم)، قد أدت إلى نشوب صراعات سياسية ألحقت – حسب العديد من الجامعيين – أفدح الأضرار بالعملية التربوية والبحث العلمي، برغم أن وزير التعليم العالي العراقي يؤكّـد على أن من بين أهم الواجبات الملقاة على عاتق وزارته، “حماية الحرم الجامعي من الروح الحزبية والدعايات الطائفية التي تُـخرّب نسيج المجتمع”.
تدمير المؤسسات وعزوف الأساتذة
من بين المشاكل الكبيرة التي تعاني منها المؤسسات العلمية العراقية، حالات التخريب والسرقات الكبيرة التي طالت عددا غير قليل منها، فضلا عن الدمار الذي ألحقته الحرب الأمريكية ضد العراق بها.
يقول الدكتور البكاء إنه خلال الحرب وبعدها، تم إتلاف الكثير من الأبنية الجامعية وإحراقها بعد سرقة مستلزماتها، كاشفا أن أكاديمية الفنون الجميلة في جامعة بغداد كانت الأكثر تعرضا للأضرار، كما بلغت نسبة التخريب في الأبنية الجامعية في محافظات الوسط والجنوب وبغداد، حسب الوزير العراقي، اكثر من 84%. ويكشف البكاء حقيقة أن التخصيصات المالية الممنوحة لقطاع التعليم العالي بائسة جدا، مما يجعل عمليات إعادة الإعمار بطيئة للغاية.
ويفصح المسؤول العراقي عن أن الكثير من الأبنية الجامعية ما تزال مدمرة، كما أن عددا من المختبرات العلمية الجامعية والمكتبات تفتقر إلى الأجهزة والكتب والمراجع التي تمّـت سرقتها في أعقاب الاحتلال، كما أن الكثير من غرف الأساتذة تفتقر إلى المكاتب والكراسي وأجهزة التبريد.
وبالتأكيد، فإن الظروف الأمنية السيئة، والأوضاع المادية الصعبة من أهم الأسباب التي تؤدي إلى عزوف كثيرين من الأساتذة العراقيين الموجودين في الخارج عن العودة إلى بلدهم، كما أن التعيينات في الجامعات مجمّـدة من قبل وزارة المالية، وعلى من يرغب بالعودة، الانتظار لحين توفير التخصيصات المالية والدرجات الوظيفية، وهو أمر مشكوك بتحققه قريبا.
مصطفى كامل ـ بغداد
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.