نـحـو الــحــريــة..
بعد طول انتظار، صدر تقرير التنمية الإنسانية العربية الثالث مستعرضا أزمة الحرية في العالم العربي ما بين "قمع داخلي وتسلط خارجي".
ويضع نشر التقرير، تحت إشراف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، حدا لجدل وتشكيك حول إمكانية وقف صدوره بعد الاحتجاجات التي أثارتها دول عربية وأجنبية حول ما ورد فيه.
بعد تقريرين سابقين حول التنمية الإنسانية في العالم العربي، خصصا لتشخيص أزمات العالم العربي في مجالات المعرفة والحقوق السياسية وحقوق المرأة، تم نشر التقرير الثالث الذي ركز على أوضاع الحريات وشروط الحكم الصالح في المنطقة العربية يوم 5 أبريل 2005 بعد نصف عام من التأخير.
ما بين نقص ونقص فادح
بعد استعراض تقرير التنمية الإنسانية لوضع الحريات في العالم العربي، وخاصة ما يتعلق منها بالحريات المدنية والسياسية، خلص معدو التقرير (وكلهم من المثقفين والخبراء العرب)، الى أن مستوى التمتع بها يتدنى بدرجات متفاوتة في كل البلدان العربية.
ويرى التقرير ان تمتع المواطن العربي بالحرية (حتى عند استثناء القهر الخارجي)، مستهدف من قبل سلطتين: “سلطة الأنظمة غير الديمقراطية، وسلطة التقليد والقبيلة المتسترة بالدين أحيانا”.
أما حرية الرأي والتعبير والإبداع، فتعرف وجوها من الكبت والقمع في معظم البلدان العربية ما عدى استثناءات قليلة، وهو ما دفع التقرير الى الاستعانة بالوصف الذي أطلقته منظمة مراسلون بلا حدود على المنطقة العربية حيث اعتبرتها “ثاني أكبر سجن للصحفيين في العالم”.
وفي هذا السياق، يرى التقرير ان قرار وزراء الداخلية العرب لعام 2003 الخاص بمحاربة الإرهاب “سوف لن يعمل إلا على فرض مزيد من القيود على حرية الرأي والتعبير وعلى باقي حقوق الإنسان”.
ويرى تقرير التنمية البشرية أن المنطقة العربية عرفت ارتفاعا في نسب المساس بالحق في الحياة مع تكاثر ظاهرة محاربة الإرهاب، وأن أغلب الدول لا تقدم بيانات كافية عن هذه الحالات.
ومن بين أقسى أشكال الإقصاء التي عثر عليها معدو التقرير في بعض التشريعات العربية، تلك التي “تخول لمسؤول إداري دون مستوى وزير، إمكانية سحب الجنسية” من المواطن العربي، أي أن له الحق في “إقصائك خارج المواطنة”.
وإذا كان المواطن العربي مستهدفا عموما في حرياته، فإن المواطنة العربية تعاني من تمييز مزدوج، سواء فيما يتعلق بمساواتها مع الرجل او في مساواتها من قبل القانون، في مجال قوانين الأحوال الشخصية او فيما يتعلق بالعنف في الوسط العائلي.
حرية بلا حركات سياسية تدافع عنها
يضع تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2004 الأصبع على الجرح، عندما يشير الى أسباب تعثر المسيرة الديمقراطية في العالم العربي، ويخص بالذكر “معاناة المجتمعات العربية من قلة حضور حركات سياسية عربية ذات عمق جماهيري واسع تناضل من أجل الحرية”.
وفيما يرفض معدو التقرير الذرائع التي يقدمها البعض من خلال الزعم بأن “العرب والمسلمين لا يمكن أن يكونوا ديمقراطيين”، إلا أنهم ينتهون إلى أن السبب الرئيسي لإخفاق عملية التحول الديمقراطي في العديد من الأقطار العربية، “لا يرجع الى مسائل ثقافية بقدر ما هو تعبير عن تضافر بنى اجتماعية وسياسية واقتصادية عملت على غياب أو تغييب القوى الاجتماعية والسياسية المنظمة القادرة على استغلال أزمة النظم التسلطية والشمولية، وبالتالي، الى افتقار الحركة الديمقراطية الى قوة دفع حقيقية”، مثلما جاء في نص التقرير.
ومن بين المبررات التي يقدمها البعض للتنصل من الالتزام باحترام هذه الحقوق، يتطرق التقرير إلى ظاهرة التستر وراء “الخصوصية” للانتقاص من قوة القانون الدولي. ويشير إلى أن بعض البلدان التي تجرؤ على تضمين دساتيرها بعض الحقوق، تلتجئ الى “استصدار قوانين لمصادرتها، خصوصا فيما يتعلق بحرية الرأي والتعبير والفكر والمعتقد والاجتماع السلمي، وتكوين الجمعيات”، وهي حقوق تزخر بها نصوص الدساتير في جل الدول العربية.
من الخصوصيات التي يبدو أن العالم العربي (أو جل دوله) أصبح ينفرد بها اليوم الترويج لما يسمى بـ”فخ الانتخاب لمرة واحدة”، إما بدعوى سد الطريق بوجه التيارات الإسلامية أو بمبرر منع التدخل الأجنبي، ويتم ذلك بالتحذير من أن التنافس الديمقراطي سيكون أمرا منتهيا بعد تلك المرة الوحيدة التي يتاح فيها تنافس الجميع على أصوات الناخبين.
وإذا كان التقريران السابقان قد أرغما قادة الدول العربية على الاعتراف علانية في قمة تونس (مايو 2004) بأن هناك افتقارا للديمقراطية في بلدانهم، شريطة أن يتركوهم يُـدخلون الإصلاحات من الداخل، فإن ما يمكن استخلاصه من التقرير الحالي هو أن أسس انظمة الحكم الحالية في جل الدول العربية، وباستثناءات طفيفة، لا تسمح بقيام حركة إصلاحية حقيقية إذا لم تعمل على إفساح مجال الحريات بشكل عملي يسمح للمواطن بالمشاركة في صياغة تلك الإصلاحات المرجوة.
ضغوط ومكاسب
نشير في الأخير إلى أن تقرير التنمية الانسانية الثالث كاد أن يذهب ضحية ضغوط بعض الدول التي لم ترقها بعض المقاطع منه، خصوصا تلك التي تطرقت لتأثيرات احتلال العراق على أوضاع حقوق الانسان في المنطقة العربية، او تلك التي أشارت الى ظاهرة توريث السلطة في بعض البلدان العربية.
ولئن حاول الخبراء الذي قدموا التقرير مؤخرا في قصر الأمم في جنيف (ومن بينهم محمد الشرفي وزير التعليم التونسي السابق) إرجاع ذلك الى “جدل أكاديمي بين الخبراء للتوصل الى صياغة مقبولة أمميا”، فإن التأخير المسجل في إصدار التقرير يعكس جدية هذه الخلافات التي كادت أن تضع حدا لتجربة رائدة في كشف الحقائق أمام العرب عن واقعهم بدون تجميل او تحريف.
ويمكن تلمس هذه الجدية من خلال مراجعة الفقرة المتعلقة بـ “تداعيات احتلال العراق على التنمية الإنسانية”. حيث تم تفادي إطلاق أية أوصاف فيها والاكتفاء بسرد الحقائق بعد أن كان لب الخلاف يدور في الصيغ السابقة حول تداعيات هذا الاحتلال: هل هي “مدمرة” أم “كارثية”؟؟.
ولعل ما يمكن اعتباره مكسبا هو عدم الرضوخ لكل الضغوط التي مورست على معدي التقرير ومتبنيه، حيث أعلن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي مواصلة الإشراف على إصدار تقارير التنمية الإنسانية العربية في المستقبل، وتقرر تخصيص تقرير العام المقبل لأوضاع المرأة في العالم العربي.
محمد شريف – سويس إنفو – جنيف
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.