نـزيـف صامت في المغرب العربي
تعاني منطقة المغرب العربي من هجرة العقول واليد العاملة المتخصصة إلى كل من الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوربي إلى حد إطلاق جهات وصف "النزيف" عليها.
وقد تزداد هذه الهجرة “النخبوية” تفاقما جراء العولمة ونظرا لعدم توفر مناخ علمي مناسب في البلدان الأصلية، مثلما جاء في تقرير للمنظمة العالمية للهجرة.
يقدر تقرير الهجرة المخصص للبلدان العربية الصادر عن المنظمة العالمية للهجرة بالاشتراك مع الجامعة العربية، عدد الإطارات المتعلمة التي هاجرت من البلدان النامية واستقرت في البلدان الأعضاء في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية بأكثر من ستة ملايين شخص.
ويشير التقرير إلى أن القارة الإفريقية فقدت – رغم ضعف أنظمة التعليم الجامعي فيها -في الفترة الفاصلة ما بين عامي 1985 و 1990 أكثر من 60 ألف متخصص (من أطباء ومهندسين وأساتذة جامعيين وغيرهم)، ولا زال النزيف مستمرا إلى حد الآن بمعدل عشرين ألف متخصص جامعي سنويا.
وتفيد بعض الإحصائيات الواردة في التقرير أن أكثر من 21 ألف طبيب نيجيري يزاولون مهنتهم في الولايات المتحدة الأمريكية في الوقت الذي تعاني فيه بلادهم من نقص في الأطباء. كما تشير أرقام أخرى إلى أن 60% من الأطباء الغانيين الذين تلقوا تعليمهم في بلدهم الأصلي يقيمون في الخارج.
أما بالنسبة للسودان يؤكد التقرير أن إطارات البلد المتخصصة التي تعيش في الخارج تقدر بـ 17% من الأطباء، و 20 % من أطباء الأسنان، و20 % من الأساتذة الجامعيين، و 30% من المهندسين، و 45% من مهندسي الطوبوغرافيا.
نزيف مستمر في الجزائر
أما فيما يتعلق ببلدان الشمال الإفريقي، تكفي الإشارة إلى أن أحد مراكز الأبحاث الفرنسية يستقطب بمفرده أكثر من 1600 إطار مغاربي، من بينهم 700 مغربي، و500 جزائري، و450 تونسي، للتدليل على خطورة الظاهرة التي تتفاقم من عام لآخر.
وفي معرض الحديث عن الجزائر، اعتبر التقرير أن هذا البلد (الذي يناقش فيه الرأي العام منذ نهاية الثمانينيات الظاهرة بشكل علني) يشكل أهم مثال حول هجرة العقول في العالم العربي. أما الأخطر في الحالة الجزائرية، فهو أن هذه الظاهرة لا زالت في تعاظم مستمر خصوصا وأن الإجراءات البيروقراطية تحول دون عودة هذه العقول إلى بلدها الأصلي.
وكثيرا ما تعزى هجرة العقول في الجزائر إلى فشل طرق الإدارة التي مارستها كل من الدولة والجامعة والقطاع الخاص ويضيف إليها البعض التوظيف السياسي لهذه المشكلة. وقد تم تحديد ثلاثة مراحل لهجرة العقول الجزائرية:
مرحلة 1962-1975: كانت فيها نسبة العقول المهاجرة عادية باستثناء الأطباء الذين هاجروا لممارسة مهنتهم في القطاع الخاص. وحينها كانت معظم العقول المهاجرة من المعارضين السياسيين الذين استقر القسم الأكبر منهم في فرنسا.
مرحلة 1975-1986: شهدت إرسال أعداد كبيرة من الإطارات العليا إلى الخارج لمواصلة التكوين على نفقة الدولة. وقد تم توسيع رقعة البلدان المستقبلة حيث شملت الولايات المتحدة الأمريكية وكندا إضافة إلى بريطانيا وبلجيكا واليابان.
مرحلة ما بعد 1986: وهي المرحلة التي شهدت ذروة الصراع الاجتماعي والسياسي في البلاد، وقد هاجر فيها كثيرون بمن فيهم الذين تابعوا كل مراحل تعليمهم في الجزائر. وتفيد بعض التقارير أن ثلث أساتذة الرياضيات قد هاجروا في هذه الفترة وعاد جزء كبير منهم إلى البلدان التي تلقوا فيها تكوينهم العالي.
وقد أدى التزامن المسجل بين تفاقم ظاهرة هجرة العقول الجزائرية وشروع الجامعات ومؤسسات القطاع الخاص في الجزائر في الاهتمام بالبحث العلمي والتكنولوجي، إلى إطلاق البعض وصف “النزيف” على ما يحدث.
المغرب يدفع الثمن
في المغرب الأقصى، تقول الأرقام أن تكوين إطار مختص يكلف المجموعة الوطنية ما يعادل 160 ألف درهم مغربي، لذلك تحولت معضلة تأهيل الجامعات المغربية لإطارات تستفيد منها الولايات المتحدة الأمريكية وكندا والبلدان الأوربية إلى مشكلة مزمنة جراء تزايد هجرة الخبراء والأخصائيين المغاربة في قطاع الاتصالات.
ففي إحدى الحالات، استقطبت شركة اجنبية بمفردها في عام 1999، اكثر من 600 خبير من خيرة الأخصائيين المغاربة في مجال تكنولوجيا الاتصالات. كما أظهرت دراسة أجريت في نفس العام أن 88،7% من الطلبة الدارسين في الخارج لا يرغبون في العودة بالمرة إلى المغرب لعدة أسباب من بينها: طريقة التفكير “المتخلفة” داخل المجتمع، ونقص الشفافية في النظام الاجتماعي والاقتصادي، وعدم توفر فرص عمل ملائمة لمستوى التكوين، وضعف الأجور، حسبما جاء في الدراسة.
ويعتبر المغرب من أكثر البلدان النامية تأثرا بهجرة اليد العاملة المتخصصة في مجال تكنولوجيا الاتصالات، بحيث يهاجر للخارج ما بين 50 و 70 % من خريجي معهد المهندسين بالمحمدية أو المعهد الوطني للبريد والاتصالات. وفي نفس الوقت يحتاج المغرب كباقي البلدان النامية التي تعاني من هجرة الأدمغة، إلى تعويض النقص بكفاءات أجنبية تُدفع أجورها بالعملة الصعبة. وهو ما يمثل على مستوى القارة الإفريقية حوالي 100 ألف خبير، ويكلف دولها أكثر من أربعة مليار دولار سنويا.
ظاهرة قد تزداد تعقيدا
إذا كانت هذه العينة تعكس عمق المشكلة المطروحة بالنسبة لبلدان تعاني منذ فترة من نقص في النمو، فإن الخلاصة التي يصل إليها التقرير، وخاصة فيما يتعلق بهجرة العقول من بلدان المغرب العربي، تنبئ بما هو أسوأ.
ومن بين الأسباب التي يعتقد معدو التقرير أنها قد تزيد من حدة الظاهرة: اتساع مجالات العولمة، والإنفتاح المتسارع للأسواق. وفي هذا السياق، يشير التقرير إلى ظاهرة انتقال ميادين البحث العلمي من القطاع العمومي الوطني إلى أيدي القطاع الخاص العالمي، وهو ما من شأنه أن يقضي على حظوظ عودة إطارات دول الجنوب إلى بلدانها الأصلية بعد اختتام تكوينها في جامعات الغرب. ويحذر التقرير من أنه بدون عودة هذه العقول إلى بلدانها الأصلية فلن يكون هناك ترويج للمعرفة ونقل للتكنولوجيا باتجاه دول الجنوب.
أما العامل الثاني المشجع على هجرة العقول من الجنوب باتجاه الشمال، فيتمثل في التغيير الذي طرأ على أساليب استقطاب بلدان الشمال لليد العاملة المتخصصة في مجال تكنولوجيا الاتصالات لتعويض النقص لديها حيث لجأت إلى اتباع النموذج الأمريكي في مجال هجرة الخبراء والمتخصصين الذي ساهم في تحقيق تقدم علمي واقتصادي ملفت خلال العقد الأخير في الولايات المتحدة.
أخيرا، يعتبر هذا التنافس الذي اندلع مؤخرا بين بلدان الشمال من أجل استجلاب الأدمغة والكفاءات من بلدان الجنوب (أظهرت إحصائيات عام 2003 وجود نقص في الأخصائيين في تكنولوجيا المعلومات في أوربا بحوالي مليون وسبعمائة ألف شخص) ظاهرة جديدة على أهم الدول الأوربية التي كانت، بحكم ماضيها الاستعماري، حريصة (إلى عهد قريب) على مراعاة بعض الجوانب المتعلقة بتنمية بلدان العالم الثالث.
محمد شريف – سويس إنفو – جنيف
متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على arabic@swissinfo.ch.